تطرح الجلسة المؤجّلة التي دعا إليها رئيس مجلس النواب في 19 تشرين الثاني المقبل إشكالية دستورية تتضارب الأقوال حول مدى دستوريتها، وذلك انطلاقاً من المادة 32 من الدستور التي تنصّ صراحة على التالي: «يجتمع المجلس في كل سنة في عقدين عاديين (...) والعقد الثاني يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول وتُخصص جلساته للبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كل عمل آخر وتدوم مدة العقد إلى آخر السنة»• سنعالج هذا الموضوع بشكل منفصل بغضّ النظر عن مسألة جواز التشريع في ظل حكومة مستقيلة.
(هيثم الموسوي)

من الواضح أن العقد الثاني يجب أن تُخصص جلساته لمناقشة وإقرار الموازنة العامة «قبل كل عمل آخر» ما قد يعني أن مجلس النواب لا يحقّ له قبل الانتهاء من الموازنة البحث في أي اقتراح أو مشروع قانون، وبالتالي يصبح إدراج قوانين عادية في الجلسة التشريعية المقبلة موضع شك جدي في مدى دستوريتها، لا سيما وأن الحكومة قبل استقالتها، ولأول مرة منذ فترة طويلة، عمدت إلى إحالة مشروع الموازنة في المهل التي حدّدها الدستور أي أن مجلس النواب استلمها وبات لزاماً عليه إقرارها.
تكمن أهمية هذا النص في فرادته، كونه لا يوجد نص مماثل له في القوانين الدستورية للجمهورية الثالثة الفرنسية، أي لا يمكن لنا مقارنة هذه الفقرة بالممارسة الفرنسية التي كانت سائدة حينها بل علينا الاعتماد حصراً على التجربة اللبنانية.
تخلو محاضر المجلس التمثيلي عند إقرار الدستور سنة 1926 من أي إشارة تُظهر لنا نية المشترع عند إقرار هذه المادة، لكن محضر جلسة 13 تشرين الأول 1927 المخصّصة لتعديل الدستور ينقل إلينا النقاش التالي حول تعديل المادة 32:
«ارسلان: إذا بقي العقد لآخر السنة وانتهى المجلس من درس الميزانية قبل نهاية السنة، ألا يجوز له أن يدرس مشاريع أخرى؟
الرئيس (الشيخ محمد الجسر): نعم يجوز. القصد أن الميزانية تُدرس قبل كل عمل آخر».
لم يثر موقف الرئيس أي اعتراض لا بل إن عدداً من النواب كرّر تعبير «دورة الموازنة» للإشارة إلى دورة تشرين، فما كان من حبيب السعد إلا أن اعترض قائلاً «لا يوجد عقد مخصص للموازنة. نعم لقد نص الدستور على أن العقد الأول (يقصد عقد تشرين) تُقدم فيه الموازنة على سواها. ولكن لو انتهى المجلس من الموازنة ألا يجوز له أن يبحث في سواها؟» (محضر جلسة 14 تشرين الأول 1927).
بات من الواضح أن المقصود هو منع مناقشة أي قانون قبل الانتهاء من الموازنة إذ الغموض لدى النواب لم يكن يتعلق بهذه النقطة بل بجواز إقرار قوانين مختلفة في عقد تشرين عقب الفراغ من التصويت على الموازنة. وما يؤكد هذا الأمر هو النص الأصلي للمادة 32 قبل تعديلها سنة 1926 إذ كانت تنص على أن عقد تشرين يدوم ستين يوماً فقط بينما مع تعديل 1927 تم تمديده إلى نهاية السنة. لذلك طالب النائب شبل دموس سنة 1926 بتعديل المادة «وإعطاء المجلس حق تمديد دورة الموازنة إذا لم يرد ذلك في الموادّ الأخرى» (محضر جلسة 20 أيار 1926). ما يشي أن العقد كان يُعتبر مخصصاً فقط للموازنة التي تحتاج إلى ستين يوماً من أجل مناقشتها وإقرارها ما يفسر سبب تساؤل بعض النواب عن جواز التشريع في المدة الزمنية الإضافية التي تم إقرارها سنة 1927.
إن هذا الوضوح سرعان ما يتبدّد كون مجلس النواب نفسه خالف هذا التفسير سنة 1928. فمشروع موازنة سنة 1929 تمت إحالته إلى المجلس في 29 أيلول 1928 بينما المناقشة لم تبدأ إلا في 28 كانون الأول من السنة نفسها، لكن مجلس النواب عقد جلستين تشريعيتين قبل جلسة 28 كانون الأول وقد ناقش وأقر خلالهما مجموعة متنوّعة من القوانين.
كتاب ادمون ربّاط عن الدستور اللبناني جاء خالياً من التعليقات حول ضرورة إقرار الموازنة قبل أيّ عمل آخر


وهكذا يتبين لنا أن مجلس النواب لم يعتبر أن دراسة الموازنة تفرض عليه تعليق اختصاصه التشريعي، وبالفعل سيقوم المجلس أكثر من مرة منذ سنة 1926 وحتى اليوم بإقرار قوانين خلال عقد تشرين قبل التصويت على الموازنة.
لكن الالتباس يعود مجدداً لكن هذه المرة من خلال المادة 53 من النظام الداخلي القديم الذي أقره مجلس النواب سنة 1953 إذ تنص المادة صراحة على التالي: «يدرس المجلس في دورته العادية الأولى كل ما لديه من المشاريع والمواضيع بصورة عامة وتُخصص الدورة العادية الثانية لدرس الموازنة أولاً ثم بعد إقرارها تدرس المواضيع الأخرى أما الدورات الاستثنائية فتُخصص لدرس المواضيع التي يحددها مرسوم الدعوة».
وقد أثير الموضوع في جلسة 31 كانون الثاني 1961 إذ اعترض النائب منير أبو فاضل على مناقشة تعديل قانون البلديات قائلاً: «عطوفة الرئيس، أعتقد أنه بموجب المادة 86 من الدستور والمادة 53 من النظام الداخلي لا يمكننا قطعياً أن ندرس أي موضوع قبل إقرار الموازنة، لأن المادة صريحة في هذا الأمر (...) نحن اليوم بصدد درس الموازنة فلنصوّت على ما درسناه ونقر الموازنة بكاملها وبعد ذلك نتمكن من درس المشاريع، لذلك أطلب إقرار الموازنة قبل أي مشروع آخر». فما كان من الرئيس صبري حمادة إلا أن أجابه مؤيداً «حضرة الزميل، إن المادة التي تلوتها تتعلق بالموازنة العامة وحق الأولوية من دون شك لدرس الموازنة، أما وقد صدّق المجلس الموازنة العامة وكذلك صدّق الموازنات الخاصة ولم يبق إلا التصديق على محضر الجلسة فبإمكان المجلس بناءً على نصوص هذه المواد وتمشّياً مع التقليد المتبع أن يتابع درس هذا الموضوع...».
إن وضوح نص المادة 53 لا يتطلب منا أي تفسير إضافي. وقد علّق إدمون رباط على هذه المادة كاتباً: «مما يعني إذن أنه لا يحق للمجلس في دورته العادية الثانية أن يتناقش بأي موضوع، قبل أن ينتهي من إقرار الموازنة» (الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار العلم للملايين، بيروت، 1970، ص. 646). ويكرر رباط الفكرة ذاتها قائلاً إن المبدأ هو اعتبار مجلس النواب سيد جدول أعماله «وذلك طبعاً في حدوده المرسومة في الدستور من جهة دورة الخريف العادية المخصّصة لدرس الموازنة» (ص. 647).
سنة 1982 تم إقرار نظام داخلي جديد لمجلس النواب ومن خلال تفحصه يتبين لنا أنه جاء خالياً من مادة مشابهة للمادة 53 من النظام القديم، وقد استمر الوضع على حاله حتى اليوم. وفي جلسة 19 تشرين الأول 1995 طرح النائب مخايل الضاهر الموضوع مجدداً قائلاً: «قد يقال إن المجلس في ما مضى وقبل التصديق على الموازنة قد شرّع بعض القوانين، غير أن هذه السوابق حصلت في وقت لم تكن هناك عندنا مرجعية بإمكانها أن تراقب دستورية القوانين وبالتالي إلغاءها فيما لو كانت متعارضة مع أحكام الدستور. أما اليوم فالأمر مختلف جداً وقد أُنشئ المجلس الدستوري بموجب التعديلات الدستورية التي حصلت في سنة 1990، وأنيطت به مراقبة دستورية القوانين. إن نص المادة 32 من الدستور صريح جداً ولا مجال للاجتهاد في معرض النص، وهو يمنع المجلس من أن يقوم بأي عمل آخر قبل بحث الموازنة والتصديق عليها، فإذا قرر مجلس النواب خلاف ذلك فلا بد من عرض هذا الأمر على المجلس الدستوري ليأخذ منه الموقف الذي يعتبره هو متوافقاً مع أحكام الدستور فيُبنى على الشيء مقتضاه».
فما كان من الرئيس نبيه بري إلا أن اعترض معتبراً: «جرى العرف في هذا المجلس وفي غيره، وأنت ضليع يا شيخ مخايل وكنت رئيساً لإحدى اللجان النيابية وهي اللجنة المالية التي تعتبر أم اللجان، أنه اثناء درس قوانين الموازنة وبمجرد أن يُطرح هذا الأمر على اللجان يبدأ التشريع بأمور أخرى. لذلك فإن تفسير الرئاسة هو أنها عندما تطرح مناقشة الموازنة وقطع الحساب على الهيئة العامة يمتنع عليها التشريع في أي أمر آخر، لا اجتهادي أنا وقد أكون مخطئاً».
وفي جلسة 4 كانون الأول 2001 كرّر النائب نقولا فتوش الاعتراض نفسه فأجابه الرئيس نبيه بري: «حضرة الزميل الكريم، ليست هذه المرة الأولى أو الثانية التي يثار فيها هذا الموضوع ونرد دائماً عليه بأنه عندما يبدأ المجلس بمناقشة الموازنة لا يعود بإمكانه طرح موضوع آخر. لكن لم يبدأ المجلس بمناقشتها بعد وطرحها في اللجان لا يمنع من طرح أي موضوع. هذا هو التفسير الدستوري الذي نسير نحن عليه». وقد وافق الرئيس حسين الحسيني الرئيس بري معلناً: «أن مناقشة الموازنة في اللجان تأخذ أكثر من شهر عادة وقد تستمر شهرين، لذا من غير المعقول تعطيل أعمال المجلس التشريعية كل هذه المدة، لذلك فإن مجلس النواب منذ أيامنا وقبل ذلك وبعده يسير بهذا الاتجاه وبالتالي فالجلسة صحيحة ولا يوجد أي خطأ». وقد أيّد النائب بطرس حرب هذا التوجه قائلاً إن «هذه القاعدة قد تجاوزناها وحسمها المجلس منذ وقت طويل».
تجدر الإشارة هنا إلى أن كتاب إدمون رباط المرجعي الصادر باللغة الفرنسية عن الدستور اللبناني سنة 1982 جاء خالياً من التعليقات التي نجدها في كتابه الصادر سنة 1970 حول ضرورة إقرار الموازنة قبل أي عمل آخر، إذ يبدو أنه قرّر حذفها من أجل مواكبة ممارسة مجلس النواب الذي عمد بشكل متزايد إلى التشريع في عقد تشرين قبل إقرار الموازنة.
كل هذه الملاحظات والشواهد تجعلنا لا نقطع بانعدام دستورية جلسة 19 تشرين الثاني المقبلة كونها ممارسة قديمة لا علاقة لها بالوضع السياسي الحالي، لكن دستورية الجلسة تبقى موضع شك كبير لأنّ النص الدستوري جلي، وتم تفسيره أكثر من مرة بما يفيد منع المجلس من التشريع قبل الانتهاء من الموازنة رغم مخالفة المجلس منذ سنة 1928 لهذا التوجه. وقد يكون السبب وراء هذه الممارسة المخالفة هو ضرورة عدم تعطيل السلطة التشريعية لفترة طويلة، لا سيما وأن المتتبّع لتاريخ إقرار الموازنات في لبنان سيلاحظ أنه غالباً ما تم التأخر في التصويت عليها، بحيث اضطر المجلس مرات عديدة إلى عقد دورات استثنائية في كانون الثاني بغية الانتهاء منها، ما يفسر الحاجة إلى اعتماد تفسير متساهل للمادة 32.
* أستاذ جامعي