«... وأخذ بيدي وسيّرني في بساتين النخيل وقال لي: لا تخرج منها. ثمّ ودّعني وعاد. وأنا لم أخرج منها إلّا مُراغِماً وسأعود إليها حين يؤذن لي. سفري كان مراغمةً في تخوم الأرض وفجاجها البعيدة، أجريته على وفق العادة التي قرّرها سيّدي ابراهيم الخوّاص حين قال لي: لا تمكث في البلد الواحد أكثر من أربعين يوماً. لكنّ الأرض جعلت تضيق وتضيق، فمنعتني من الامتثال لوصيّة نبيّ الغربة. لا يعني هذا أنّي أردت الخلاف عليه ... إلّا أنها الأرض هي التي اختلفت. وجبابرة وقتنا ليسوا كجبابرة زمانهم. هؤلاء أدهى وأخبث وأبعد كثيراً عن نبض البشريّة ولديهم من الوسائل ما لم يكن لأولئك. ونحن لهذا ملزمون بتغيير وسائلنا».هادي العلوي

الانقلاب الكبير
نظريتي هي أنّ الدولة، و«الدولة الوطنية»، قد لعبت دوراً إيجابياً ويخدم مواطنيها خلال مرحلةٍ قصيرةٍ، استثنائيةٍ، من التاريخ الحديث، تمتدّ بين خمسينيات القرن العشرين وسبعينياته (وقد شهدت تلك المرحلة، بالتوازي، ارتفاعاً كبيراً في مستوى حياة غالبية الناس في دول العالم الثالث وموقعهم الاجتماعي وتعليمهم وصحّتهم، من الشرق الأوسط إلى آسيا إلى أفريقيا). ذلك الطور التاريخي خرج في سياقٍ سياسيٍّ محدّد، أتاح - في الشرق وفي الغرب - ظهور دولةٍ «تنمويّة» يقترب بعضها من المثال الكونفوشيوسي عن الدولة الجيّدة (كما ينقله هادي العلوي)، أي الدولة التي تعمل لصالح شعبها. هذه الوضعية ارتبطت بشكلٍ مباشر بالتنافس المحموم في بدايات الحرب الباردة. أمام الخطر السوفياتي والشيوعي. لم يعد باستطاعة القوة الغربية المهيمنة أن تنظر إلى العالم الثالث كمحض مستعمرة، وأن تفلت - عبر الفرض والهيمنة - آليات السوق والربحيّة في مجتمعات الجنوب وتتركها نهباً للفقر والتخلّف، فيما الاتحاد السوفياتي والصين يعدان هذه الدول بتنميةٍ ودعمٍ وتحديثٍ يخدم الأكثرية.
المعبّر هنا هو أنّه، في الدول الحليفة للأميركيين، مثل كوريا وتايوان والكيان الصهيوني، لم يختلف نمط التنمية فعليّاً عن النموذج الاشتراكي الذي نشره السوفيات وقتها واعتنقته «الدولة الوطنية» في بداياتها: إصلاح زراعي، إعادة توزيع للملكية، تصنيع تقوده الدولة، شركات عامّة تهيمن على القطاعات الأساسيّة، وإنفاق كبير للدولة على التعليم والصحّة. بمعنى آخر، كما شرح العديد من الباحثين، سمحت أميركا لحلفائها باعتماد سياسات «اشتراكية»، تناقض كلام واشنطن عن حرية التجارة وقدسية الملكيّة، حتى تتمكّن هذه الأنظمة من الصمود أمام منافسيها (في كوريا الشمالية أو الصين أو إندونيسيا)، الذين يدمّرون الإقطاع ويوزّعون الأرض على الفلاحين ويبنون المدارس والمصانع.
ليس من المستغرب أبداً أنّ التجارب التي نجحت في الجنوب العالمي لم تنطلق من شروط السّوق الرأسمالي الحرّ، فمهمّة الدّولة (كما يشرح كارل بولاني وآخرين) هو أن تحمي المواطن من «السّوق» لا أن تدمجه فيه. السياسات «القديمة» للدولة الوطنية، مثل تثبيت أسعار الغذاء والمحاصيل والحفاظ على سعر عملة مناسب للمستهلكين والاقتصاد، وباقي الإجراءات «الحمائية» هي مصمّمة فعلياً لكي تقي المواطن من السّوق وتصنع حاجزاً بينه وبين أزمات السّوق الدّولي وصدماته التي لا يمكن التنبؤ بها. وكلمة «السوق» هنا تجوز بالمعنيين: أي منع السوق الدولي من التحكّم بأساسيات حياة الناس (حتى يتمكنوا من العيش والعمل ضمن حدٍّ من الاستقرار والأمان)، وأيضاً منع السوق الداخلي من أن يتوسّع ويهيمن على قطاعات حيويّة في المجتمع، فيخضعها لآلياته ويصبح الوصول إلى الماء أو الكهرباء، مثلاً، ترفاً لا يملك الجميع ثمنه، أو يقسم توزيع العلم والمعرفة بحسب من يقدر على تحمّل كلفة التعليم الخاص، فيما البقية ينالون تعليماً رديئاً لا يعصم عن الأميّة (في التعليم تحديداً، التجربة التاريخية تفيد بأنّ التعليم الرسمي سيكون دوماً رديئاً مهمَلاً - إلّا حين يرتاده أبناء النخبة والحاكمون أسوة ببقية الشعب).
ما أقوله هنا هو أنّ المرحلة «النيوليبراليّة» في العقود الأخيرة قد أعادت الدولة إلى الدّور التقليدي الذي تلعبه المؤسسات السياسية منذ بدء التاريخ، مع استثناءات قليلة للغاية، أي أداة للغلبة وللاستغلال، تشرّع قسمةً غير عادلة للأرض والموارد وتعيد إنتاجها، وتخلق في الوقت ذاته طبقةً من «أبناء الدولة» وسادتها، تحصّل قوتها وريعها من حقوق عموم الشعب. ولكنّنا لا نشهد «عودةً إلى التاريخ»، إلى دول الكهنوت والاقطاع والأباطرة، فالرأسمالية الحديثة غيّرت شروط اللعبة بالكامل. «النظام القديم» - سواء كان السلطنة العثمانية أو دولة المماليك أو غيرها - كانت له فلسفة أخلاقية (رجعيّة) تقوم على استدامة الاستقرار وصون «النظام الطبيعي»؛ أن يظلّ الفلّاح فلّاحاً والسيّد سيّداً والعلاقة بينهما واضحة. الاستقرار بثمن الاستغلال و«ريع» يحصّله الحاكم/الغازي ويصبّ في عاصمته.
تحمل الذاكرة الشعبية والقصص التراثية الكثير عن أخبار الخلفاء والأباطرة وجبابرة الماضي، وعن بلاطهم وبذخهم ومجونهم، حتّى أنّنا نتخيّلهم كمثالٍ أعلى عن الفساد والاستغلال. غير أنّ الرأسمالية الحديثة، في الحقيقة، هي شيءٌ «أخطر» بكثير، لا باعتبارها مُشخصَنة في عباءة سلطانٍ باذخ حوله بلاط، بل باعتبارها آليةً للرّبح والتراكم اللاعقلاني، الربح والتراكم لذاته ومن دون حدود. الرأسمالية لا تملك «فلسفةً» (رجعية أو تقدّمية) ولا تقاليد، ولهذا هي تقدر - حين تجد مناخاً دولياً ومحلياً ملائماً - على اجتياح المجتمع وتغييره وقلب معاشه ومقاييسه وأخلاقه، وبسرعةٍ مذهلة. من هنا، فإن كان النظام الملكي والإقطاعي القديم يقدر على الاستمرار لفتراتٍ طويلةٍ تُقاس بالقرون، فإنّ طبيعة النظام النيوليبرالي الذي نعرفه اليوم تذرّي المجتمع إلى درجةٍ لا تسمح له بالاستمرار والاستقرار: كما كتب كارل بولاني قبل أكثر من سبعين سنة، فإنّ الإفقار والأزمات والقسمة المتصاعدة بين «الخاسرين» و«الرابحين» لن تترك لك سوى «بقايا مجتمع» تمّ تهشيمه بعد أن تفلت الرأسمالية الحديثة عليه بلا لجام أو «حركة مضادة». حين تقول غابرييلا راموس مؤخّراً (وهي مديرة منظمة التعاون الاقتصادي «اليمينيّة») أن نصف سكان الكوكب لم يشهدوا ارتفاعاً في معيشتهم خلال العقدين الأخيرين، رغم التقدم التكنولوجي وارتفاع الإنتاجية وتراكم الثروة، فهي تحيل إلى هذه العمليّة. وحين تشكّك راموس بقيمة الديمقراطية في ظلّ التفاوت الهائل في المجتمع (من سيموّل الحملات الانتخابية؟ من سيملك الإعلام؟)، فهذا صوتٌ يمينيّ يقول ما تعجز الكثير من النّخب في بلادنا عن الاعتراف به. المسألة ببساطة هي في أن تفهم، حين تختار الطريق الرأسمالي أو تعتبره قدراً لا بدّ منه، معنى الخيار الذي تلتزم به وكلفته وطبيعة المجتمع الذي سينتج عنه.

خياراتٌ وحلول
إن كانت عمليّة الإفقار والتفاوت تمضي في كلّ العالم، فإنّ نتائجها الأفدح (وتطبيقاتها الأكثر تطرّفاً) تجري في أطراف النظام وهوامشه، في لبنان ومصر والعراق وباكستان؛ الدول التي تمّ تسليمها إلى النظام الدولي وإلى السوق بلا شروط، وقد استغلّت نخبها الوضعية الجديدة لـ«الدولة الوطنية» في العصر النيوليبرالي إلى الحدّ الأقصى. لبنان هنا هو مجرّد حالة متطرّفة، بمعنى أنّ من «يشرف» على الدولة ويستفيد من ريعها ومن النظام الاقتصادي الذي تحرسه قد بالغ في «التراكم اللاعقلاني» حتّى أصبح النظام بأكمله في خطر ولا يقدر على الاستمرار. في لبنان كمثال، لم تكتفِ الدولة بـ«الانسحاب» من المسؤولية الاجتماعية، والاكتفاء بحراسة التخصيص ودمج البلد في السوق الدولي، بل قرّرت طبقة كاملة أن تثري على حساب الدولة، وأن تراكم عبر الاستدانة (أي عبر السحب من رصيد المجتمع في المستقبل)، حتى أصبح لبنان أحد أكبر الدول المدينة في العالم، وشعبه يعمل ويدفع الضرائب ويحتمل الفقر حتى يسدّد الفوائد (أي الأرباح) للدائنين - وهي «دورة تراكم» من الممكن أن تستمرّ الى الأبد لولا أن حجم الدين أصبح أكبر بكثير من حجم الاقتصاد وأوشك على أن يبتلعه. العراق حالة متطرّفة أخرى: مثلما كانت الحرب الأهلية في لبنان بمثابة «مسح للطاولة» سمح لرفيق الحريري بإعادة هندسة الاقتصاد بحريّةٍ وبلا عوائق، فإنّ الاحتلال وتدمير الدولة العراقية جعلا العراق «ميدان تجارب» مفتوحاً لتزاوج النيوليبرالية والفساد، في ظلّ غياب السيادة. ولكنّ لبنان والعراق هما نذيرٌ لما سنراه قريباً في الأردن ومصر والمغرب وغيرها، حيث نمط التراكم لا يختلف بنيوياً عن «النموذج اللبناني» والمسار العام متشابه، ولكنّه ببساطة متخلّف زمنياً عنه.
هل الدّين العام في لبنان، مثلاً، هو حقّاً فاتورةٌ على الشّعب أن يدفعها - بفساد أم من غير فساد - أم يحقّ لنا إلغاؤه ومصادرته؟


المسألة، باختصار، هي أنّه خيارٌ بين «اشتراكية الأثرياء» كما يسمّيها البعض، حيث نتشارك كلّنا لدفع الثروة «الى فوق»، وبين اشتراكيّة للجميع، والحلم بإيجاد حلٍّ وسطٍ بينهما كان سراباً وانتهى - وبخاصّة في دول الجنوب حيث لا تملك أصلاً سيادةً أو إمكانية لتقرير شكل دولتك واقتصادك ومصيرك. سوف نشهد في السنوات القادمة الآثار الاجتماعيّة لتراكم العقود الماضية، بأشكالٍ مختلفة، وستكون هناك فئاتٌ كثيرة تنادي بحلول. أجد مشكلتين سائدتين في مقاربة هذه الأزمات: نظرية «الفساد» ونظرية التغيير الديمقراطي. أوّلاً، تلخيص أزمة المجتمع تحت تيمة أخلاقية هي «الفساد» قد يكون سلوكاً جاذباً وشعبويّاً، وهو عماد كلّ من ينتهج الحلّ «الإصلاحي» (أن تزيل الشرعيّة عن الطاقم الحاكم أو جزءٍ منه باعتبارهم فاسدين، ثمّ تطرح نفسك كـ«فريقٍ أصلح» سيدير الدولة بنزاهة وكفاءة، فنبني بلداً حرّاً وشعباً سعيداً). هذه النظرة تخفي أنّ المشكلة ليست في فساد الدولة وتحوير السياسات لصالح مصالح خاصّة، بل هي في أصل هذه الدولة والسياسات، التي تنتج الفقر وتترك المواطنين عراةً أمام السوق. و«الحلّ» هنا يستلزم أسئلة صعبة: أن تعيد النظر في توزيع الملكيّة (هل الدّين العام في لبنان، مثلاً، هو حقّاً فاتورةٌ على الشّعب أن يدفعها - بفساد أم من غير فساد - أم يحقّ لنا إلغاؤه ومصادرته؟ هذا هو السؤال الحقيقي في لبنان اليوم)، وأن تعيد النّظر في موقعك في العالم وعلاقاتك مع الدّول الأخرى، بل وأن تعيد النّظر في حدودك السياسية ومجالك الاقتصادي. حين نصل إلى هذه الأسئلة، لن يكون الناشط ضدّ «الفساد» معك، ولن تموّل منظمات دوليّة ناشطين يتداولون بهذه الأمور، وليس هذا نهج «الإصلاح» الذي في رؤوسهم.
«الحلّ» الثاني، الذي يفترض أنّ المشكلة هي في الاستبداد وحلّها يأتي عبر «الديمقراطية»، يفهم المسألة - في رأيي - بشكلٍ معكوس. هم يفترضون أنّ هناك «آلة» محايدة اسمها «الدولة» وأنّه يكفي أن يتمّ «فتحها» عبر الانتخابات حتى تقوم الديمقراطية بتغيير النظام الاجتماعي والاقتصادي لصالح النّاس. المشكلة هي أنّ النظام الاجتماعي والاقتصادي هو الذي يخلق الدولة وليس العكس، والدولة في عصرنا هذا يتمثّل دورها في أن تحمي هذا النّظام وترعاه وتعبّر عن مصالحه، لا أن تغيّره وتتحدّاه. المقصد هو أنّ الديمقراطيّة - الفعليّة - التي ننشدها غير ممكنة «بالقوّة» في ظلّ هذا النظام: مصر بشكلها الحالي لا «تحتمل» ديمقراطيّة أكثر من نظام حسني مبارك (ودول الغرب قد فهمت هذه المعادلة)، والحصول على ديمقراطيّة «أكثر» يكون عبر تحدّي أسس هذا النّظام وحلفائه ورعاته، وليس عبر تعديلٍ في الرئاسة أو شكل الديمقراطية الإجرائية - وهذه، وإن سمحوا لك بها، فمن السهل تزييفها والتحكم بها وتحويلها الى هزل، كما يجري في لبنان أو العراق. مبارك (أو السيسي) هو الذي يحتاج إلى أميركا وإسرائيل وأحمد عزّ وسويرس وليس العكس. وهو قد يغادر ولكن هذه المصالح وبناها ستستمرّ وتخلق بديلاً. نمط الريع في لبنان هو الذي يحتاج إلى نظام شبه-ديمقراطي طوائفي فاسد، وليس العكس؛ والطبيعة «الديمقراطية» للنظام اللبناني والعراقي، ودورة الانتخابات وتغيير الوجوه، أصبحت من أسباب استدامته. المسألة هي أنّ كلّ حالة «انتقالٍ» في مجتمع سعت الى تغيير قواعد الملكيّة والتراتبية بين النّاس، منذ ثورة الزّنج الى الثورة الكوبيّة، لم تأتِ عبر الليبرالية والانتخابات.

عن «الشعب»، مجدّداً 
الحلّ السهل هنا هو أن تطالب بثورة شعبيّة تطيح بالنظام وتحقّق «الاشتراكيّة» والعدالة للجميع. ولكن أي «ثورة» وأي «شعب»؟ هنا، يجب علينا أن نعود مجدّداً الى هادي العلوي، الذي كان يفرّق تفريقاً حازماً بين فكرةٍ تكون «عقليّة» بحت، نظريّةٌ يتناولها المثقفون حصراً، وبين أن تكون لهذه الفكرة تأثير حقيقيّ على الناس وواقعهم. والناس لا يسيرون خلف عقيدةٍ ما إلّا إن اختبروا أنّهم يغيّرون واقعهم المحسوس. أي أنّ «الاشتراكية» لا قيمة لها كفكرةٍ مجرّدة، وإن كانت «صحيحة»، إن لم تتحوّل الى عقيدةٍ تنفع الناس في معاشهم ونضالهم. يدلّل العلوي على ذلك (في «حوار الحاضر والمستقبل») بأنّ الدّولة الاشتراكية في أوروبا والصين، حين «تبقرطت» ولم تعد تمثّل الشعب، وحصل انفصالٌ بين الواقع والعقيدة، تخلّى الناس ببساطة عن الاشتراكيّة وكفروا بها (وإن كانت الفكرة لم تتغيّر، وكان الفلّاحون مستعدّين للموت من أجلها حين كانوا يواجهون عبرها أعداءهم، ويستملكون أرضهم ومشاعهم بفضل ثمارها). حتى الديمقراطية والنظام الانتخابي، حين تتحوّل إلى أداة لهيمنة القلّة، يأنف منها النّاس ويخرجون عليها. على الهامش: «نضال وسائل التّواصل»، عن بعد، هو الشكل الأصفى من السياسة «العقليّة» التي حذّر منها العلوي، وهي تجري في مساحة افتراضية بالكامل، ومن يتوهّم أنّه يوجّه الجماهير عبر الـ«فايسبوك» من قارّة أخرى، أو يصدر عبره أحكام القتل والإعدام، فهو يستحقّ الشفقة لا العداء، والعيب هو على من يأخذه على محمل الجدّ والمسؤولية.
الاشتراكيّة بمعناها الأعمق هي الديمقراطية الحقّة، أي أن تحكم نفسك بنفسك، ويكون لك سيادة في معاشك وفي محلّتك وفي مكان عملك، وأنت سيّدٌ في وطنٍ حرّ. الناس لا يقدّرون أو يصدّقون من يكتب المقالات ويطلق الشعارات (لماكس فيبر محاججة مهمّة عن عجز الصحافي عن أن يكون سياسيّاً، تستحقّ نقاشاً في مقالٍ قادم)، بل هم يحفظون جميل من يعيش بينهم، ويساعدهم فعلاً على تحسين ظروفهم وتحصيل حقوقهم، سواء كانت حركةً تنظّم النّاس وتثقّفهم وتساندهم، أو شيخاً يحضنهم ويلهمهم ويوجّههم. والشعب يقدّر أيضاً من يضحّي من أجله ويقاتل ويستشهد من أجل تحريره، وينظر الى عقيدته باحترامٍ وتعاطف (ولهذا السّبب تجد دائماً بين من لا يعرف التضحية ومعناها، من المترفين والمثقفين، عداءً وحقداً تجاه كلّ مقاوم). هذان هما الطريقان المفتوحان للتغيير، أمّا أن تتمسّح باسم «الشعب» وأنت قد انفصلت عنه، وأن تترك أهلك فريسةً للتشرذم والجهل والفقر، ثمّ تتحدّث عند أول مناسبة باسم «شعبٍ أصيل» متخيّل هو، على شاكلة كائن خرافي، على وشك أن يظهر فجأةً ويغيّر كلّ شيء، فهذا جوهر النّفاق والنّرجسيّة. وحين يخرج «الشعب» يدفعه الألم أو اليأس أو الشعور المتراكم بالظّلم، وأنت تراهن على «العفويّة» من بعيد، فلا تستغرب إن بدا شعبك عنيفاً، أو جاهلاً، أو «تعوزه القيادة» ويسهل التسلّق على تضحياته من قبل الأعداء.
كان هادي العلوي يتحدّث عن ضرورة «أقلمة» الاشتراكيّة وإعطائها اسماً محليّاً، حتّى تخرج من ثنايا «الثقافة المترجمة» وتنغرس في قضايا اجتماعية حقيقية: رفع الاستغلال، محاربة الطبقات الطفيلية، حرب التحرير. علينا تغيير الوسائل. كما يشير حسن الخلف، فإنّ حالة «الثورة الكاملة» الانقلابية، النموذج الذي يتخيّله الكثيرون، هي في الحقيقة حالة نادرة، لا يمكن الرّهان عليها، وهي لا تتجاوز حفنةً من النجاحات حول العالم في القرنين الأخيرين (مقابل العشرات من الهزائم والنكسات والأمثلة المأسوية). أن تبني مشروعاً مشاعيّاً محليّاً يكون بذرةً، أو تنظيماً اجتماعياً صغيراً، قد يكون عملاً أكثر فائدة في مرحلتنا هذه من التنظير عن بناء الفردوس الأرضي. عالمنا على وشك الانفجار، وأعداؤنا كثر ولهم الهيمنة، بل والقدرة على تزييف الواقع، والشّعب لن يثق بمن يمدحه ويتكلّم باسمه، بل بمن يتماهى معه ويضحّي لأجله ويساعده، بالمعنى المادّي الملموس، على شقّ الطّريق - وهذا قبل أيّ شيءٍ قرارٌ فرديّ تُظهره خياراتك، ولا يمكنك محاكاته عبر الفصاحة واللغة.