بحكم موقعه عند ملتقى القارات الثلاث للعالم القديم، شكّل المشرق الكبير (غرب آسيا) محطة رئيسة في طريق هجرة الإنسان القديم من القرن الأفريقي، قبل نحو 70 ألف سنة، لينتشر بعدها نحو مختلف أصقاع الأرض. وتؤكد الدلائل الجينية أن أسلاف غالبية سكان أوراسيا وأميركا وشمال وأفريقيا وشرقها، كانوا قد عاشوا في هذا المشرق لآلاف السنين قبل أن يهاجروا في موجات إلى مواطنهم الحالية، مدفوعين بالتغيرات المناخية، أو سعياً وراء موارد أوفر للمعاش. وقد مرّ التكوين الجينومي لشعوب المنطقة بتحولات كثيرة قبل أن يصل إلى صورته الراهنة؛ بدءاً من اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات قبل حوالى 12000 سنة، ومروراً بتعاقب الإمبراطوريات الكبرى منذ العصر البرونزي، وحتى الهجرات الكثيفة إبان الاجتياح المغولى، وأواخر الحقبة العثمانية.
من أنماط الحياة في الهلال الخصيب (ستيفانو بيانشيتي)

وفيما يشكل المشرق الآن، إقليماً جينومياً واحداً متجانساً نسبياً (انظر الخارطة 1)، فإنه لم يكن كذلك دائماً. فقد أظهرت الحفريات الجينومية لفريق من جامعة هارفرد (Lazaridis et al. 2016) أن المجتمعات المشرقية الثلاثة، في كل من سوريا والأناضول وغرب إيران (جبال زاغروس) كانت حتى مطلع العصر الحجري الحديث، على قدر كبير من التباين الجيني، يرقى إلى حد التمايز العرقي البَيِّن. وأن انتقال تلك المجتمعات من نمط المعاش القائم على الصيد والتقاط الثمار، إلى الزراعة وتربية الحيوانات، قد جرى، بداية، عبر تحول ذاتي وتدريجي في الفترة ما بين 10000-9000 ق.م، وليس نتيجة لهجرات وافدة حملت معها النمط الجديد من خارجها.
بيد أن النمو الديموغرافي الكبير الناجم عن وفرة الغذاء التي أتاحتها الثورة الزراعية، وما نتج عنه من سعي محموم للاستحواذ على أراضٍ جديدة تصلح للزراعة و/أو رعي الماشية، والتغيرات المناخية، أدت إلى إطلاق موجات متتالية من الهجرات في كل الاتجاهات. ففضلاً عن الهجرات المتبادلة ما بين تلك المجتمعات الثلاثة، انطلقت هجرات أخرى نحو خارجها أيضاً؛ من الأناضول شمالاً وغرباً نحو أوروبا التي كان الجليد قد انحسر عنها للتو، ومن جنوب الشام انطلقت القبائل الرعوية نحو شبه الجزيرة العربية، والفلاحون والرُعيان نحو شمال وشرق أفريقيا، ومن إيران شرقاً نحو جنوب آسيا، وشمالاً إلى السهوب الأوراسية، ناشرة معها نمطَيْ معاشها الزراعي والرعوي، وكذلك جيناتها وثقافتها. وهكذا، وعلى مدى الآلاف الخمسة التالية، انتشر المشرقيون، ومعهم نباتاتهم وحيواناتهم المُدجَّنة، على امتداد غرب أوراسيا (غرب آسيا وكل أوروبا) وأرجاء أخرى من العالم. فيما أدى التزاوج بين الفلاحين والرُعيان الوافدين مع الصيادين المحليين، إلى تمازج مجتمعات تليدة كانت في الأساس متباعدة جغرافياً وجينومياً، وهو ما يفسر التجانس الجيني النسبي لسكان غرب أوراسيا الحاليين (انظر الخارطة 2). كذلك أظهر البحث، الذي شمل عيّنات الحمض النووي DNA المستخرج من رُفات 44 فرداً عاشوا في أصقاع مختلفة من المشرق على امتداد الفترة ما بين 12000-1400 ق.م، أن الفلاحين السوريين الأوائل، استمدوا نحو ثلثي جيناتهم من صيادي الحضارة النطوفية السورية (12500-9500 ق.م)، والثلث الباقي من فلاحي الأناضول. أما الفلاحون الأوائل في غرب إيران، فيبدو أنهم انبثقوا أساساً من الصيادين وجامعيْ الثمار المحليين، الذين كانوا قد انفصلوا عن جيرانهم الأناضوليين، ربما بُعيد خروجهم من أفريقيا قبل 46000-77000 سنة، وكانوا يبدون وقتها أقرب جينياً إلى سكان باكستان وأفغانستان، والزرادشتيين الإيرانيين الحاليين خصوصاً (Broushaki et al. 2016).
بيد أن الصورة ستبدو مختلفة جداً خلال العصرين النحاسي (الألف الخامس ق.م) والبرونزي (3300 ق.م). فسكان غرب إيران في العصر النحاسي كانوا نتاجاً لتمازج أسلافهم المحليين من العصر الحجري الحديث (سنسميه اختصاراً «النيوليتي») مع فلاحين سوريين وصيادين من القوقاز. في المقابل، نجد أن 44% من سوريي العصر البرونزي، و33% من أناضولييْ العصر النحاسي، كانوا ينحدرون من أصول غرب إيرانية. كما أظهر البحث تشابه التكوين الجينومي لسكان إيران في العصر النحاسي، مع كلّ من سكان أرمينيا في العصرين النحاسي والبرونزي، والأناضول في العصر النحاسي، وإن بدرجات متفاوتة.
وخلص بحث آخر (Harney et al. 2018) تناول الحمض النووي المستخرَج من رُفات 22 شخصاً وُجِدت قبورهم قرب بلدة البقيعة في الجليل الأعلى (4500-3900 ق. م) إلى أن سكان جنوب سوريا في العصر النحاسي، كانوا يستمدون نحو 57% من جيناتهم من أسلافهم سورييْ العصر النيوليتي (النطوفيين)، و26% من جيرانهم أناضوليي النحاسي، و17% من إيرانيي النحاسي. أما في العصر البرونزي، فكان توَزع تكوينهم الجينومي: 58% من سوريا النيوليتي، 42% من إيران النحاسي، والقليل جداً أو لا شيء من الأناضول النيوليتي. ويدلّ وجود العنصر الإيراني النحاسي في كلتا الحالتين، إلى استيعاب جنوب سوريا لهجرات كبيرة من الفلاحين الإيرانيين خلال أو قبل العصر النحاسي.
وفي العصر البرونزي أيضاً، أظهرت دراسة أخرى (Haber et al. 2017) شملت الحمض النووي المستخرج من رُفات 5 أفراد من سكان مدينة صيدا في ذلك العصر، تسميهم الدراسة «كنعانيين»، أنهم كانوا يستمدّون جيناتهم، مناصفة تقريباً، من كلٍّ من نطوفيي سوريا في العصر النيوليتي، وإيرانيي العصر النحاسي. وقدَّرت أن تدفق العناصر الإيرانية قد حصل ما بين 6,600 إلى 3,550 سنة. ولربما ارتبط ذلك بالهجرات الكثيفة من شمال الهلال الخصيب نحو جنوبه، جرّاء الجفاف الشديد الذي ضرب المنطقة وأدى إلى انهيار الإمبراطورية الأكدية حوالى القرن الثاني والعشرين ق.م.
وتبيّن الدراسة أيضاً، أن التكوين الجينومي لسكان سوريا في العصر الحديدي، في الساحل والداخل، كان مستمدّاً بنسبة 93% من أمثال أولئك «الكنعانيين» الصيداويين الخمسة، والباقي (7%) من السهوب الأوراسية (لعل مصدرها حثيّ!)، وهو قريب جداً من تكوينهم الحالي. ثم تلاحظ، أن مؤشر التنوع الجيني قد ازداد في سوريا ما بين العصرين النيوليتي والبرونزي، وأن ذلك قد تجلّى في الشمال أكثر منه في الجنوب. وترافقت عمليات المجانسة بين المجموعات، والتي كانت قد بلغت مستواها الحالي تقريباً بحلول العصر النحاسي، مع زيادة في التنوع داخل كل مجموعة. ويُستفاد من إشارة البحث إلى تماثل التكوين الجينومي لكل من الساحل والداخل السوريين، أن تسمياتٍ مثل: الكنعانيين، العمّوريين، الآراميين، العرب، وبعضها محض تلفيق من كهنة التوراة ومستشرقيه، كانت تدل، عملياً، على تفرعات وتلاوين محلية، أو أطوار حضارية ولغوية متعاقبة، لكتلة بشرية واحدة، متجانسة جينومياً منذ العصر البرونزي. وهو ما أكدته من جديد دراسة حديثة صدرت مطلع الصيف الفائت (Feldman et al. 2019) كُرِّست أساساً للتحري عن الآثار الجينية الموروثة من شعوب البحر، الفلاستو تحديداً، والذين استوطنوا جنوب الساحل الفلسطيني في القرن الثاني عشر ق.م. وقد خلصت الدراسة إلى تأكيد ثبات التكوين الجينومي لجنوب سورية على مدى العصر البرونزي، ومروراً بالحديدي إلى وقتنا الحاصر، وإلى تلاشي الآثار الجينية للفلاستو في وقت لاحق من العصر الحديدي. وكان تحليل عيّنة مستخرجة من «تل حسنلو» شمال غرب إيران (حوالى 832 ق.م) قد أظهر أيضاً، التشابه الكبير بين إيرانيي العصر الحديدي وأحفادهم المعاصرين (Broushaki et al. 2016).

الأنساب الأبوية والأمومية لشعوب المشرق
إلى هنا كان بحثنا منصباً على الحمض النووي الجسماني autosomal DNA، الذي يحدد الخصائص البيولوجية للإنسان. ولكن ماذا عن الصِبغي (الكروموزوم) Y الذي يرثه الذكور من آبائهم، ويحدّد المجموعات الفردانية الأبوية Y-DNA haplogroups أو الأنساب الأبوية للجماعات؟
تنحدر الغالبية الساحقة من سكان المشرق، على اختلاف هوياتهم الإثنية والدينية، من أصلاب حفنة من الرجال الذين عاشوا فيه خلال العصر الحجري القديم. وفيما نكاد نجهل كلّ شيء عن أولئك الرجال، فإنّ ما نعرفه على وجه اليقين، هو تلك الأنساق المميزة لتعاقب الطفرات mutations في الشيفرات الجينية للصِبغي Y الخاص بكلٍ منهم، والتي أورثوها لسائر الذكور من ذُريّاتهم. بيد أنه يمكننا التكهن بأنهم ربما كانوا على قدرٍ أكبر من القوة و/أو الثروة، النفوذ، الجاذبية، الفحولة، والأهم، الحظ. وذلك بدليل أنهم تمكنوا من إنجاب ذُرّيات باتت تُعَدّ الآن بعشرات الملايين؛ فيما انقرضت، أو كادت، ذُريّات كثيرين غيرهم، من الأقل حظوة. ويتربَّع كل من هؤلاء الأجداد المؤسسين على رأس مجموعة فردانية أبوية تضم كل الذكور من ذُريّاتهم. وأبرز هذه المجموعات هي: J (بفرعيها J1 وJ2)، وE بفرعها المشرقي E1b1b، وR1 (بفرعيها R1a وR1b، I2، G، وT).
المجموعة الفردانية J) J-M304): تُعدّ الأوسع انتشاراً في بلدان المشرق الكبير، حيث تُقدَّر حصتها بحوالى 54.4% في سورية، 46.4% في لبنان، 62.5% في العراق، 50.1% في الأردن، 55.2% في فلسطين، 31.5% في إيران، 33.3% في تركيا، 32.5% في أرمينيا، 41.5% في أذربيجان.ii وهي تنتشر كذلك، وبنسب مختلفة، على امتداد العالم العربي، والمناطق المجاورة؛ من آسيا الوسطى والقوقاز إلى جنوب أوروبا وحتى القرن الأفريقي. يعُتقد بأن الجد الأول لهذه المجموعة قد عاش في المشرق قبل نحو 48000 سنة. وانبثقت عنها فيما بعد المجموعة J1) J-M267)، ثم J2) J-M172). الأولى أكثر انتشاراً بين العرب وفي بعض مناطق القوقاز (الشيشان وآفار داغستان مثلاً)، فيما الثانية أكثر انتشاراً في الأناضول وإيران وغرب سوريا وشمال العراق. فمثلاً، من بين «الكنعانيين» الصيداويين الخمسة من العصر البرونزي الذين سبق أن أشرنا إليهم أعلاه (Haber et al. 2017)، كان ثمة ذكران، أحدهما من المجموعة J1، والآخر من J2. سيكون لنا وقفة تفصيلية مع هذه المجموعة في مقالة مقبلة، تتناول أصول العرب وموطنهم الأول.
المجموعة R1: يُقدَّر بأن الجد الأول لهذه المجموعة كان من صيادي الماموث في سيبريا قبل نحو 27000 سنة. وهي المجموعة الأكثر انتشاراً في أوروبا، حيث يسود الفرع R1a في شرقها وR1b في غربها. وفيما يُعتقد أن الأولى نشأت في آسيا الوسطى، فإنه من المتفق عليه أن الثانية نشأت في المشرق قبل نحو 25000 سنة، وهي الأكثر انتشاراً فيه.
انطلقت مسيرة الاندماج والتكامل الإقليمي في المشرق مع الثورة النيوليتية الزراعية/الرعوية قبل أكثر من عشرة آلاف سنة


المجموعة E (الفرع E1b1b): وهي ذات منشأ شرق أفريقي (قبل حوالى 42000 سنة). استوطنت جنوب سوريا منذ العصر الحجري القديم، ومنه انتشرت لاحقاً نحو أوراسيا وشمال وشرق أفريقيا. ثلاثة من أصل خمسة ذكور عُثِر على رُفاتهم في أحد كهوف الجليل الأعلى، والعائدة للحضارة النطوفية في العصر الحجري الوسيط، كانت تنتسب إلى هذه المجموعة، فيما كان الباقيان من المجموعة T (Lazaridis et al. 2016). وثمة انتشار أقل، متفاوت إجمالاً، لمجموعات أخرى.
وبالمثل، تلتقي الأنساب الأمومية لغالبية أهالي المشرق في أرحام نساء عِشْنَ فيه خلال العصر الحجري القديم. ويكشف فحص الحمض النووي الميتوكوندري mtDNA الذي نرثه من جهة أمهاتنا حصراً، أن نحو ربع سكان المشرق ينتسبون إلى المجموعة الفردانية الأمومية H، حيث تقدر نسب المُتحدّرين منها بحوالى 26.2% في سورية، 33.8% في لبنان، 17.2% في العراق، 25.2% في الأردن، 27.4% في فلسطين، 16.9% في إيران، 30.8% في تركيا، 29.1% في أرمينيا، 23.3% في أذربيجان. وتنتشر هذه المجموعة المشرقية الأصيلة بنسب أكبر في أوروبا، حيث تترواح هناك ما بين 40 إلى 50%.
كذلك تضم المجموعة الفردانية الأمومية T، بفرعيها T1 وT2، نحو عُشر سكان المشرق. ويبلغ عمر هذه المجموعة المشرقية نحو 25000 سنة. وأخيراً، المجموعة U، التي نشأت في غرب آسيا قبل نحو 46000 سنة، وتنتشر في سائر بلدان المشرق بنسب متفاوتة.
الجدير بالذكر، أن جميع هذه المجموعات الفردانية المشرقية، الأبوية منها والأمومية، تنتشر أيضاً، بهذه النسبة أو تلك، في معظم أرجاء غرب أوراسيا، وآسيا الوسطى، وشمال أفريقيا ومناطق أخرى في العالم. معظم هذا الانتشار يعود إلى هجرات الفلاحين والرُعيان المشرقيين الأوائل، التي أشرنا إليها آنفاً. وفيما اقتصر تناولنا لهذه المجموعات على أروماتها الرئيسة بغرض الإيجاز، فإن كل واحدة منها تتشعَّب بدورها إلى عشرات المجموعات الفرعية، لكل منها تاريخها وخرائط ونِسب انتشارها وتلاوينها الإثنية.

ماذا عن العراق؟
لم نعثر على دراسات تتناول عيّنات حمض نووي موغلة في القدم من عراق ما قبل التاريخ. ولعل أسباب ذلك تعود إلى الظروف القاسية التي مر بها العراق خلال العقود الأخيرة، وصعوبة العثور على حمض نووي قديم يصلح للاختبار، نتيجة لمناخه الحار. ولكن نظراً إلى أن العراق يشكل الباحة الأمامية لقوس سلسلة جبال زاغروس، فمن الطبيعي الافتراض بأنه كان بوتقة للتمازج بين الكتل البشرية المشرقية الثلاث المحيطة به، وهو ما يشي به فعلاً التكوين الجينومي للعراقيين الحاليين.
سنعرض بهذا الصدد دراستين: الأولى (Al-Zahery et al. ‎2011) تناولت الأنساب الأبوية والأمومية لعيّنة ضمت 143 عراقياً من عرب الأهوار (المعدان) جنوب العراق، وخَلُصت إلى أنهم، وخلافاً للكثير من السرديات المتداولة، لم يَفِدوا إلى المنطقة من بعيد (غالباً الهند)، بل هم من سكانها منذ آلاف السنين. وتُرجِّح النتائج بأن يكون المعدان هم أحفاد أولئك السومريين، الذين عاشوا في المنطقة عينها منذ مطلع الألف الخامسة على أقل تقدير، ومارسوا فيها أنماط اًمعيشية شبيهة بنمط عيشهم البرمائي الفريد. وهو ما يعني أن السومريين أنفسهم كانوا أيضاً من سكان المنطقة الأصليين، ولم يَفِدوا إليها من خارجها كما كان يُعتقد سابقاً. وأظهرت الدراسة أيضاً، أن الآثار الجينية ذات المصدر الهندي ضيئلة جداً، خاصة من جهة الأنساب الأبوية. ورجحت أن يكون انتشارها المحدود في الجهة الأمومية، قد واكب إدخال زراعة الأرز وتربية جواميس الماء في الأهواز أواسط الألف الثالثة ق.م من بلاد الهند.
أما الدراسة الثانية (Dogan et al. 2017) فقد تناولت الأنساب الأبوية لخمسمئة عراقيٍّ من الشمال، موزعين بشكل متناسب ما بين عرب وكرد وتركمان وإيزيديين وسريان (آشوريين وكلدان). وانصبَّ البحث على مدى تجانس أو تنوّع تلك الأنساب ضمن حدود كل مجموعة إثنية على حدة، وكذلك مدى تقارب أو تباعد تلك المجموعات، مثنى مثنى، ومقارنتها مع عدد كبير من مجموعات محلية سبقت دراستها، من مختلف أنحاء العالم. وقد خلصت الدراسة إلى التقارب النسبي لهذه المجموعات فيما بينها، وكذلك تقاربها مع مجموعات مشرقية أخرى بعيدة عنها نسبياً. ومن بين النتائج اللافتة: التقارب الشديد بين العراقيين والإيرانيين والأتراك عموماً، وجنوب شرق الأناضول خصوصاً؛ وبين عرب شمال العراق والكويت؛ وبين القبارصة الأتراك ومواطنيهم اليونانيين (شملهما البحث كمجموعتي مقارنة)؛ وبين تركمان العراق وسكان مدينة بيروت. ولاحظت أيضاً، أن المجموعتين الأكثر تجانساً والأقل تنوعاً، والأبعد نسبياً عن بقية المجموعات، كانتا: الإيزيديين والسريان. وعَزَت الدراسة ذلك إلى انغلاقهما الجيني النسبي بسبب تقاليدهم الصارمة في عدم التزاوج مع الأغيار على مدى قرون. في المقابل، بدا أن المجموعات الأكثر تنوعاً واختلاطاً، كانت على التوالي: الأكراد فالعرب ثم التركمان.

خاتمة
إذن، انطلقت مسيرة الاندماج والتكامل الإقليمي في المشرق مع الثورة النيوليتية الزراعية/الرعوية قبل أكثر من عشرة آلاف سنة، لتنتقل به من جزر منعزلة متباعدة، تقطنها تجمعات بشرية بخصائص عرقية وثقافية متمايزة، إلى كتلة ديموغرافية متجانسة ومتفاعلة مع نهاية العصر البرونزي. وحيث أن منشأ أي من الهويات الإثنية والدينية القائمة حالياً، لا يتعدى قِدماً العصر البرونزي، على أبعد تقدير، فإن جميع هذه الهويات نَهَلَت عناصر تكويناتها الخاصة بها، من «الحِساء» الجينومي عينه. وبالتالي، فهي تفتقر إلى أية ركائز «عرقية» يُعتَدّ بها. فمثلاً، بالاستناد إلى الأرقام التي أوردناها عن المجموعات الفردانية الأبوية والأمومية، فإننا لا نجد مجموعة واحدة تتطابق مع، أو تقتصر على قومية معينة. بل نجد نِسباً متفاوتةً من العرب والإيرانيين والأتراك والأكراد، ينحدرون من سلف مشترك، ونِسباً أخرى منهم تنحدر من أسلاف مشتركين آخرين. أي إن سائر المجموعات الفردانية، مشتركة وعابرة للحدود الإثنية. وبطبيعة الحال، فإن ذلك لا ينفي وجود بعض الفوارق. ففضلاً عن التفاوت في نِسب مكونات «الكوكتيل» الجينومي الخاص بكل جماعة، ثمة اختلافات نجمت عن المسافات الجغرافية والعوائق الطبيعية و/أو الثقافية التي كانت تحد من التزاوج مع غيرها. وكذلك هي الحال بالنسبة لحدود الإقليم الجينومي المشرقي. فهذه الحدود الافتراضية خطّتها برمجيات حاسوبية بناء على مُحددات وضعها الباحثون، فضلاً عن البيانات الجينومية. وكان بالإمكان، باعتماد محددات أخرى، أن ترسم بشكل مختلف. فمثلاً، من الطبيعي أن يكون سكان جنوب سوريا أقرب جينياً إلى أشقائهم في مصر منهم إلى الأوزبِك في أقصى شمال شرق الإقليم، أو أن يكون سكان اسطنبول أقرب إلى جيراهم اليونان، منهم إلى البلوش في أقصى جنوب شرقه.
منذ انهيار جدران العُزلة بين المجتمعات المشرقية النيوليتية أمام ديناميات نمط الحياة الزراعي/الرعوي، تحول المشرق الكبير إلى حيّز حضاري متجانس مفتوح أمام حركة البشر ومواشيهم ومنتجاتهم وآلهتهم وأساطيرهم.. وظل الأمر كذلك حتى في غمار أشد الحروب والمنازعات بين حكام دوله.
* كاتب وباحث سوري

* الجينوم كمصدر أوَّلي لكتابة التاريخ [1/2]