تراكمت وتعددت أسباب اندلاع الانتفاضة الشعبية المتواصلة ابتداءً من مساء السابع عشر من شهر تشرين الأول الماضي. هذه الأسباب ونتائجها المدمِّرة يمكن أن تطلق ثورة كاملة، وليس انتفاضة فحسب، كما حصل ويحصل منذ أكثر من ثلاثة أسابيع. رغم ذلك، فإن المشهد الراهن في لبنان يتجاوز كل تبسيط من نوع أن الصراع القائم، هو، حصرياً، بين سلطة فاسدة ومرتكبة وفاجرة، وأكثرية اللبنانيين من المتضررين من ذلك، ممن يهدّد لقمة عيشهم، بشكل مأسوي، الانهيار الاقتصادي الشامل والمتوقع في أقرب مما يتصور الكثيرون.بكلامٍ آخر، فإن الانتفاضة وحجم الانتفاضة اللذين فاجآ الجميع، بمن فيهم أهل السلطة والمنتفضون أنفسهم، قد تولدت أسبابها من تراكم عناصر الخلل والأخطاء والنهب والفساد وقلة المسؤولية... وبالتالي، تعاظُم المتضررين حتى بلغوا الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني. أطلق ذلك، بعد تراكم وتدرج، حركة احتجاج غير مسبوقة في شموليتها وشعاراتها وتصميمها على المضيّ قدماً حتى تحقيق بعض أو كل أهدافها وفي طليعتها: إزاحة سلطة النهب والفساد والمحاصصة الطائفية، ومحاسبة من سرقوا المال العام وخرّبوا اقتصاد البلد وأفقروا المواطنين ولوّثوا البيئة بكل أشكال النفايات والسموم، وأذلوا المواطن وانتهكوا أبسط حقوقه المتعددة، ووضعوا الأجيال الجديدة أمام خيارات مريرة: التذلل أو البطالة أو الهجرة والتشرد.
رغم ذلك، فالحاضرون في مشهد الصراع الراهن، من داخل البلد ومن خارجه، كُثُر. نبدأ من أن النزاعات والتجاذبات بين أطراف السلطة عديدة وحادة بشأن الحصص في المؤسسات السياسية والإدارية، وكذلك بشأن العديد من الملفات الداخلية والخارجية. الانتفاضة نفسها تعاني من تنوع يبلغ، أحياناً، في ما بين أطرافها، حدّ التباين والتنافر والتناقض. ليس هذا فقط، بل إن الصراع الإقليمي، بأبعاده الدولية وعناوينه المتعددة، حاضر، أيضاً، وبقوة، في كل ساحات الصراع في المنطقة، بما فيها الساحة اللبنانية على وجه الخصوص.
ليس من الصحيح، تبعاً لذلك، تجاهل الأساسيات المؤثرة في مسار الحدث الراهن: لا في عناصرها الداخلية ولا في عناصرها الخارجية. ثمّ إن عناوين الصراع تتوزع، تبعاً لذلك، ما بين السياسي والاقتصادي والأمني بالمعنى الواسع للكلمة، بشكل عام. إذن في الانتفاضة اللبنانية لاعبون محليون بأهداف محلية سياسية أو اقتصادية – معيشية، وفيها أيضاً لاعبون رسميون محليون بأهداف سياسية محلية وإقليمية، لتعديل التوازنات والسياسات أو لتثبيتها. وفيها لاعبون خارجيون، عرباً وأجانب، معلنون وغير معلنين، بأهداف تتصل، خصوصاً، بنزاعات المنطقة، وفي المقدمة منها الصراع مع العدو الصهيوني الذي يواصل، بدعم أميركي خصوصاً، مخططاً مجرماً لتصفية القضية الفلسطينية والإمعان في التنكر لأبسط حقوق شعبها.
تأكيد تعدّد اللاعبين في مشهد الصراع الراهن في لبنان، هو بسبب بروز اتجاهات تقرأ فيه بشكل مجتزأ أو وحيد الجانب فتجده، مثلاً، داخلياً بالكامل، أو تعتبر الداخل مجرد أداة لتخطيط ومخطط خارجيين، بالكامل أيضاً. وبمعزل عن نيّات طيبة توجِّه بعض من يقرأون هذا النوع من القراءة، لا بد من اعتماد رؤية شاملة ليصحّ بعدها الاستنتاج: فلا يكون محكوماً بالقصور والاقتصار أحياناً، وبالغرضية والشبهة أحياناً أخرى.
امتلاك تقدير موضوعي وشامل للانتفاضة، وللاعبين المحليين والأجانب، هو السبيل الأمثل لصياغة استنتاجات صحيحة


إن الاصرار، مثلاً، على اعتبار العامل الداخلي (أي الصراع بين السلطة والانتفاضة)، هو الوحيد الجدي والمؤثر، يسقط، بشكل تعسفي، كون لبنان حلقة مهمة في حلقات الصراع الدائر في الإقليم، بأبعاد دولية. ثم هو قد يؤدي (بالضرورة غالباً) إلى بناء علاقات وتحالفات واستنتاجات خاطئة ومضرة بمسار ومصير الانتفاضة الشعبية نفسها لجهة التوظيف والنتائج والنهايات. كذلك، فإن اعتبار الانتفاضة، من حيث انطلاقتها وتوجيهها وتوظيفها، مجرد تحريض الخارج ومخططاته، سيكون تكريساً للواقع الخطير الذي يمر به البلد، وإعفاءً أو تجاهلاً ساذجاً أو مغرضاً لأقطاب النهب والفساد وأدواتهما وآلياتهما، ما جعل لبنان أحد أسوأ بلدان العالم لجهة حجم دينه العام على ناتجه الوطني بسبب النهب الفاحش والفاجر الذي تجسده منظومة المحاصصة الطائفية التي باتت تسيطر في لبنان على كل مفاصل الاقتصاد والسياسة والأمن والحياة الاجتماعية والرياضة والفن...
امتلاك تقدير موضوعي وشامل للانتفاضة وأسبابها، وللاعبين والمتدخلين المحليين والأجانب، هو السبيل الأمثل لصياغة استنتاجات صحيحة بشأن طبيعة الصراع من جهة، وحسن صياغة الاستنتاجات، من وجهة نظر مصالح لبنان وأكثرية شعبه وأجياله الجديدة من المنتفضين وكل المتضررين، من جهة ثانية.
بديهي أن القوى الوطنية، قوى التغيير القديمة التقليدية، والجديدة الناشئة من رحم المعاناة والتجارب والمرارة والظلم، مطالبة، جميعها، بصياغة رؤيتها وأولوياتها، وحتى أساليب بقائها وضغطها، وفق التقدير الموضوعي المشار إليه، ومن ثمّ، استناداً الى المصالح الوطنية والشعبية، في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها لبنان والمنطقة.
لا يخفى أن القوى المذكورة، وبعضها ذو تاريخ طويل وتمرس مشهود في الاعتراض والمعارضة للسياسات العامة والاقتصادية، ليست في الوضع المطلوب من التفاعل والتعاون. المحاولات المبذولة لهذا الغرض ما زالت، في غياب مبادرة شاملة من قبل الأطراف أنفسهم أو من قبل بعضهم، تتعثر وكأن شيئاً لم يحدث منذ 17 أكتوبر ــ تشرين الأول الماضي. كذلك، فإن الاستجابة لحوار مُجدٍ يقود إلى الحد الأدنى من وحدة الموقف ما زالت تصطدم بالوقوف عند عدد من الخلافات الجزئية التي تقتضي المرحلة الراهنة بكل صخبها وجديدها وتحدياتها، تخطّيها من دون أدنى تردد.
إن وحدة الموقف بشأن الأزمة الراهنة بين القوى الوطنية واليسارية والديمقراطية، أحزاباً ومنابر ومستقلين، هي أمر في غاية الأهمية من أجل تفعيل دور هذه القوى نفسها، منفردة ومجتمعة، وكذلك من أجل التأثير في الانتفاضة وتحديد برنامجها وأولوياتها، وكذلك، أساساً، من أجل منع استخدامها من قبل جهات غربية (أميركية خصوصاً) وخليجية، لخدمة أهدافها الخاصة في لبنان والمنطقة.

* كاتب وسياسي لبناني