هدأ الحراك الشبابي الغاضب في العراق بعد أسبوع من التظاهر اليومي وقدّم تضحيات جسيمة تجاوزت الأرقام المعلنة، عكست أساليب عنف تفضح النوايا والغايات التي تفاعلت في إدارة البلاد والعلاقة بين السلطات والشعب. وفي الوقت نفسه لا يعني هذا أن الأمور خُتمت وأن الغضب الشعبي بعد تلك الدماء سيسكت أو يتوقف نهائياً، مهما وعد أو أُغري بإصلاحات لا تتحقق عملياً أو واقعياً وتظل وعوداً كسابقاتها من الحكومات السابقة التي تركت المطالب المشروعة، بعد أن اعترفت بها لفظياً، من دون تنفيذ فعلي، بل زادت في أعمال الفساد والعرقلة فيها، ولأسباب لم تعد سرية، ومنها التدخلات الأجنبية.لقد أعلن رسمياً عن استشهاد مائة وأربعة مساء اليوم السابع 2019/10/7 وزادت في الليل إلى مائة وعشرة شهداء، وعن إصابة ستة آلاف وزاد العدد إلى ستة آلاف وخمسمائة مواطن عراقي، مدني وعسكري، وهناك من يضع ليس شكاً في ما أعلن وحسب، بل يعلن أرقاماً أخرى تتجاوز المعلن. وهي في كل الأحوال أرقام مجزرة دموية لا يمكن الصمت عليها أو تمريرها من دون المطالبة بمحاكمة وكشف المرتكبين لها والمنتهكين لأبسط الحقوق المشروعة والمتفق عليها قانونياً ودستورياً وإنسانياً.
بلغ السيل الزُّبى ولم تعد الوعود المعسولة مقبولة أو قادرة على إرضاء المحرومين والمحتاجين والجائعين فعلياً لا قولاً أو تعليقاً إعلامياً. رغم إسراع الرئاسات الثلاث في بغداد، (الجمهورية، مجلس الوزارة ومجلس النواب)، إلى الاجتماع والخطاب وتقديم برامج عمل إصلاحية لملاقاة المطالب التي رفعتها تظاهرات الغضب الشعبي، وإلى اتخاذ قرارات عاجلة لمعالجة المطالب وتوفير إمكانات وقدرات، ما يستدعي أسئلة عنها، لماذا لم تتوفر قبل ذلك وكانت أغلب المطالب معروفة ومرفوعة في الحراك الشعبي في الفترات السابقة، أو السنوات السابقة. وهل ستنفّذ بأكملها أم ستكون كسابقاتها، أقوالاً بلا أفعال، محاولات شراء وقت وتعليق الاحتجاجات الشعبية أو تجزئتها؟
وسائل العنف التي واجهت الحراك الشعبي الأخير، كشفت قسوة مفرطة وتعاملاً عدائياً لا يمكن أن يعبر عنه بشكل محايد، رغم الحديث عن طرف ثالث أو جهات مشبوهة وموجهة من جهات لها مصالح بإثارة العنف واستفزاز الحراك الشعبي وإثارة النقمة على الجهات السياسية الرسمية أو المشتركة معها في العملية السياسية. وهي أيضا وفي كل الأحوال يجب أن تُحاسب وتسجل كجرائم جنائية لا تمر مرور الكرام. وإيقاف الاعتداء والتهرب أو الإفلات من العقاب.
بلغ السيل الزّبى ولم تعد الوعود المعسولة مقبولة أو قادرة على إرضاء المحرومين


الهدوء والقرارات والوعود أمام اختبار، تتطلب إعادة النظر والاستفادة من دروس التجربة الماضية، وعدم التكرار أو المراوحة والقفز على الأسباب والمبررات والنتائج والتداعيات. والاهتمام الجدي بكل ما يصدر عن مسؤولين، أو نواب، أو إعلاميين ممارسين. فمثلاً يستدعي تصريح نائبة برلمانية، التوقف عنده ووضعه في مواجهة السلطة والتشريع والمسؤولية. إذ أعلنت النائبة عن «تحالف النصر» هدى سجاد، يوم الثلاثاء 2019/10/8 أن الأرقام المعلنة حول ضحايا المظاهرات غير دقيقة وتفوق الإحصائيات المعلنة. أليس هذا كلاماً مسؤولاً ويقتضي الدليل والمساءلة؟!
وقالت هدى لشبكة رووداو الإعلامية، إن «الإحصائيات الرسمية المعلنة من قبل الحكومة العراقية حول أعداد الضحايا غير دقيقة بعد أن استقبل مستشفى واحد فقط في العاصمة بغداد أكثر من 100 شهيد وعدد كبير من الجرحى». مشيرة إلى أن القمع والاستهداف العشوائيين اللذين طاولا شباب العراق سيدفعان بالبلاد نحو مزيد من التصعيد. وأضافت أن المحاصصة وعدم توزيع ثروات العراق بشكل عادل من الأسباب الرئيسة وراء تدهور الأوضاع يوماً بعد يوم منذ عام 2003 ولغاية الآن، مؤكدة أن المعالجات الحكومية لجميع أزمات العراق غير مدروسة وعقّدت المشهد السياسي والأمني والاقتصادي.
من جهتها وخلال فترة حراك الغضب وفي إطار التعاون والتنسيق المتواصل، لم تتوقف اللقاءات والاجتماعات بين الرئاسات الثلاث، ولاسيما بين رئيس مجلس الوزراء عادل عبدالمهدي، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ومناقشة الجهود المبذولة للاستجابة للمطالب المشروعة ولما ورد من مكتب المرجعية الدينية العليا في خطبة الجمعة، والطلبات التي سلّمها المتظاهرون في ضوء اللقاءات المباشرة والاتصالات التي أجريت مع ممثليهم، والتنسيق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، كما «جرى التباحث حول حزمة الإصلاحات والقرارات الأولى التي أعلنتها الحكومة والاستمرار في تقديمها وصولاً إلى تطمين أبناء الشعب على حرص السلطتين التنفيذية والتشريعية على الاستماع للمطالب المحقّة والاستجابة لها، الى جانب بحث الخروقات والاعتداءات التي أدت الى وقوع شهداء وجرحى من المتظاهرين وأفراد الأجهزة الأمنية، وتركيز الجهود على حفظ الأمن والاستقرار بعد عودة الأوضاع إلى طبيعتها في بغداد والمحافظات»، كما ورد من مكتب رئيس الوزراء يوم 2019/10/8.
مع كل ما حصل وما يمكن الإشارة إليه بأسف، عن تمكّن جهات لها مصالح في إثارة الفوضى وإشاعة عدم الاستقرار في العراق من نشر شعاراتها وأهدافها بقوة في هوامش الحراك الشعبي وتصويره وكأن الحراك خرج من أجل ما أرادته وليس احتجاجاً مطلبياً له دوافعه الواقعية، وعملت على تشويهه ورفع شعارات لا علاقة لها بالمطالب المشروعة النابعة من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي دفعت الى الاحتجاج والتظاهر وتصاعد الحراك الشعبي. لقد نجحت تلك الجهات وأمثالها أيضاً باستغلال إمكاناتها الإعلامية من تمرير ما خطّطت له وجعلت أوساطاً إعلامية وسياسية تزعم بمعارضتها للسلطات المتنفّذة في الدولة من تكرار وترديد الشعارات والفيديوات الممنتجة بإتقان وتقنية فنية متطورة وإعادة توزيعها وإرسالها ونشرها بغفلة أو بغباء حماسي مريب. الأمر الذي يفضح وعي وإدراك تلك الأوساط، أفراداً أو مجموعات، ودورها أيضاً في تعريض الوطن ومستقبل الشعب لأخطار إضافية وتدمير متسلسل.
هدأ الحراك الشبابي في العراق، وكانت تضحياته جسيمة ولم يعد يُجدي إنكار وقائع ما حصل ، ما يتطلب البحث عن سبل التغيير الحقيقي ورفع المظالم واستثمار الثروات لخدمة الشعب، والانطلاق ولو متأخراً، بمشروع وطني ديمقراطي تقدّمي يحفظ حقوق الإنسان وكرامته ويُمهّد لبناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية والحريات والسيادة والاستقلال الوطني.
*كاتب عراقي