إن القراءة التاريخية لطبيعة النظام الذي حكم البلد منذ إعلانه كبيراً، أي قبل مئة عام، تُبيّن، أن التركيبة الهجينة للبلد جغرافياً، عكست نفسها في تركيبته السياسية الموروثة؛ من ثنائية حكمت الجبل، إلى «حسبة» جديدة ومضافة حكمت الجغرافيا المستجد~ة، مع أفضلية لمن ارتبط تاريخياً بدولة الانتداب، الخارجة، بدورها، منتصرة من حربها العالمية، والعائدة إلى الشرق بعد غربة فرضتها تحوّلات سابقة انتفى بعض منها مع نتائج الحرب الكبرى التي وضعت أوزارها في ذلك الحين. لقد جرى ترسيم حدود البلدان من بوابة «سايكس بيكو»، التي فرضت خرائط الكيانات المستحدثة بصيغة مزدوجة، تحمل، من جهة، قيام هياكل كيانات غير قابلة للتطور تُسمى دولاً، ومن جهة أخرى نمطاً من النظم لا يمكنها الاستمرار إلّا بتبعية سياسية واقتصادية للغرب، الذي يمتلك آليات التطور الصناعي وغيره، وبذلك كانت تحمل في أساس تكوينها أسباب عطبها، وعدم قابليتها للتطور، مع استحالة بناء أطر وبنى سياسية واقتصادية قادرة على الإنتاج.إن ولادة النظام السياسي في لبنان، الذي واكب مرحلة التأسيس، لم تكن طبيعية، أي لم تكن نتيجة لتطور سياسي - اقتصادي داخلي، أو نتيجة موازين قوى فرضتها ثورة شعبية قامت في وجه الاحتلال أو بعد معركة للتحرر الوطني. «الناتج الجديد» هو ذلك الشكل، الذي أوجدته السلطنة المهزومة؛ الأدوات ذاتها كما القوى وكذلك الجغرافيا الضيقة المحشورة بحدود المذاهب. فالتركيبة الهجينة لطبيعة المكونات السياسية، التي جمعها الانتداب، مالت كفة ثقلها نحو نقطة ارتكاز أساسية، وهي هنا «المارونية السياسية» المتوارثة، من قائمقاميتين حكمتا الجبل اللبناني فترة من الزمن. أُضيف إليها الشريك الآخر المتمركز في المدن، والذي لم يقتنع بنهائية الكيان إلّا لاحقاً، بحيث أنّ حصة في السلطة، وفق حسبة محددة وظيفياً، كانت كفيلة بخلق ثنائية للحكم، يحكمها توازن من جهة واختلالات من أخرى، جرى قبولها بعدما تلاشى مشروع الدولة العربية الموحّدة، والتي كان حلم تأسيسها الشرارة التي خرج من أجلها الكثير من العرب في الثورة الكبرى، وإن بشعارات مختلفة، والتي كانت بدورها موزعة الأهداف، حيث الرأس في مكان، والجسد في آخر، وكذلك الأطراف، وكلّ يغني على ليلاه وليل مصالحه.
لقد تمّ تشريع النظام السياسي في «لبنان الكبير» من خلال الدستور ومن خلال بنوده التي كرّست محاصّة واضحة الأهداف ومحددة السلوك، والذي دُعّم باستقلال شكلي، خرج الانتداب بموجبه من لبنان عسكرياً، لكنه أبقى على انتدابه السياسي وتبعية النظام-الكيان وولائه له، مضافاً إليه مصالح مشتركة، من الطبيعي أن يكون لبنان هو الطرف الأضعف فيها. هذا المستجد، رسّخ منطق السلطة المتحكمة في النظام وشكل أدواتها ونمط رجالاتها، من خلال ميثاق وطني، مُضمر وليس مكتوباً، ما جعل من العرف نمطاً معتمداً ومعمولاً به. وهذا الأمر ما كان ليستمر لولا القبول الضمني من كلّ المكونات الطائفية أو المذهبية المتحالفة مع البرجوازيات المحلية، المنتمية إليها بدورها، مع تبعية سياسية واقتصادية لدول إقليمية ودولية، يرتفع منسوب التفاهم أو التوتر في ما بينها ارتباطاً بخطوط التوتر العالي في المنطقة والعالم.
هذا الواقع أنتج هيكلاً-كياناً سُمّي «دولة»، بمواصفات مفصّلة على مقاس أطراف السلطة الحاكمة، بتنوّعها المذهبي والطائفي والطبقي، أدارت البلد منذ الاستقلال وحتى اليوم، والتي لم تنتج إلّا الحروب والتوترات والمشاكل والتشرذم والأزمات الاقتصادية، وتبدّل الولاءات، والتدخلات... لكن منظوماتها المتحكّمة لم تتغير، بالرغم من كلّ ما أشرنا إليه. المستجد الوحيد الذي حصل كان تبدلاً في طبيعة بعض قواها، لكن من ضمن الهيكل الواحد؛ لقد شهدنا صعوداً لبعض القوى أو خفوتاً لأخرى، لكن الجوهر الحقيقي لطبيعة النظام السياسي، الذي فُصّل منطق «الدولة» على مقاسه لم يتغير. من هنا تأتي مشروعية السؤال التالي: هل النظام السياسي الطائفي المذهبي، كما المحاصّة والفساد والزبائنية هي التي تمنع قيام الدولة؟
بناء الدولة الحديثة لا يتم بآليات الدولة الموجودة بل من خارجها


بالنفي سأجيب عن هذا السؤال، لأن منطق بناء الدول وشروطها مختلف وتلزمه آليات أخرى يجب توافرها. فالدولة الطائفية هي المُنتج الشرعي للمنظومة الطائفية. إن التعاطي مع رعايا الطوائف من رؤوس طوائفهم كأتباع وليس كمواطنين، شكّل بداية المشكلة، والتي جرى استكمالها بتعاطٍ سياسي هو نفسه من قِبل المكونات السلطوية، الممثّلة لطوائفها ومذاهبها، وعلى ذلك، أصبحت علاقات التبعية هي المحدّدة لنمط التركيبة الوظائفية لأيّ كيان أو هيكل أو نظام. فالمنظومة الطائفية تبني دولة تشبهها، تفصّلها بناءً على وظائف ونمط علاقات تستفيد منها مكوناتها كافة، على الرغم من تناقضاتها، وتفاوت رؤاها حيال بعض القضايا. إن منطق الدولة القائمة في لبنان منذ الاستقلال وحتى اليوم هو نفسه. فتلك العلاقة البنيوية القائمة من خلال التركيب الوظيفي لهياكل الدولة تلبي، وبوضوح، حاجات ومصالح تحالف قوى الطوائف والمذاهب والبرجوازيات المحلية، ولاحقاً أصحاب الرأسمال المعولم. أمّا المواطن، فقد شكّل تلك الحلقة المستلبة إرادتها والمعطّلة، بحكم الانتماء ونمط الاستتباع الذي ربطته بها تلك المنظومة.
وعليه، تصبح عملية فهم وتفكيك تلك المنظومة والدعوة إلى تغييرها واضحة؛ فإذا كانت الدعوة من خارجها، فهي إذن للتبديل وليس للتغيير أو الإصلاح، وإذا كانت من داخلها، فهي إعادة تكوين السلطة وتوزيع المصالح وفق حسبة جديدة ومستجدّة بين أطرافها، تضيف إلى هذا وتأخذ من ذاك لا فرق، لكن لا تلغي أحداً من مكوناتها، بغض النظر عن حجمه أو دوره. فبناء الدولة الطائفية بنمط علاقاتها لا يبتعد كثيراً عن شكل العلاقات التشاركية بين مكونات ذلك البناء وأصحابه ومصالحهم، وعليه، تصبح تلك العلاقة هي المحددة لطبيعة الدولة المنشودة، والتي لا تراعي أيّ اعتبار خارج تلك الدائرة. فالطوائف والمذاهب وممثلو البرجوازية ورأس المال وتحالف هؤلاء جميعاً ونمط مصالحهم، لا تقوم إلّا على الولاء للآخر الذي، وفي كثير من الأحيان، هو الخارج الذي يمتلك سلطتي القوة والمال، فتصبح الإدانة في ذلك الولاء نموذجاً ثنائي الأبعاد: داخلياً لبسط السيطرة والنفوذ وتأمين الرعايا، وخارجياً من أجل الحماية والرعاية واستكمالاً للتبعية. إن من شروط بناء الدولة هو وجود نظام سياسي بمكونات ومشروع واضح وبُنى اقتصادية منتجة. وبين هذين الحدّين تتحدد الأطر والسلوكيات الواجب استخدامها، وهذا يعني، في هذه الحالة، المؤسسات والسياسات بالإضافة إلى القوى. وعلى ذلك البناء يمكن فهم نوع الدولة التي يجب بناؤها، والذي بطبيعته وجوهره سيكون نتيجة لموازين القوى وبرامجها المتشكلة من طبيعة القوى المُؤَلفة للسلطة الحاكمة وأهدافها السياسية، سواء من خلال مشروعها السياسي أو من خلال شبكة تحالفاتها التي تتقاسم معها المشهد.
إن هدف قيام الثورة الوطنية هو في الأساس لبناء نظام وطني؛ فالثورة تقوم على إحداث تغيير في بنية بالية ومستهلكة وظيفياً؛ فإذا كانت في وجه الاستعمار فهي إذن لفكّ التبعية وبناء النظام المستقل خارج دائرة تلك التبعية وشروطها وممارساتها. وإذا كانت في وجه الاحتلال، فهي للتحرير، وبقوة السلاح، من إمبرياليّ محتل، بقصد دحره وتأسيس دولة وطنية مناقضة لمنطق الاستزلام والاستسلام. وفي كلتا الحالتين، يجب أن يكون النظام السياسي، الذي سيحكم، هو الناتج الطبيعي، والمؤلّف من قوى تشاركت المرحلتين ببرامجها وبالسلوك الذي تمّ التعبير عنه. وعلى ذلك سيتكون شكل الدولة الناتجة والحاكمة، المعبّرة بوضوح لا لبس فيه عن أهدافها وبرامجها ونمط علاقاتها.
بناءً على ما تقدم، فإن شعار بناء الدولة الحديثة على أنقاض الدولة الطائفية يفتقد هنا إلى شيء من الوضوح. كما أن مفهوم الدولة الطائفية الذي يمنع قيام الدولة الحديثة، هو بدوره يلزمه الكثير من التدقيق، لأنه ليس هناك ترابط في عملية البناء، نفياً أو إيجاباً بينهما، كما ذكرنا سابقاً؛ فمنطق بناء الدولة يرتبط بطبيعة القوى التي كوّنتها، وعليه يمكن للطوائف أن تبني دولها وكذلك المذاهب، وستكون بالتأكيد معبّرة عن فئة اجتماعية ومصالح بشر يجدون في تلك الدولة أهدافهم وتطلعاتهم.
إنّ بناء الدولة الحديثة لا يتم بآليات الدولة الموجودة بل من خارجها، ما يعني، ضرورة تحديد طبيعة القوى ومنطلقاتها وأهدافها، كي يُبنى على الشيء مقتضاه. في لبنان النمط «الدولتي» القائم، هو المرآة العاكسة لقواه الحاكمة في السياسة والاقتصاد؛ هي تلك المنظومة التابعة، وذلك الاقتصاد المسيطر عليه والوظيفي في خدمة أصحابه المرتبطين بشبكات مصالح متداخلة ومشتركة، داخلياً وخارجياً. وبذلك تكون العلاقة القائمة، الطبيعية في هذه الحالة، بين تلك المكونات، هي العلاقة المنطقية لهذا النمط. وبالاستناد إلى ذلك، لن تجدي الدعوة إلى التغيير، من خلال مجموعة مطالب أو قوانين، نفعاً ولن تحدث تغييراً. المطلوب ساعتئذ سيكون تبديل النظام القائم، بأدواته وسياساته، وبشكل جذري؛ تبديل، لا يبقى فيه الارتهان للآخر، بغض النظر من هو ومن يكون. كما أنّ شعار تغيير موازين القوى من خلال الانتخابات أو تعديل مواد في الموازنة أو الدستور أو تنشيط القطاعات المنتجة أو تحسين مستوى الفئات الشعبية لن يشكل، مدخلاً حقيقياً في استراتيجية بناء الدولة الحديثة؛ فلا الطوائف ولا المذاهب ولا الاستبداد هي العائق من جهة، كما أنّ، لا المدنية ولا العلمانية ولا الانحياز للفئات المهمشة، هي التي تؤسس وتضمن عملية البناء من جهة أخرى. فتأمين شروط تغيير موازين القوى الشعبية، لا يتم إلّا من خلال تغيير نمط ربط المواطنين بمشغّليهم، وهذا يعني، فك الارتباط العضوي، بين المواطن كعضو في جماعة معينة، دينية كانت أم عائلية أم عرقية، وإعادته إلى كونه مواطناً، بحقوق واضحة وواجبات عليه القيام بها.
من هنا يصبح لزاماً علينا، كقوى تطمح لأن تتقدم لبناء دولة حديثة، إنتاج مقاربة من نوع مختلف للموقف السياسي، والذي يجب أن يكون ناتجاً، وبالدرجة الأولى، من موقف معارض ورافض للموجود. والذي سيشكل أساس البرنامج المطلوب بناؤه: السياسي ومواجهة الهيمنة الإمبريالية الغربية ومشاريعها التوسعية والاستعمارية، الاقتصادي ومواجهة هيمنة العولمة ورأس المال وسياسات النهب والحصار والسيطرة والتبعية، والاجتماعي.
*مسؤول العلاقات السياسية
في الحزب الشيوعي اللبناني