بدايةً، وقبل الشروع في النقاش، لا بدّ من توجيه التحية إلى منير شفيق لكلّ ما قدّمه وما زال يقدّمه لأجل فلسطين وشعبها وقضيّتها، وهو الذي يعلم مدى تقديرنا له ولرفاقه المناضلين الذين لولاهم لما كنّا اليوم نرث نقاش الثورة ومسؤولية تحرير فلسطين. لا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ هذا المقال ليس في إطار الدفاع عن كتاب «ستون عاماً من الخداع- حركة فتح من مشروع الزعيم إلى مشروع التصفية» (للكاتب محمد دلبح، دار الفارابي، 2019) وتحديداً عن بعض المعلومات الخاطئة التي ذكرها منير شفيق في مقاله الأخير، فالكاتب هو صاحب حقّ الدفاع الأول والأخير عن عمله. لكن، وفي إطار قراءة نقد شفيق للكتاب بدءاً من عنوانه، لفتني تركيزه على ثنائية «المقاومة والمساومة» على اعتبارها ظاهرة «أرسطية» تعبّر عن «تعايش النقيضين». وفيما نتفهّم حرص شفيق على عدم التغافل عن التضحيات الهائلة التي قدّمها الشعب الفلسطيني بمختلف فصائله خلال هذه الفترة، إلا أنّنا نجد في محاولة «تطبيع» وجود هذا التناقض أمراً يستحقّ النقد والمراجعة.بدايةً، لا بدّ أن نعود إلى الجذور. إنّ الحرب المُخاضة ضدّ الشعب الفلسطيني هي حرب استعمارية - إلغائيّة بطبعها، وبالتالي، فإنّ أيّ تشويه لحقيقة هذه الحرب وأي محاولة لحرف مسار المقاومة المسلّحة، هو فعل خيانةٍ حتميّ، وذلك لأنّه يمنح العدوّ الوقت والمساحة والفرص للتقدّم في مشروعه الإلغائي على حساب وجود الشعب الفلسطيني (وما بعد «أوسلو» خير دليلٍ على خطورة هذا المسار). ولهذا، فإنّ ظاهرة الميل نحو المساومة - وهي بالفعل ظاهرة قابلة للتفسير في المجتمعات المستعمَرة - لا يجوز أن تُصوّر على أنّها «خيار» بإمكانه أن يتعايش مع المقاومة المسلّحة، التي ليست خياراً، بل هي الطريق الوحيد في عالمٍ محكومٍ بموازين القوى، التي يدركها شفيق أكثر من غيره.
لكن، ماذا يعني «التعايش» بين المساومة والمقاومة؟
في واقع الحال، إنّ هذه الظاهرة لم تكن تعايش نقيضين، بل كانت عقليّة «مساومة» وجدت في تضحيات المقاومين والشعب وسيلةً لاكتساب ما تراه «ممكناً». إن اتّجاه قيادة منظّمة ثوريّة نحو البحث عن حلول سلمية وتواصل «سرّي» مع العدو بهدف «كسب أي شيء»، يدلّ على أنّ هذه القيادة لم تؤمن بقدرات شعبها وكوادرها في تحقيق الغاية التي جمعتهم تحت ميثاق المنظّمة والاسم الثاني منها: التحرير. أي أنّ القيادة التي كانت تملأ القاعات خطابات حول «التحرير» و«حرب الشعب» لم تثق بقدرة هذا الشعب (التحاماً مع قيادته) على كسر موازين القوى، وهذا أيضاً فعل خيانة ولو كان مصطلح «الخداع» ألطف. والأسوأ من ذلك كلّه، أنّه أثناء نشاط الكوادر الثوريّة وأثناء تقديم الشعب الفلسطيني للتضحيات تلو التضحيات، كانت «القيادة» ترى في هذه التضحيات ورقة مساومة، وليس استراتيجية للتحرّر والتحرير. فكلّ من قاتل أو استشهد خلال هذه السنوات، كان يرى تضحيته «واجباً لتحرير فلسطين»، وليس لعودة ياسر عرفات وحاشيته لتشكيل سلطة في خدمة العدوّ. هنا أيضاً، كان الخداع.. أو الخيانة.
«الخداع» الذي تحدّث عنه الكتاب استهدف أولاً المناضلين داخل حركة «فتح» ومن مختلف الفصائل


وإذا كان لا بدّ من عودةٍ إلى التاريخ، فيكفينا درس الثورة الفييتنامية، التي فاوضت الاحتلال الأميركي وتوصّلت وإياه إلى اتفاقية باريس عام 1973 من بوابة النديّة وليس الاستسلام. ورغم ذلك، لم تتوقّف ضربات الثوار، لا قبل ولا أثناء ولا بعد المفاوضات، ولم تتحقّق طموحات الشعب الفييتنامي إلا عندما استطاع هزيمة الأميركيين وعملائهم بالقوّة. هذا إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أنّ المقاومة فعل يهدف لتحقيق غاية الشعب، ووسيلته هي العنف الثوري الذي يكسر موازين القوى ولا يفاوض العدوّ إلا على استسلامه. أما المساومة، فهي إعلان عدم القدرة على كسر موازين القوى، وبالتالي فهي التفاوض على تحريف الغاية وتشويه الاستراتيجية مقابل بعض المكاسب التي ستضيع حتماً بفعل قوّة العدوّ وهزل المُساوِم. فأيّ تعايشٍ هذا؟
أما في ما يخصّ ياسر عرفات، بالتأكيد، إنّ نهج المساومة لم يكن فعل شخص بل كان منظومةً يرعاها البترودولار - الذي ساهم في صعودها واستئثارها بالقوّة داخل المنظّمة وداخل حركة «فتح». لكن في هذا السياق، لا بدّ أن نستذكر قول إدوارد سعيد حين سُئل عن سبب هجومه الدائم على ياسر عرفات، فأجاب: «ما العمل ومأساتنا كشعب وكحركة هي غيبة المؤسّسات بمعناها الحق وآليات المحاسبة والإصلاح؟ وما حيلتي إذا كان الشي الثابت الوحيد هو شخص ذلك الحاكم المستحوذ على كافة الصلاحيات، والذي يستمرّ حكمه رغم سجلّه الحافل بالإخفاق؟».
في واقع الحال، إنّ «الخداع» الذي تحدّث عنه الكتاب استهدف أولاً المناضلين والثوريين داخل حركة «فتح» ومن مختلف الفصائل الذين قدّموا أعظم التضحيات للوصول إلى غاية التحرير، وهو ما أشار اليه الكاتب (فصل «نهج التسوية ونهج القتال والتحرير»، ص. 196) حيث أضاء على العديد من الشخصيات الفتحاوية التي تمّ «التخلّص» منها بأسلوب مباشر (علي سالم) أو غير مباشر (حنا ميخائيل). للأسف، فإنّ كثيرين ممن قدّموا التضحيات يرفضون الاعتراف بالهزيمة، ويرفضون حتّى التفكير بأنّهم قد تعرّضوا لإحدى أكبر الخيانات في التاريخ حين تمّ طمس نضالهم وتضحياتهم في سبيل مكسب لزمرة وصلت إلى هذا الحال نتيجة مسارٍ طويل من الرهان على الخيار الأميركي وعدم الإيمان بقدرات هؤلاء الأبطال.
إنّ من حقّنا، كجيل جديد، على منير شفيق وكلّ المناضلين أن يفضحوا حقيقة الخيانة التي حصلت، وألّا تورّث إلينا تبريرات لا تفيد إلا بتشويه مفهوم الثورة لدى جيل هو نتاج هزيمة هذه الخيارات والسكوت عنها. مقابل ذلك، فإنّه من واجبنا كجيل فلسطينيٍّ جديد أن نعلم عظم التضحيات التي قُدّمت، وأن نعلم غاية هذه التضحيات، مما يضيف علينا واجباً آخر، وهو واجب الخروج بوعيٍ ثوريٍّ صافٍ، يؤمن بقدرات شعبه، ويبني على بطولات الماضي، وينبذ خيانة هذه البطولات. كلّ ذلك في سبيل قلب موازين القوى وبهدفٍ واحدٍ لا يحتمل «الفهلوة» والتقلّب: هزيمة الصهيونية وتحرير فلسطين.

* ناشط فلسطيني