تتداخل الأصوات الصاخبة بوقائعها وملاسناتها على نحو يومئ بأحوال جديدة في المشهد الأميركي تنعكس تداعياتها على العالم بأسره خاصة هنا في الإقليم المشتعل بالأزمات والنيران. بعض الأصوات تلحّ على المضي قدماً في إجراءات عزل الرئيس دونالد ترامب باتّهامات شبه ثابتة، أو يمكن إثباتها، تدينه بسوء استخدام السلطة وطلب تدخل طرف أجنبي في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وأغلبها يأتي من الحزب الديمقراطي صاحب الأغلبية في مجلس النواب لكنها لا تقتصر عليه، وبعضها الآخر يأتي من صفوف البيت الأبيض وأنصاره دفاعاً عن الرئيس المتّهم باعتبار أن ما يحدث، وفق ترامب نفسه، «نكتة» وعار وحرب مفتوحة لنزعه من على مقعده قبل أمتار قليلة من الانتخابات، وأن تصدّر رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي ذلك المشهد أقرب إلى أعمال الساحرات الشريرات في القصص الشعبية. لكنّ البدء في إجراءات العزل لا يعني أنه سوف يُعزل فعلاً.إذ حسب الدستور الأميركي فالإجراءات معقّدة وتستغرق وقتاً طويلاً، ولا توجد سوابق في التاريخ لمثل هذا العزل القانوني، فالرئيس ريتشارد نيكسون استقال قبل إجراءات محاكمته أمام مجلس الشيوخ بعد إدانته في مجلس النواب، استقال ولم يُقل، وهو ما يصعب تصوّره في حالة رجل بمواصفات ترامب.
رغم ثبوت الاتّهامات بحقّ ترامب فإن الاستقطاب الانتخابي الحادّ بين الحزبَين الديمقراطي والجمهوري قد يُفضي إلى إجهاض الإجراءات عندما تصل إلى مجلس الشيوخ بأغلبيته الجمهورية بعد تمرير لائحة اتّهاماتها من مجلس النواب. الصدى أهم من الصوت، وهذه واحدة من غرائب إجراءات عزل ترامب. بصورة أو بأخرى فإنّ الاتهامات الموجّهة للرئيس الأميركي مقدّمة غير مُعلنة للانتخابات المقبلة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. بتعبير بيلوسي فإن تصرفات الرئيس الحالي «مشينة» وتمثّل خيانة للقسَم وخيانة للأمن القومي وخيانة لنزاهة الانتخابات، وهذه ليست اتّهامات في الهواء، فهناك أدلة ثابتة ومسجّلة جرى تسريبها ولا يمكن إنكارها.
في اتّصال هاتفي مع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي طلب ترامب على نحو صريح تدخّلاً كنوع من «الخدمة» بإجراء تحقيق جديد في شبهات فساد منسوبة إلى نجل جو بايدن نائب الرئيس الأميركي السابق في عهد باراك أوباما أقوى المرشّحين الديمقراطيين لمنازعته في الانتخابات المقبلة.
لم يكن جديداً اتّهام ترامب بخرق الدستور وانتهاك القانون في معاركه الانتخابية، وقد انطوت تحقيقات روبرت مولر بشأن التدخّل الروسي في انتخابات 2016، التي صعدت به إلى المكتب البيضاوي، على أدلّة إدانة بحق بعض مستشاريه ومعاونيه، لكنها لم تتوصل إلى أدلة مماثلة بحقه هو. هذه المرة الكلام مسجّل بصوته ويصعب تأويله. من جهته سارع البيت الأبيض إلى نشر مضمون المكالمة، من دون نصّها الكامل. وما سُمح بنشره يُظهر أنّ ترامب قال لزيلينسكي: «هناك حديث كثير عن نجل بايدن، وعن أن بايدن أوقف التحقيق، وكثيرون يريدون أن يعرفوا مزيداً من المعلومات حول هذه القضية، إن أيّ شيء ممكن أن تفعله مع النائب العام سوف يكون رائعاً».
حضرت الدولة العميقة داخل الملف وبدا صوتها مسموعاً أكثر مما هو معتاد


النص الكامل، كما يقول الديمقراطيون، يوحي كما لو أن المتحدث «زعيم مافيا» وليس رئيس أقوى دولة في العالم، فهو ينطوي على نوع من الابتزاز بالصفقات العسكرية مقابل تلك الخدمة الانتخابية. تسريب المكالمة الخطيرة إلى الصحافة ومجلس النواب جرى من داخل الأجهزة الاستخباراتية التي رفضت بعض قياداتها الخضوع لضغوط البيت الأبيض بعدم الإدلاء بما لديها من معلومات أمام مجلس النواب. لقد حضرت الدولة العميقة داخل الملف وبدا صوتها مسموعاً أكثر مما هو معتاد.
دخلت الميديا على الملف نفسه عبر أهمّ منصاتها، «سي إن إن» وصحيفتي «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز»، بإرث الصدام معه والضيق بتوجهاته الشعبوية المعادية لحرية الصحافة والإعلام وما يسمّى «القيم الأميركية».
ورأت أطراف أخرى، أقليات ومنظمات مجتمع مدني، في بدء الإجراءات فرصة سانحة للتخلص من عبء ترامب وسياساته داخل مجتمعها وعلى صورة أميركا في العالم.
في سيناريوهات إضعاف ترامب قبل الانتخابات الرئاسية احتمالات إضعاف مماثل لمنافسه الرئيسي المحتمل بايدن، حيث تحيط به شبهات استخدام نفوذ منصبه السابق لمصالح شخصية ومالية، وقد يعدّل ذلك من موازين وحسابات القوى الانتخابية في المعسكر الديمقراطي لصالح وجوه جديدة غير مستهلكة ولا تطاردها مثل هذه الاتهامات.
في مثل هذه الأحوال المضطربة لا أحد يلتفت تقريباً إلى التأثير السلبي الفادح لتدخّلات ترامب غير المشروعة وغير القانونية بعد انكشافها على أوكرانيا المنقسمة على نفسها، والتي تحاول بالكاد أن تجد مساحة تنفس بين جارتها القوية روسيا وحلفائها في الاتحاد الأوروبي. ما يحدث في أميركا من تفاعلات يؤثر - بالضرورة - على القارة الأوروبية التي تتناوشها أزماتها، فقد كان صعود ترامب إيذاناً بصعود اليمين الشعبوي في القارة، كما ارتفعت احتمالات تقوض بنية «الاتحاد الأوروبي» نفسه. صدى صوت إجراءات عزل ترامب سوف يدوي في جنبات أوروبا، وله تفاعلاته التي سوف تتّضح مع الوقت. ومن المفارقات تفاقم أزمة حليف ترامب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مع مجلس العموم على خلفية أزمة «البريكست» تزامناً مع تفاقم أزمة ترامب مع مجلس النواب الأميركي.
حتى تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 لا حسابات خارج معادلات الكسب والخسارة في صناديق الاقتراع. لذلك انعكاساته على الاحتقانات والحروب التجارية مع الصين، بقدر تأثيرها على الاقتصاد الأميركي، كما الأزمات الأخرى مع كوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية... لا شيء دراماتيكيا سوف يحدث بالصدام أو التصعيد في هذه الملفات خشية أن تؤثر بالسلب على الفرص الانتخابية. الأمر قد يختلف بعض الشيء هنا في الإقليم.
إذ من المرجّح للغاية ارتفاع وتيرة نزعة ترامب للوصول إلى تسوية ما في الأزمة الإيرانية حتى يبدو كرجل سلام، تجنّب الحرب والوقوع في مستنقعاتها كما حدث في العراق وأفغانستان على عهد الرئيس الجمهوري الأسبق جورج دبليو بوش، لكنه يلتزم في الوقت نفسه بوعده الانتخابي بالتحلل من الاتفاق النووي الذي أقره سلفه الديمقراطي باراك أوباما حتى ولو بإدخال تعديلات محدودة عليه. الحرب باتت مستبعدة تماماً، حتى الذين كانوا يحرّضون عليها يقولون الآن إنهم لا يحبذونها كما صرح أخيراً ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. هذه حسابات في المركز الأميركي لا وجهات نظر حلفاء في الإقليم. بصورة أو بأخرى ترامب المأزوم بشدّة بحاجة إلى إنجاز خارجي قد يبحث عنه في الأزمة الإيرانية. وهذه حدود حركة الاتصالات والمناورات المتوقعة في المدى المنظور.
وربما يبحث عن إنجاز ما في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، باسم السلام، لكن مشكلته أن «صفقة القرن» تقوضت ركيزتها الرئيسية في استبدال الحقوق المشروعة الفلسطينية المنصوص عليها في القرارات الدولية بحزمة مساعدات ومشروعات اقتصادية تساعد على تحسين أحوال الفلسطينيين خاصة في قطاع غزة المحاصر. لا يوجد فلسطيني واحد مستعدّ أن يوقّع على صفقة من مثل هذا النوع تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتضم المستوطنات في الضفة الغربية إلى الدولة العبرية وتلغي حقوق اللاجئين وتنهي القضية من جذورها. وقد تكفّلت مواقف ترامب المؤيدة على طول الخط لليمين الصهيوني في أكثر تجلياته تشدداً وعنصرية، أكثر من أي رئيس أميركي آخر، بإضفاء نوع من الاستحالة على مشروع «صفقة القرن». جوهر الصفقة جرى على الأرض بالتوسع والاغتصاب والضم لكنه يفتقر إلى شرعية القبول الفلسطيني، وهذه عقدة الموقف كله. لذلك، من المرجح في أزمة ترامب الحالية إرجاء الإعلان عن الشق السياسي للصفقة إلى أجل غير مسمى. ومن المفارقات أن حليفه الإسرائيلي الأوثق بنيامين نتنياهو يعاني في الوقت نفسه من احتمالات الزج به خلف جدران السجون بتهمة الاحتيال وخيانة الأمانة إذا لم ينجح في تشكيل حكومة جديدة برئاسته، واحتمالاتها ضئيلة للغاية.
* كاتب مصري