أخيراً، كما هو متوقّع أدلى رجال الدين المسيحيّون بدلوهم مرّة واحدة وببيان واحد، بيان بكركي الذي -كما أتى فيه - يمثّل رؤساء الكنائس الكاثوليكيَّة والأرثوذكسيَّة والإنجيليَّة. يبدأ البيان بأنّ «الكنيسة لطالما وقفت إلى جانبه [الشعب] واحتضنت حاجاته... وهي تلتزم... المزيد من الخدمات»، ومن غير المفهوم هنا ما الذي يريده واضعو البيان؟ أن منّنوا الشعب أنّهم خدموه؟ أن يغروه بأنّهم سيزيدون المساعدات؟ ويتابع البيان أنّ «الـمُسكِّنات لا تَمرّ بعد الآن» فالشعب بلغ «وجعُه حدّه الأقصى» والسلطة «أمعنت في الانحراف والعناد»، وهذا الوضع "العمل الفوري على معالجة أسبابه"، و«اتّخاذ مواقف تاريخيَّة وتدابير استثنائيَّة». هذا طبعاً إيجابيّ وجيّد أن يُعترف به. رغم ذلك فمن يقرأ البيان بتأنٍّ، بعيداً عن العاطفيّة فإنّه يلاحظ سريعاً بأنّ هذا البيان المدبّج بالكلام الجيّد يشكّل محاولة لقمع الثورة التي اندلعت في لبنان، ولتخدير همّة الناس حتّى يخمدوا من جديد، ويعودوا للإحباط والتهميش. فما هي هذه "المواقف التاريخيّة" التي دعا إليها المجتمعون؟
أولاً، يدعو البيان رئيس الجمهوريّة «فورًا بالمشاورات مع القادة السياسيِّين ورؤساء الطوائف لاتِّخاذ القرارات اللازمة بشأن مطالب الشعب». هكذا وفي جملة واحدة ينصّب المجتمعون أنفسهم ولاة على رقاب الناس، فهم يريدون من رئيس البلاد أن يستشيرهم في ما يجب أن يفعله، ويضعون هكذا أنفسهم في صلب اللعبة الطائفيّة، ويشاركون باستمراريّة النظام الذي أدّى إلى هذه الكوارث المتتالية والإفقار العام، والذي تحاول ثورة الناس أن تطيح به. ثمّ هو بدعوته رئيس الجمهوريّة بأن يستشير السياسيّين يعبّر البيان في أفضل الأحوال عن قلّة حكمة لا تُعقَل إذ أنّها ترى في هؤلاء السياسيّين الذين سطوا على مقدّرات البلاد وفكّكوا الدولة، مصدرَ الحلّ؛ أمّا في أسوأ الأحوال فإنّ هكذا دعوة ما هي إلاّ محاولة انقلاب على طموح الناس والفقراء تحديدًا، وتعبير عن رغبة لدى واضعي البيان باستمرار نظام لم يُفقرهم ولم يضعف أجسادهم أو أقلق نفوسهم أو مسّ بكرامتهم.
ثانياً، يقول البيان «لا بدَّ أيضاً من احترام حرِّيَّة التنقُّل للمواطنين لتأمين حاجاتهم ولا سيَّما الصحِّيَّة والتربويَّة والمعيشيَّة والاقتصاديَّة". هكذا إذاً، يريد كاتبو البيان والموافقون عليه أن يعود الناس إلى بيوتهم وعودة الحياة «غير الطبيعيّة» إلى البلاد لينكبّ رجال الدين مع السياسيّين الفاسدين بإيجاد الحلول التي لم يجدوها يوماً. وما الذي يبقى عندها من الإضراب العام، ومن انتفاضة الناس التي تضغط على الطغمة الحاكمة لتستقيل من الحكومة في خطوة أولى لتغيير النظام الطائفيّ نحو بناء دولة مدنيّة لاطائفيّة؟ ألم يسمع واضعو البيان بأنّ الوسيلة الوحيدة اللاعنفيّة التي يملكها الفقراءُ للضغط على المستغلِّين لتحقيق شيء من العدالة هي الإضراب؟ أم يعتقدون حقّاً أنّ مقالة من هنا (وضمنها هذه المقالة)، أو عظة من هناك كفيلة بإيقاظ الضمائر، وتغيير القلوب، وقلب بُنى العنفِ المؤسّسيِّ القائمة في النظام السياسيّ الاقتصاديّ في أيّ بلد؟ لكن مَن لا يتعب ليكسب لقمة عيشه، ولا يقلق بأن يجد برّاده فارغًا، ولا ينام لياليَ وهو يفكّر من أنّى له أن يعلّم أولاده في مدرسة، من صعب جدًّا عليه أن يفهم ما الذي يعيشه الناس، ولن يفهم ما لم يعش بتعبه، ويخرج من التركيز على مصالح أصدقائه وأعوانه وحلفائه، المستفيدين معه من النظام القائم.
هذه «الحقيقة» يعرفها أبناء وبنات الكنيسة الذين يموتون على أبواب مستشفياتها ويشعلون أجسادهم أمام أبواب مدارسها


ثالثا- يقول البيان إنّ «لائحة الإصلاحات التي أصدرها مجلس الوزراء أخيرًا... تشكِّل خطوة أولى إيجابيَّة" هذا بحدّ ذاته كارثة. يكفي أن يسمع الآباء الأجلّاء شيئاً ولو قليلاً، من المحلّلين الاقتصاديين ليعرفوا أنّ "الإصلاحات" التي يدّعونها هي غير واقعيّة، وأنّها استمرارٌ لنهج نهبِ ما تبقّى من مقدّرات البلاد، لنصبح مُرتهنين تماماً لهم في الحاضر والمستقبل. مَن يقول عن تلك الورقة بأنّها تشكّل "إصلاحات" هو إمّا غير مطّلع، أو جاهل، أو يتجاهل لغاية في نفسه تتعارض بشكل نافر مع مصالح الشعب المنهوب والموجوع، رغم ادّعائه كلاميًّا بأنّه يتحسّس لأوجاعه.
رابعاً- يدعو البيان إلى «تعديل الفريق الوزاريّ». تعديل وزاريّ؟ تعديل وزاري! كم من تعديل وزاريّ حدث من طقم الحكم نفسه هذا على مدى عشرات السنوات؟ أيّ تقدّم أدّى إليه أيّ من هذه التعديلات؟ لا شيء. السادة المطارنة يدعوننا إلى وصفة نتيجتها صفر، يدعون الشعب الذين يدّعون "التحسّس لأوجاعه" إلى لا شيء، يقدّمون له الوهم على طبق الكلام المعسول. هل نسي الآباء الأجلّاء أنّ مشكلة الفساد التي يتشدّقون بالرغبة بحلّها اليوم (وقد أفاقوا فجأة) هي أساسًا بسبب هؤلاء الذين في الحكم منذ عشرات السنوات، بسبب هؤلاء الذين يريد الآباء الأجلاء أن يبقوا عليهم مع تعديل وزاريّ لن يؤدّي إلاّ إلى استمرار النهب.
أخيراً يقول البيان «الكنيسة لطالما وقفت إلى جانبه [الشعب] واحتضنت حاجاته»... هذه «الحقيقة» يعرفها بنات وأبناء الكنيسة الذين يموتون على أبواب مستشفياتها ويشعلون أجسادهم أمام أبواب مدارسها، ويغتصبون في أديرتها، أمام أعين رجال الدين ومعرفتهم وصمتهم، بل ومحاولات قمع من يواجهها.
إنّ أساس الفساد هو نظام المحاصصة الطائفيّ، إنّه النظام نفسه الذي ينتج هذ الفساد ولكن عوض أن يكون الآباء الأجلاء جذريّين ويضعوا أصبعهم على الجرح ويدعوا بجرأة إلى تعديل جذريّ في النظام نفسه، لمعالجة جذور المشكلة، كان هذا البيان تأكيداً على أنّهم لا يريدون أيّ تغيير، وأنّهم يحاولون لا إنقاذ الشعب وإنّما انقاذ أصدقائهم السياسيّين الذين بدأت نجومهم بالأفول تحت صرخات الشعب. في هذا الصدد، موقف رجال الدين الأرثوذكس لا يختلف كثيراً عن المواقف المعبّر عنها في البيان، فموقف المجمع الأرثوذكسي الصادر قبل أسبوع من اندلاع الانتفاضات الشعبيّة كان موقفاً مزدوجًا بطبيعة الحال فهم عبّروا عن رغبتهم الكلاميّة بـ"تجنّب فرض المزيد من الضرائب" و"تطهير الإدارة العامّة من الفاسدين" ولكنّهم وافقوا على استمرار نظام المحاصصة الطائفيّ فطلبوا " الاحترام التام للتوزيع الطائفي" ولم يدعوا أبداً إلى تغيير النظام الطائفيّ الذي يشكّل السبب الحقيقيّ لفرض المزيد من الضرائب وملء الإدارة العامّة بالفاسدين، وبهذا فإنّ أمانيهم بتجنّب فرض المزيد من الضرائب ووقف الفساد تبقى كلامًا غير جدّي بل يبدو في ظلّ مطالبتهم بالمحاصصة الطائفيّة أنّه يُقال رفعاً للعتب. هناك مثل قديم يقول "مع هكذا أصدقاء لست بحاجة إلى أعداء"؛ لو يُعفي رجالُ الدين المسيحيون الذين من طينة واضعي هذا البيان الشعبَ اللبنانيّ من صداقاتهم يكونون قد قدّموا للشعب مساعدة جلّى.
الشعب ينتصر اليوم لنفسه وسينتصر. أمّا رجال الدين الذين يريدون لكلّ تغيير أن يفشل لتبقى مصالحهم وتستمرّ الأوضاع القائمة، فنتمنّى لهم أن يعودوا إلى إنجيل يسوع المسيح الواقف أبداً مع المظلوم وضدّ ظلم الظالم، والذي بحسب الإيمان المسيحيّ يناهض بقوّة قيامته مشاريعَ الاستعبادِ والموتِ العميمِ التي يَحوكها سياسيّون ورجال دين يبدو أنّهم فقدوا الإحساس بأوجاع الآخر، أو باتت أوجاع الآخر عندهم مجالَ شعورٍ عاطفيٍّ سطحيّ لا يتحوّل إلى عملّ فعليّ من أجل رفع هذه الأوجاع عن طريق معالجة جذورها، واكتفوا بالمسكّنات عن طريق "المزيد من الخدمات" على عكس ما قاله بيان بكركي.
* أستاذ جامعي