يسود النقاش في لبنان اليوم حول «غياب ثقة المواطن بالدولة» كأبرز أسباب الحراك الشعبي. لكن، مقاربة هذه المعضلة من منظور «غلبة إدارة التيارات والأحزاب السياسية» على «نموذج إدارة الدولة في لبنان» وما يرتبط به من تشكيل هذه الاطراف لتكتلات النخبة الحاكمة، يطرح تساؤلات حول «ثقة المواطن بالتيارات والأحزاب السياسية» تحديداً تلك التي تواترت على السلطة منذ أكثر من ثلاثين عاماً. فعلى طول مسيرة الحكم وإدارة الدولة، لم تلتفت هذه الأحزاب والتيارات (وأقول لم تلتفت من باب حُسن النية) الى كل ما يعنيه منطق الدولة. بل يتضح من مراجعة سلوك بعض هذه الأطراف، أنها أمعنت في اعتبار وجودها مرهوناً بغياب الدولة. وهو ما أنتج على مرِّ السنوات، واقعاً من الحكم، قائماً على أسلوب المحسوبية والاستزلام وغياب منطق الدولة وفقدان الترجمة العملية لمفهوم المواطنة وانعدام العلاقة بين الدولة والمواطن.
وهنا فإن اعتماد أهل السلطة في لبنان خطاباً يفصل الدولة عن التيارات والأحزاب، ليس إلا سمة النخبة الحاكمة في تضليل الرأي العام. ويرتبط به أسلوب التخويف من الطائفية والمذهبية. ليس ذلك إلا لتبرير حكمهم وتأمين استمراريته. وهنا أصل المشكلة. حيث إنه لا يمكن تجاهل «أن عقوداً من حكم الأحزاب والتيارات للدولة في لبنان هي التي أسهمت في ذوبان منطق الدولة ومصلحتها ضمن منطق ومصالح الأحزاب والتيارات على اختلاف اعتباراتها وحساباتها وقيمها»، لنقول إن إحالة سبب ما يجري اليوم إلى فقدان المواطن ثقته بالدولة، هو دقيق للغاية. لكنه يُعبِّر بالحقيقة - ضمن إطار ما قدمناه من مقاربة - عن فقدان المواطن ثقته بالأحزاب والتيارات، وبالتالي بالنظام السياسي اللبناني. لذلك، فإن ما تحتاج إليه البلاد في الحقيقة هو إصلاح سياسي بنيوي، وليس إصلاحات اقتصادية ظرفية فقط، مع ضرورة الالتفات إلى أن هذا التقييم لا يعني رهن البدء بالإصلاحات الظرفية لنتائج الإصلاح السياسي، بل يعني ضرورة أن يكون الإصلاح السياسي أولوية، إلى جانب الإصلاحات الأخرى. وهنا، ومع لحاظ التفاوت في الدور والمسؤولية، يتبيَّن كيف أخطأت الأحزاب والتيارات السياسية!
إن كل ما تقدم يُفسّر بالنتيجة حجم الفجوة الذي أحدثها تراجع أداء الأحزاب والتيارات السياسية عبر السنوات، لا سيما في إدارة علاقتها مع مؤيديها خصوصاً وعملية مقاربتها لهموم المواطن اللبناني عموماً. وهنا يمكن لحاظ عدة أسباب تتعلق بسلوك الأحزاب وأدائها، أهمها:
أولاً: إن مراجعة التجربة اللبنانية تُثبت بُعد الأحزاب عن الهم المعيشي للمواطن، وهو ما أدخلها خلال مسيرتها في ازدواجية العمل السياسي، لعدم قيامها بتحقيق أغلب وعودها، لا سيما الإصلاحية والتنموية، وتغليبها المصالح الخاصة على المصلحة العامة. وهو ما يمكن لحاظه اليوم من خلال الواقع الذي يعيشه المجتمع اللبناني بجميع مكوّناته، والذي يُعتبر نتيجة لهذا النهج المُعتمد في الحكم والقائم على المحسوبية والمحاصصة.
فرصة للعمل لرفع الهموم المعيشية للمواطنين ما قد يُسهم في تحصين الواقع اللبناني


ثانياً: مع انخراط هذه الأحزاب والتيارات ضمن إطار السلطة والحكم، سادتها مظاهر وجود طبقة نافذة من رجال الأعمال والمتموّلين المترفين، الذين طغوا على طبقة المناضلين والأكفاء. وهو ما تُثبته حقيقة أن أغلب موارد الدولة مملوكة من قِبل السلطة الحاكمة! ما زاد الشعور بغياب وحدة الحال (لا سيما في ما يخص الهموم المعيشية) بين الأحزاب والتيارات من جهة وبعض المنتمين والمؤيدين لها من جهة أخرى.
ثالثاً: مع طُغيان الفساد على النظام السياسي اللبناني، وفي ظل امتلاك مكونات الطبقة السياسية للكتلة الاقتصادية المُتحكمة في البلاد، اعتمدت غالبية الأحزاب والتيارات في علاقتها مع المواطن أساليب النهج الإقطاعي القائم على الاستزلام وإدارة ضعف البيئة المؤيدة في ظل غياب دور الدولة وقدرة الأحزاب والتيارات على استثمار الوعود، ولا سيما قُبيل الاستحقاقات، وتحديداً الانتخابية منها.
رابعاً: طيلة فترة تطورها وخلال مسيرتها، لم تقم الأحزاب والتيارات بإعادة النظر في علاقتها تجاه المواطن، بل لم تُمارس أي عملية نقد ذاتي لسلوكها التنظيمي، بهدف تطوير سياساتها، وبالتالي أدائها ليتماشى مع حاجات بيئتها والمجتمع اللبناني والتحديات الحقيقية للمواطن. وهو ما يُسهم في تبنّي التطور العلمي والتكنولوجي وتحسين النظرة للمشكلات الحقيقية للمواطن والحلول المناسبة لها. أوجد ذلك فجوة بين هذه الأحزاب والتيارات من جهة والنخب الفكرية والسياسية التي تنتمي إلى بيئتها الحزبية والسياسية من جهة أخرى.
باختصار، تُشكل هذه الأسباب، إضافة الى أسباب أخرى، وبشكل متفاوت نسبياً، تفسيراً لغياب الثقة بين الأحزاب والتيارات من جهة والمواطن اللبناني من جهة ثانية، حيث لم يعد يعبِّر هؤلاء الأطراف عن همومه وتوجهاته، فيما أسهم الأداء السلبي لمُمثليها في البرلمان الى تعزيز الرصيد السيّئ للأحزاب والتيارات شعبياً.
وهنا ،فإن ما تتطلبه الواقعية السياسية - التي تفرض اعتبار ما يجري أنه في الحقيقة مشكلة بين المواطن من جهة والأحزاب والتيارات من جهة أخرى رغم أنه في عنوانه مشكلة بين المواطن والدولة - أن تمارس الأحزاب والتيارات السياسية دوراً معيناً، لإدارة الأزمة الراهنة. لكن المطلوب اعتماد مقاربة مختلفة يمكن أن تُقنع المواطن.
لذا، يمكن اعتبار ما يجري اليوم فرصة للعمل لرفع الهموم المعيشية للمواطنين، ما قد يُسهم في تحصين الواقع اللبناني. فالهموم المعيشية هي الهمّ المُشترك بين الجميع، الأمر الذي يستلزم تأسيس لجان متخصصة عابرة للمذاهب والطوائف والانتماءات الحزبية، تُسهم في تقييم الواقع الحالي للمجتمع اللبناني بكل مكوناته، ما ينقل الطبقة السياسية من موقعها البعيد عن الهم الحقيقي للمواطن، الى موقعها المُدرك للهموم اللبنانية الجامعة. يُشكل ما يجري فرصة للأحزاب والتيارات السياسية لاعتماد خطاب يتضمن قيماً وطنية جامعة تذوب فيها قيم الأحزاب والتيارات في ظل لحظة راهنة ومصيرية يمر بها لبنان.
* باحث لبناني متخصص في نظم السياسات والحوكمة