بعد تأخر ملحوظ، صدر بيان عن رئاسة الجمهورية في 30 تشرين الأول المنصرم، اعتبر فيه الحكومة مستقيلة. يطرح هذا البيان مسألة دستورية لا بدّ من معالجتها تتعلق بالصيغة التي تم فيها إعلان استقالة الحكومة، بحيث لم يعلن البيان قبول الاستقالة بل أشار إلى أن الحكومة تعتبر مستقيلة، بحيث انحصر دور رئيس الجمهورية في ملاحظة هذا الأمر من دون أي دور حقيقي له، ما يؤدي إلى الغاء التمايز بين قبول الاستقالة واعتبار الحكومة مستقيلة حكماً.يميّز الدستور في أكثر من مادة بين قبول استقالة الحكومة واعتبارها مستقيلة. فالفقرة الخامسة من المادة 53 تنص صراحة أن رئيس الجمهورية «يصدر منفرداً المراسيم بقبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة». ويتكرر النص نفسه في المادة 54 والفقرة الرابعة من المادة 64 أي أن الدستور هو الذي يفرّق بشكل لا لبس فيه بين مرسوم قبول الاستقالة ومرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة.
دأبت العادة بعد عام 1990 على صدور مرسوم بقبول استقالة الحكومة عندما يتقدم رئيس مجلس الوزراء باستقالته، وبالفعل كان آخر مرسوم صدر وفقاً لهذه الصيغة المرسوم رقم 14321 الصادر بتاريخ 19 نيسان 2005 عقب استقالة الرئيس عمر كرامي في 28 شباط من العام نفسه. وكانت رئاسة الجمهورية قد أصدرت في اليوم ذاته بياناً أعلنت فيه قبول الاستقالة وتكليف الحكومة تصريف الأعمال.
لكنّ تطوراً مستغرباً طرأ عام 2014 في عهد الرئيس ميشال سليمان. فبعد تقديم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي استقالته في 22 آذار 2013 صدر المرسوم رقم 11215 تاريخ 15 شباط 2014 والذي نصت مادته الأولى على اعتبار الحكومة مستقيلة بدل النص المعهود الذي كان يقول بقبول استقالة الحكومة. والأمر نفسه تكرر مع الاستقالة الحالية‘ إذ بدل صدور بيان عن رئاسة الجمهورية بقبول الاستقالة اكتفى البيان المذكور باعتبار الحكومة مستقيلة.
لا شك أن هذا الخلل مردّه الدستور نفسه. فاتفاق الطائف قام بتحويل الممارسة الدستورية التي عرفها لبنان منذ الاستقلال إلى نصوص دستورية. فقبل الطائف كانت الحكومات تتقدم باستقالتها عند بدء ولاية رئيس الجمهورية وعند بدء ولاية مجلس النواب، علماً أنها لم تكن ملزمة كون الدستور كان خالياً من أي نص يشير فيه إلى الحالات التي تعتبر فيها الحكومة مستقيلة. وإضافة إلى هذه الحالات التي نشأت من الممارسة الدستورية كان رئيس مجلس الوزراء يتقدم أحياناً من تلقاء نفسه باستقالة الحكومة، ما يؤدي إلى استقالة جميع أعضاء الحكومة. لكن استقالة الحكومة كانت دائماً تتم بكتاب استقالة يوجهه رئيس مجلس الوزراء إلى رئيس الجمهورية الذي يصدر على إثر ذلك مرسوماً بقبول الاستقالة.
تكريس قبول الاستقالة دستورياً بمرسوم لا يتم بتاريخ البيان الذي يعلن فعلياً نهائية الاستقالة


حوّل اتفاق الطائف هذه الممارسة إلى نصوص دستورية، فميّز بين قبول استقالة الحكومة واعتبار الحكومة مستقيلة. وبما أن الدستور كرّس صراحة في المادة 69 الحالات التي تعتبر فيها الحكومة مستقيلة لم يعد من الضروري تقديم رئيس مجلس الوزراء لاستقالته كما كان يحدث قبل عام 1990 كون الاستقالة باتت حكمية وتتم بمجرد حدوث الواقعة التي يحددها الدستور. لكن اتفاق الطائف مستنداً إلى التجربة التي كانت سائدة حتى عام 1990 أدرك أن رئيس مجلس الوزراء قد يقدم استقالته خارج الحالات التي حددتها المادة 69 وهو أمر طبيعي وحدث مرات كثيرة منذ تبني الدستور عام 1926. لذلك أبقت الأحكام الدستورية على الفرق بين قبول الاستقالة التي يتقدم بها رئيس مجلس الوزراء وبين اعتبار الحكومة مستقيلة. لكن الذين صاغوا التعديلات الدستورية عام 1989 فاتهم التمييز الذي تم إدخاله بين قبول الاستقالة واعتبار الحكومة مستقيلة، وذلك في المادة 69 من الدستور التي تنص على أن «الحكومة تعتبر مستقيلة في الحالات التالية: أ) إذا استقال رئيسها...» أي أن الذين شاركوا في الطائف أرادوا تعداد الحالات التي تؤدي إلى استقالة الحكومة، فجمعوها في نص المادة 69 لكن ذلك لا ينفي أن التمايز يظل قائماً بين قبول الاستقالة واعتبار الحكومة مستقيلة، الأمر الذي كرّسته أكثر من مادة من الدستور وأكدته المراسيم المتعددة التي صدرت بين عامي 1989 و2005.
إن التشديد على الفرق بين قبول الاستقالة واعتبار الحكومة مستقيلة في سائر الحالات المحددة دستورياً لا يعني أن رئيس الجمورية يحق له رفض الاستقالة الصريحة المقدمة من رئيس الحكومة، لكن الإبقاء عليها هو أمر ضروري للسماح لرئيس الجمهورية بممارسة حرية تقدير محدودة تتيح له تعليق الاستقالة في الظروف الاستثنائية، كما حدث عندما أرغم الرئيس سعد الحريري على تقديم استقالته من السعودية أو تتيح لرئيس الحكومة المستقيل العودة عن استقالته.
ولا بد من التشديد على أن أهمية البيان الذي يصدر عن رئاسة الجمهورية تكمن في جعل الاستقالة نهائية ولا رجوع عنها . فمجرد إعلان رئيس مجلس الوزراء لاستقالته يعني أن مجلس النواب لم يعد بمقدوره محاسبة الحكومة ونزع الثقة عنها، أي أن إعلان الاستقالة يحرر السلطة التنفيذية من رقابة البرلمان ما يستتبع فقدان الحكومة لصلاحياتها التنفيذية الكاملة والعادية، لكن صدور البيان عن رئاسة الجمهورية يجعل من الاستقالة نهائية ولا عودة عنها، علماً أن ذلك يجب أن يتم في المبدأ خلال مهلة قصيرة جداً.
وفي معرض شرحه لمفهوم تصريف الأعمال أكد مجلس شورى الدولة ضمنياً على ذلك، إذ اعتبر أن حكومة الرئيس عمر كرامي «قدمت استقالتها أمام المجلس النيابي بتاريخ 28/2/2005» (قرار رقم 575 تاريخ 32/5/2007) أي أنه اعتبر أن تصريف الأعمال يبدأ منذ إعلان الاستقالة بينما قبول رئيس الجمهورية للاستقالة يعني أن الاستقالة أصبحت نهائية ولا عودة عنها. مع الإشارة إلى أن الممارسة الدستورية في لبنان تساهم في اللغط الحاصل، كون مرسوم قبول الاستقالة لا يصدر مع البيان بل لاحقاً في النهار نفسه لتشكيل الحكومة الجديدة. أي أن رئيس الجمهورية يقبل الاستقالة ويعلن عنها في بيان ومن ثم بعد مرور فترة زمنية قصيرة أو طويلة يصدر مرسومٌ بقبول الاستقالة، أي أن تكريس قبول الاستقالة دستورياً بمرسوم لا يتم بتاريخ البيان الذي يعلن فعلياً نهائية الاستقالة. وعلى سبيل الاستطراد، أعلن مفوض الحكومة لدى مجلس شورى الدولة «بأن صلاحيات الحكومة تقتصر على تصريف الأعمال منذ تاريخ إعلان تقديم الاستقالة» (قرار رقم 522 تاريخ 5/5/1999).
لذلك نؤكد أن تقديم الاستقالة يستوجب قبولها وتكريس هذا القبول في مرسوم صريح. صحيح أن رئيس الجمهورية ملزم بقبول الاستقالة التي يصر عليها رئيس الحكومة، لكن نفي الفرق بين قبول الاستقالة واعتبار الحكومة مستقيلة يؤدي إلى المسّ بدور رئيس الجمهورية وإلغاء ها القدر من حرية التقدير التي تسمح له بالتفريق بين الاستقالة الصحيحة وتلك التي يجب التريث بقبولها أو تلك التي يمكن لرئيس الحكومة العودة عنها.
* أستاذ جامعي