الثورة الإسلامية في إيران هي آخر الثورات ضد الامبريالية. فقد نشبت في عام 1979 وقت أفول ثورات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، وعلى أبواب انتصار الامبريالية الأميركية في الحرب الباردة التي أدّت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، وانخراط الصين في النموذج الاقتصادي الأميركي في مرحلته الليبرالية المتوحّشة، لمنافسة أميركا في السيطرة على الثروات الأولية والسوق العالمية. وفي هذا السياق أسفرت الثورة الفيتنامية المجيدة في مواجهة العالم الثالث ضد الامبريالية عن الاكتفاء بتوحيد شطري فيتنام والتوقف عن توحيد حقلها الإقليمي في جنوبي شرقي آسيا مع كمبوديا ولاووس، وأسفرت عن استبعاد طموحاتها الاشتراكية في الخضوع إلى منظومة السوق وحرية الاستثمار الأجنبي المباشر. فالمحاولة الوحيدة للتحرر الوطني والاجتماعي التي أعقبت أفول ثورات العالم الثالث ضد الامبريالية، قامت بها الثورة البوليفارية في أميركا اللاتينية التي سعت إلى تفكيك التبعية السياسية للامبريالية الأميركية في حديقتها الخلفية من أجل الاستقلال الاقتصادي في مشروع بوليفاري بديل عن النموذج الأميركي، عبر وحدة تضامنية في القارة اللاتينية بديلة من منظومة الليبرالية المتوحّشة في السوق العالمية. لكن مراهنة حزب العمال البرازيلي بزعامة لولا دا سيلفا في ولايته الثانية والرئيسة ديلما روسيف على معدلات النمو لمصلحة الفئات الأكثر ارتباطاً بالامبريالية في السوق الدولية، وعلى تحسين موقع اقتصاد هذه الفئات عبر مجموعة «البريكس» في إطار النموذج الأميركي، أجهضت التجربة البوليفارية لتوحيد أميركا اللاتينية وأجهضت طموحات الحركة الاجتماعية التي نجحت بإيصال حزب العمال البرازيلي إلى السلطة. وأدت لعودة أميركا البيضاء إلى البرازيل برئاسة التلمودي على غرار ترامب جائير بولسونارو، كما أدّت إلى إطاحة رئيسة الحزب البيروني في الأرجنتين برئاسة كريستينا فرنانديز وإطاحة البيرو والدول الضعيفة الأخرى اقتصادياً.
تغيير نظام الشاه رأساً على عقب
الثورة الإسلامية في إيران تبدو حتى الآن آخر ثورات العالم الثالث التي واجهت الامبريالية من أجل طموحات تغيير النظام القديم، في إرساء دور الدولة الناظم للتوازن بين مصالح الفئات الاجتماعية الداخلية المتباينة المصالح، وفي توحيد حقلها الإقليمي وإرساء سياسة دفاعية وسياسة خارجية تعبيراً عن المصلحة الوطنية العليا. لكن في مسار التحولات إلى نموذج الليبرالية المتوحّشة في المنظومة الدولية وفي العالم الثالث على وجه الخصوص بعد أفول حركات التحرر الوطني وانحلالها، طغت مقولات "تغيير النظام" في الاقتصار على تغيير أشكال الحكم عبر انتخابات لاختيار ممثلي السلطة بذريعة محاربة الاستبداد ومحاربة الظواهر الناتجة عن سيادة نظام حرية السوق والاستثمار في الفساد والفقر والبطالة وغيرها. لكن الاقتصار على تغيير أشكال الحكم والاعتماد على تغيير السلطة بدل تغيير منظومة الدولة، أفضيا في "الثورات الملونة" وفي ما يطلق عليه "الديمقراطيات الناشئة" إلى حرية المنافسة والاختيار بين أجنحة طبقة سياسية بعينها، مقابل فقدان دور الدولة في حرية القرار السياسي والاقتصادي الذي تتحكّم بمفاصله الأساس حرية المنافسة بين مصالح الرساميل الدولية الكبرى في منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي والشركات المتعددة الجنسية والمصارف والبورصات والخزانة الأميركية.
سلطان عالييف اكتشف قبل اكتشاف بيار بورديو ما سماه «الرأسمال الرمزي»


على خلاف تغيير أشكال الحكم وإلغاء دور الدولة في تقرير السياسات الاجتماعية والخارجية، حافظت الثورة الإسلامية الإيرانية على تراث حركات التحرر في مواجهة الامبريالية لتغيير النظام القديم واستقلال الدولة في القرار السياسي الداخلي والخارجي. فقد قلبت الثورة الإيرانية نظام دولة الشاه رأساً على عقب وهي حتى هذه اللحظة على الرغم من الحرب الاقتصادية التي تعرّضت لها منذ بزوغها عام 1979 تتحمل مسؤولية إدارة الحقوق الإنسانية في الطبابة والتعليم والسكن والمياه والكهرباء والأمن الغذائي والخدمات الاجتماعية... ولم تتركها إلى حرية السوق والتجارة وحرية الاستثمار الأجنبي المباشر. لكن السمة الأهم التي حافظت عليها الثورة الإيرانية في تراث حركات التحرر، تمثّلت في الحفاظ على القرار المستقل في السياسة الدفاعية والسياسة الخارجية. فحركات التحرر سعت إلى تفكيك التبعية للامبريالية لكن الثورة الإيرانية تجاوزتها في مسارها الطويل إلى الندّية في العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة والمعسكر الغربي. وتجاوزت كذلك دول عدم الانحياز والأفرو ــ آسيوية التي لم تعترف بإسرائيل، إلى مساعي القضاء على دولة استعمارية قاعدة الامبريالية في حقلها الإقليمي وإلى مواجهة السيطرة الامبريالية على دول الحقل الإقليمي.

بين أميركا وإيران حرب باردة
فشل المحاولة الأميركية في التدخل المباشر لإسقاط الثورة عام 79، دفع الدول الغربية إلى الحرب بالوكالة التي تكفّلت بها الدول الخليجية في حرب صدام حسين على إيران. فالحروب بالوكالة لم تنته وهي تتخذ أشكالاً ومسميات مباشرة وغير مباشرة مختلفة، سواء عبر مجموعات القاعدة و"داعش"، أم عبر الحرب الطائفية والعرقية ضد إيران والتحالف مع أميركا وإسرائيل للحرب. لكن الثورة الإيرانية حققت في سياستها الدفاعية توازن الردع والرعب مع أميركا، كما أثبتت عملية إسقاط الطائرة الأميركية وأثبت الشلل العسكري الأميركي في الخليج خاصة بعد قصف أرامكو. فأميركا اضطرت إلى تغيير استراتيجيتها العسكرية في الشرق الأوسط نتيجة هذا التوازن مع إيران، لكنها تستعيض عن استراتيجية الحرب العسكرية باستراتيجية الحرب الدبلوماسية والحرب الاقتصادية. فهي تخوض مع المعسكر الغربي هذه الحرب، أملاً بتغيير إيران سياستها الدفاعية وسياستها الخارجية. فقبل ترامب راهنت أميركا والدول الغربية في توقيع الاتفاق النووي على الانفتاح الاقتصادي مع إيران لتغيير هذه السياسات، وقد فرضت العقوبات وأوقفت مباحثات الملف النووي أكثر من أربع سنوات بسبب رفض إيران إدراج السياسة الخارجية والبرنامج الصاروخي ضمن المباحثات. وفي هذا السياق حيث لا تزال تأمل الدول الغربية أن يحقق ترامب ما عجزت عنه في تطويع إيران، يلخص ترامب طلبه من إيران "بأن تصبح دولة عادية" في التخلي عن سياستها الدفاعية وسياستها الخارجية ضد إسرائيل وصفقة القرن على وجه الخصوص وفي الندّية بعلاقاتها الثنائية مع أميركا والدول الغربية. لكن الثورة الإيرانية التي تخوض هذه المواجهة منذ نشأتها في تغيير نظام الشاه، تفوّت أحلام عودة إيران إلى دولة "عادية" في التبعية لمصالح أميركا والدول الغربية.

إسلاميون بلاشفة
في مواجهة الامبريالية والتبعية، تنهل الثورة الإسلامية في إيران من مَعين خزان إسلامي في المفاهيم وتعابير "المستضعفين" أو "الاستكبار العالمي والشيطان الأكبر" وغيرها. وهو خزان الموروث الديني الذي استندت إليه الحركة الإسلامية الثورية في روسيا وبلاد التتار وداغستان... في انضمامها إلى الثورة البلشفية عام 1917. فقبيل الثورة في عام 1916 ذبح المستوطنون الروس 83 ألف مسلم رداً على انتفاضة ضد الاستيطان التي عزّزها نمو "حركة البخاريين الشباب" عام 1908 في دعوتها إلى "الدين، الحرية، والاستقلال الوطني". وفي انضمام الحركة الإسلامية الثورية إلى البلاشفة، تبنّت شعار "تحيا السلطة السوفياتية، تحيا الشريعة الإسلامية" فيدعو أحد قيادييها عبد الرؤوف فطرت إلى "إخراج البريطانيين من الهند كإخراج الخنازير من المسجد" بينما يرى الأفغاني محمد بركة الله بأن "العدو هو الامبريالية البريطانية" بعد أن "أزال البلاشفة التفرقة على أساس العرق والدين والطبقة" وأتاحوا "الحرية الاقتصادية والسياسية والديمقراطية الدينية" في إشارة إلى سياسة البلاشفة تحت قيادة لينين إلى إقرار "التمييز المضاد" عام 1917 (كورنيزاتسيا) لسحب المستوطنين الروس من البلاد الإسلامية والتعاون مع قيادة أهل البلاد في إدارة شؤونهم الدينية والسياسية وإنشاء "سوفييت مسلم" في مؤتمر مسلمي روسيا في موسكو الذي حضره 1000 عضو بلشفي بينهم 200 امرأة تحت قيادة "لينين المسلم" كما وصفه الزعيم الصوفي الشيشاني علي مانييف.
والحقيقة أن الحزب البلشفي لم يكن كله على قلب لينين بشأن الإسلام والحرية الدينية ضد الامبريالية والمسألة القومية للمسلمين. في "مؤتمر المسلمين البلاشفة" في باكو عام 1920 احتجّ زعماء بلاشفة على رأسهم زينوفييف على تسمية المؤتمر وأطلقوا عليه اسم "مؤتمر شعوب الشرق" وذهب هؤلاء البلاشفة إلى أبعد من ذلك ضد الدين في خيار زينوفييف "الإيمان بالثورة أو الإيمان بالدين". وفي المقابل برز الزعيم الإسلامي البلشفي ميرزا سلطان عالييف (1892 ــ 1940) في دعوته لينين إلى التخلي عن المراهنة على أوروبا من أجل الثورة الاشتراكية العالمية والاعتماد على بلاد المسلمين ضد الامبريالية وعلى المسألة الدينية من أجل الثورة والعدالة الاجتماعية. (أبو الثورة في العالم الثالث، شانتال لومرسية، فايار، باريس، 1986). ولم يحتمل ستالين الذي صفّى قيادات الحزب البلشفي من الصفوف الأولى والثانية والثالثة، قيادة الإسلاميين البلاشفة واعتقل سلطان عالييف لفترات متقطّعة، ابتداءً من عام 1924 التي انتهت بإعدامه وحرق كل مؤلفاته عام 1940، بعد أن أصبح عالييف يهدد خيارات الستالينية القومية في الحرب من أجل تقاسم النفوذ مع الامبريالية الغربية.
سلطان عالييف اكتشف قبل اكتشاف بيار بورديو ما سماه "الرأسمال الرمزي" في المسألة الثقافية ومخزون المعتقدات والعادات والتقاليد (هابيتوس) أثناء دراسته الانتروبوليجية لقبائل الجزائر. وهو بموازاة أنطونيو غرامشي (1891ــ 1937) ذي الأصول الألبانية لجهة الأب يقرع ناقوس المسألة الثقافية في التحرر من الامبريالية والعبودية للرأسمال.
* باحث لبناني