من أهم سمات النظام الانتخابي الإسرائيلي منذ عام ١٩٤٨ هو أنه يفرض بالقانون على كلّ الأحزاب المسموح لها خوض الانتخابات دعم القوانين والبنية العنصرية للدولة التي تمّت مأسستها للحفاظ على الفوقية اليهودية وحمايتها. ويشمل ذلك الحظر التام لأيّ حزب يناوئ الصهيونية، وتجريمه ومنعه من خوض الانتخابات. ولا يزال هذا الوضع قائماً حتى يومنا هذا، رغم مرور أكثر من سبعة عقود على تأسيس المستعمرة الاستيطانية اليهودية.ونتيجة طرد إسرائيل لتسعين بالمئة من الشعب الفلسطيني الذي كان يقطن أراضي فلسطين حيث تم تأسيس المستعمرة الاستيطانية، قام مؤسسوها العنصريون بمنح من تبقّى من الفلسطينيين حق الاقتراع بعد أن أخضعوهم للحكم العسكري حتى عام ١٩٦٦، حيث لم تعد أعداد الفلسطينيين المتناقصة والصغيرة تشكّل تهديداً ديموغرافياً للمستعمرة الاستيطانية. وقد كان لحزب «مَباي» الحاكم في تلك الفترة شبه احتكار للسلطة في البلاد، بما فيها التجمعات الفلسطينية التي كانت تخضع لنظام أبارتهايد عنصري يشمل قوانين تحدّ من حرية التنقل (كان على فلسطينيي الدولة أن يحصلوا على تصاريح لمغادرة قراهم ودخول قرى أو مدن أخرى وإلا تعرّضوا للاعتقال)، وهو ما سهّل على حزب «مباي» الحصول على أصواتهم في الانتخابات مقابل تقديم خدمات اجتماعية لهم كانوا محرومين منها وتصاريح للتنقل، وهو ما لم يكن بمقدور الأحزاب الأخرى القيام به. لقد كانت خيارات الناخبين الفلسطينيين محصورة في ما بين الأحزاب الصهيونية التي كانت تنادي برامجها السياسية التأسيسية بإقامة دولة يهودية كولونيالية على أراضي الفلسطينيين المسلوبة، بما فيها حزب مناحم بيغن اليميني «حِروت» والذي أضحى في ما بعد أهم مكوّن لتحالف الليكود. وبناءً على عنصريتها العلنية، لم تكن هذه الأحزاب تقبل أعضاءً فيها من العرب، حيث اقتصرت عضويتها على اليهود حصراً. وقد كان الحزب الأقل عدائية لمواطني إسرائيل من الفلسطينيين، والذين كانوا أشبه بالأسرى في وطنهم، هو الحزب الشيوعي، حيث كان الحزب الوحيد الذي سمح بعضوية العرب فيه رغم التزامه بالصهيونية، كما كان يطالب برفع الحكم العسكري عن الفلسطينيين. وقد حصد الحزب أقلية من أصوات الفلسطينيين في هذه الفترة، فيما ذهبت أغلبية أصواتهم إلى القوائم العربية التابعة لحزب مباي.
والمفارقة هنا هو أن حزب «حروت»، الذي كان يترأسه بيغن، كان، بمعية الحزب الشيوعي، يمثلان الصوت الأعلى في الكنيست الإسرائيلي للمطالبة بإنهاء الحكم العسكري على الفلسطينيين في عام ١٩٦٠ وإنهاء نظام التصاريح العنصري، لا سيما أن ذلك كان سيسمح لحزب «حروت» الدخول إلى التجمعات الفلسطينية لنيل أصوات الفلسطينيين وهو ما كان سيمنحه الفرصة لكسر الاحتكار الانتخابي لحزب مباي. لكن حزب مباي الحاكم رفض إلغاء الحكم العسكري حتى عام ١٩٦٦. واستمر حزب مباي، الذي أصبح المكوّن الأكبر لـ «ائتلاف حزب العمل» في فترة ١٩٦٨ / ١٩٦٩، باحتكار الحكم في إسرائيل حتى عام ١٩٧٧، عندما ربح ائتلاف «الليكود» الانتخابات وأزاحه عن الحكم.
في تلك الأثناء قامت إسرائيل بغزو مصر وسوريا والأردن في عام ١٩٦٧، ما أضاف عدداً كبيراً من فلسطينيي غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، إلى سكانها، ناهيك عمّن تبقى من السوريين من سكان هضبة الجولان الذين لم تتمكن إسرائيل من طردهم. وبخلاف ما حصل بعد عام ١٩٤٨ عندما تمكّن الإسرائيليون من منح من تبقى من الفلسطينيين حق الاقتراع، لم يكن هذا الخيار متاحاً هذه المرة، حيث أنهم لم يتمكنوا من طرد سوى بعض مئات الآلاف من الفلسطينيين من الضفة وغزة. وبما أن العدد المتبقي من سوريي هضبة الجولان المحتلة، بعد طرد معظم سكانها، كان ضئيلاً ولا يهدد ديموغرافياً الفوقية اليهودية في البلاد، فقد مُنحوا حق الاقتراع بعد أن ضمت إسرائيل الهضبة إليها في عام ١٩٨١. لكن ذلك لم يكن ممكناً في الضفة وغزة. وقد نتج عن هذا الوضع النظام العنصري الإسرائيلي ذا المستويات الثلاثة:
المستوى الأول: ناخبون يهود يحق لهم انتخاب قيادات يهودية ملتزمة بالاستعمار اليهودي لأرض الفلسطينيين.
لم تكن هذه الخيارات الكاذبة والظالمة يوماً أكثر من فخاخ للفلسطينيين تهدف إسرائيل من خلالها إلى توريطهم سياسياً وبنيوياً


المستوى الثاني: ناخبون فلسطينيون داخل إسرائيل لا يحق لهم إلا انتخاب قيادات عليها أن تدعم، أو على الأقل ألّا تعارض، استعمار أراضيهم وشعبهم.
المستوى الثالث: سكان فلسطينيون لا يملكون حق الاقتراع بالمرة ويخضعون، كما تخضع أراضيهم، لاستعمار يهودي لا يكلّ منذ عام ١٩٦٧.
وبينما تغيّر الوضع بالنسبة إلى المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل في عام ١٩٦٦ بانتهاء الحكم العسكري، وهو ما سمح لهم بالتصويت لحزب شيوعي جديد «رَاكَح» (كان قد انشقّ عن الحزب الشيوعي الأكثر صهيونية وعنصرية «ماكي»)، والذي أدرج فلسطينيين في قائمة مرشحيه، عاد وتغير من جديد في الثمانينيات والتسعينيات عندما بدأت تظهر «أحزاب عربية» مستقلّة أو كجزء من ائتلافات مع أحزاب صهيونية تبنت لغة الحقوق المتساوية. وهذا كان السياق التاريخي لانشقاق عزمي بشارة عن الحزب الشيوعي وقيامه بتأسيس حزب «التجمع الوطني الديمقراطي» في عام ١٩٩٥ الذي طالب إسرائيل بأن تصبح «دولة لكل مواطنيها» وليس دولة يهودية. لم يكن بمقدور حزب بشارة قانونياً الإعلان عن مناوءته لأسس الدولة، ولكن كان بمقدوره مساءلة التزامات الدولة العابرة للحدود، عبر مبدأ «الجامعة اليهودية»، تجاه المجتمعات اليهودية خارج إسرائيل أكثر من التزاماتها تجاه مواطنيها، وهو ما قام به الحزب علناً. لم تكن استجابة إسرائيل لهذه المطالب سريعة وعدائية فحسب، بل أيضاً واصلت تشريعها لقوانين إضافية لضمان الفوقية اليهودية والدونية الوطنية للفلسطينيين كمواطنين في دولتها، كان آخرها وأكثرها صرامة «قانون الدولة - الوطنية» الذي صدر في تموز/يوليو ٢٠١٨.
أما انتخابات الأسبوع الماضي فهي استمرار للنهج نفسه. فقد تنافس قائدان إسرائيليان من أصحاب السجلات الحافلة بالجرائم والفظائع ضد الشعب الفلسطيني، هما بنيامين نتنياهو وبني غانتز، اللذان يلتزمان بنفس المقدار من السياسات الاستعمارية الإسرائيلية وبقوانين إسرائيل العنصرية، بما فيها «قانون الدولة-الوطنية» الذي يدعمه غانتز مع تعديلات بسيطة. وقد عبّر المرشحان عن مواقفهما العنصرية تجاه المواطنين الفلسطينيين وفلسطينيي الضفة وغزة، والأخيرون بمثابة أسرى لدى إسرائيل. رغم ذلك، قرر القادة الفلسطينيون المنتخبون في «القائمة المشتركة»، والذين تنحصر خياراتهم بين من يعتبرونه مجرم حرب أكبر من بين المرشحين اليهود ومجرم حرب أصغر، القيام باختيار من يعتقدون أنه مجرم الحرب الأصغر، أي جزّار غزة، أو قائد الجيش الإسرائيلي السابق بني غانتز.
ولم تكن هذه الخيارات الكاذبة والظالمة يوماً أكثر من فخاخ للمواطنين الفلسطينيين، تهدف إسرائيل من خلالها إلى توريطهم سياسياً وبنيوياً كمتعاونين مع القيادة الإسرائيلية في اضطهادهم وفي اضطهاد إخوانهم الأقل حظّاً منهم في الضفة وغزة، ناهيك عن ملايين الفلسطينيين المنفيين في الشتات. وقد كان ذلك دائماً جزءاً من استراتيجية فرّق تسُد الإسرائيلية، ولهذا عارض كثير من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل المشاركة في الانتخابات الأخيرة. ولكن على الرغم من ذلك شارك ستون بالمئة من الناخبين الفلسطينيين في الانتخابات.
لم يسبق أن قام القادة الفلسطينيون المنتخبون في إسرائيل بدعم مجرم حرب إسرائيلي على حساب منافس له كي يصبح رئيس وزراء إسرائيل (وهنا يجب التنويه إلى أن حزب «التجمع» كان الحزب الوحيد ضمن «القائمة المشتركة» الذي رفض أن يقوم بذلك الأسبوع الماضي). فقد قام في عام ١٩٩٢ عدد من أعضاء الكنيست الفلسطينيين بدعم حكومة رابين التي كانت تواجه تصويت ثقة في الكنيست، كان يهدف إلى إسقاطها واستبدالها بحكومة يمينية ترفض محادثات السلام القائمة حينذاك (قد حصل النواب الفلسطينيون في المقابل على التزام الحكومة بعدم هدم بيوت الفلسطينيين في منطقة جبل أبو غنيم في القدس المحتلّة وتنازلات أخرى)، لكنهم لم يبعثوا بتوصية إلى رئيس الدولة يطالبون برابين كرئيس وزراء. وقد كانت القيادات الفلسطينية المنتخبة في إسرائيل تعي عادة بأن اختيار واحد من مرشحين يهود يلتزم جميعهم باضطهاد الفلسطينيين، مواطنين أو غير مواطنين، ليس خياراً.
إذا ما قام غانتز بتشكيل الحكومة الجديدة أو دخل كشريك في الحكومة مع نتنياهو وحزب الليكود سيتورط قادة «القائمة المشتركة» الفلسطينيون الذين صوتوا لغانتز، وهو ما يعّد سابقة خطيرة، في جرائم حرب إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني لسنين قادمة. فكيف إذاً سيتهرّب هؤلاء القادة الفلسطينيون للقائمة المشتركة من تورطهم المستقبلي في هجوم إسرائيلي على غزة، أو اجتياح لقرى الضفة، أو إطلاق نار على متظاهرين فلسطينيين من مواطني إسرائيل الذين يعترضون على سرقة أراضيهم؟

* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك، صدر له حديثاً كتاب «الإسلام في الليبرالية»، جداول للنشر، بيروت (٢٠١٨) و«آثار استعمارية: تشكّل الهوية الوطنية في الأردن»، دار مدارات، القاهرة (٢٠١٩).