اندلعت تظاهرات يوم الجمعة ٢٠ أيلول في مصر بعد دعوات للتظاهر لم يعتقد أغلب الناس أن أحداً سيلبّيها. تظاهرات القاهرة ودمياط والمنصورة والإسكندرية كسرت حاجز الخوف الذي دأب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على بنائه عبر بطشه وقمعه، إن كان في صلابة رأيه حول سياساته الاقتصادية، أو قُل سياسات إفقار الشعب التقشفية، أو في قبضته الأمنية التي تضرب بمطرقةٍ من حديد بلا رحمة وتصيب الرفاق والأعداء سوياً.في أحد الأقاويل حول تظاهرات يوم الجمعة الماضي قصة بطولية عن صمود الشعب ضدّ سياسات تقشفية، ترعاها الولايات المتحدة الأميركية وصندوق النقد الدولي ومِنح البنك الدولي التي تَمِنُّ على مصر بعطيات مقابل رفع الدعم وتسليع السكن عبر طرد سكان أصليين يقطنون بيوتهم (مثل سكان جزيرة الوراق) مقابل الشروع في بناء ناطحات سحاب مِن قبل شركات خليجية كي تُحصّل عائدات مِنَحِها لمساندة مصر بعد انقلاب ٣٠ يونيو/حزيران. ومن هنا نكتشف أن هذه «المِنح» لم تكن سوى استثمارات سياسية من أجل تدوير وتشغيل الأموال الخليجية. فمنذ ٣٠ يونيو/حزيران والسيسي يختار مساراً واضح الملامح، وهو الحكم عبر سياسة الرجل الواحد للظرف الواحد، فهو يبني إعلاماً يطاوعه، واقتصاداً خاصّاً به من خلال مشاريع عائدها الوحيد والمشرف عليها هو الجيش. لكن الأمر الذي لم ينجح السيسي في تحقيقه هو بناء قاعدة شعبية خاصة به.
من هنا جاءت تسريبات محمد علي الملقَّنة والتي تحتوي على الكثير من اللباقة والأسلوب العفوي، لتضرب في صميم نقط ضعف السيسي، إن كان موضوع استقباله لمحمد بن سلمان عند أسفل سلّم طائرته، أو السعي نحو الخليج من أجل بعض المِنح (التي كما قلنا تُعطى من ناحية وتُسحب من ناحية خرى) وحقائق أخرى كانت مكبوتة في وجدان الشعب المصري، ويعلمها كلّ من يعمل في المجالات التي بات يشرف عليها الجيش، وهي ليست قليلة.
لكن ربما تكون فكرة كسر حاجز الخوف تشخيصاً غير صحيح، أو قل تشخيصاً مقلوباً رأساً على عقب. صحيح كانت هناك لحظات كثيرة صعبة لم يصمد الشعب أمامها وارتضى بأن يُذَلّ، إن كان في تمرير صفقة جزر تيران وصنافير وسحب السيادة المصرية عنها، أو في رفع الدعم أو تعويم الجنيه أمام الدولار وارتفاع أسعار السلع بشكل جنوني. لكنّ نظام السيسي بات أهش من أن يحتاج إلى إعادة كسر حاجز الخوف، ما حدث هو ربما أقرب إلى إعادة ترتيب الأوراق وتركيز الخطاب على حادث أو حادثين، مثل تسريبات محمد علي حول أسرة السيسي الحاكمة وتذكير المصريين بجور السيسي الذي فاق جور مبارك. ثم استُغلّت الفجوة الإعلامية التي خلقها السيسي بنفسه وأُعطي الناس جرعة من الشجاعة والتضامن وتمّ تذكيرهم بوقع الشارع الذي لم يُنسَ، كما يعتقد السيسي، لكنه كان مكبوتاً في نفوس المصريين وأعماق أذهانهم. كل هذا تشيّأ حتى أصبحت هناك فرصة سانحة للنزول إلى الشارع من جديد، وذلك لأنه في نهاية المطاف لم يكونوا بحاجة لسببٍ للنزولِ بعد عدة أعوام من حكم السيسي الكارثي.
لذا ربما يمكننا أن نقول إنه إن لم تكن هناك هيمنة لنظام السيسي بالأساس بالمعنى الاجتماعي، فهو تباعاً لم يكن له تنظيم يعمل على جلب أيّ شعبية له فركّز كل طاقاته للسيطرة على الحكم وإقصاء أصدقاء البارحة، مثل اللواء محمود حجازي الذي تم وضعه تحت الإقامة الجبرية، أو اللواء محمد فرج الشحات واللواء أسامة عسكر الذي قُبض عليه أو اللواء خالد فوزي الذي أُقصي من منصبه، وغيرهم من القيادات من الذين قُبض عليهم بتهمة «الفساد» أو استُبعدوا. تلك التهمة الجاهزة في أي زمان ومكان، ليس لأن بعض من اتّهموا بها أبرياء، بل لأنهم ارتضوا أن يلعبوا اللعبة ويلطخوا أيديهم بالفساد أو الدماء، لكن ما حصل أنه تمّ الاستغناء عنهم سرعان ما لم تعد هناك حاجة لهم.
الإشارة التي أعطيت لمحمد علي وغيره من مطلقي الصافرات هي إشارة خضراء


ما أشبه اليوم بالبارحة، وهنا أعني بالتحديد انقلاب أيار/مايو عام ١٩٧١ حين تحرّك أنور السادات للقبض على قادة القوات المسلّحة، عندما اجتمع الفريق أول محمد فوزي بقادة فروع القوات المسلحة لإجراء استبيان حول صلاحية السادات للصعود إلى سدّة الحكم والاستمرار فيها بعد موت الرئيس جمال عبد الناصر، جاءت نتيجة الاستبيان برفض السادات وترجيح زكريا محي الدين أو الفريق محمد فوزي نفسه للحكم، إلا أنه تم القبض عليهم ووضعهم تحت الإقامة الجبرية.
ربما هذا ما حدث في مصر منذ عام ٢٠١٨ وما يحصل منذ تولّى ولدا السيسي محمود وحسن، مقاليد جهاز المخابرات العامة في مصر، وربما هذا ما دفع السيسي لبناء عاصمة جديدة إدارية حيث يمكنه أن يختبئ وراء جدران مدينته المنعزلة وهو ما سيكرّس ابتعاده عن الشعب ونبضه... كل هذه التصرفات، إضافة إلى البذخ اللامحدود، والإسراف الشديد، وبناء قصور رئاسية من دون أي خجل، والثقة الزائدة الارتجالية في المؤتمرات الصحافية والخطابات، كلّها تشي بمشاكل جوهرية في شخصية السيسي وطريقة عمله. هل هو الجنون الناتج عن الخوف وعدم الطمأنينة والاضطراب؟ لماذا لا يقف السيسي في مؤتمراته ليخاطب شعبه، إنما يكلمه وهو يجلس في أول صف ويعطيه ظهره أغلب الأحيان؟ ولماذا يتكلم وكأنه نكرة حين يحدثنا عن ماضيه؟
هنا يكمن مفتاح فهم الأمور في مصر، فكلما يزداد اضطراب الحاكم يزداد البطش و الجنون. كلّنا نتذكر حين صرخ السيسي في أحد مؤتمراته «قسماً بالله العظيم قبل ما حد يلعب في أمنك يا مصر ويضيع 100 مليون لازم أكون أنا مت الأول... الكلام اللي كان اتعمل من سبع ثمن سنين مش هيتكرر ثاني في مصر، والله أمنك واستقرارك يا مصر ثمنه حياتي أنا وحياة الجيش». هذا الاضطراب الذي يتهيأ للسيسي فيه أنه هو ومصر وحدة متكاملة أو هو والجيش كيان واحد يُضعف قوة النظام اللامرتكز على ثوابت واضحة. حتى إعلام الحرس القديم وما كان يمثله المذيع أسامة كمال من معارضة داخلية تمّ الاستغناء عنه وبطريقة مشينة مهينة مقابل صعود رمز من رموز البرنامج الرئاسي للشباب الذي تم اختياره من قبل أولاد السيسي: رامي رضوان الإعلامي الذي يحاور السيسي في مؤتمراته الشبابية.
هذا الكلام مرتبط بهاجس نظام السيسي الذي يعلم أنه ليس له أي هيمنة اجتماعية للارتكاز عليها أو قاعدة شعبية تشفع له، وربما هذا ما بعث رئيس تحرير جريدة «الأخبار» المصرية، كاتم أسرار السيسي والبوق غير الرسمي للنظام، الصحافي ياسر رزق الذي يرى نفسه يلعب دوراً مثل الدور الذي لعبه هيكل مع جمال عبد الناصر، للحديث عن ضرورة تغيير ماكينة فرز الكوادر الصاعدة لدولاب العمل في مصر، ليكون هناك بديل عن الدور التقليدي للجيش في مصر.
وهنا المعضلة، فهذا قد يبدو للمتفرج، وبالتأكيد للولايات المتحدة، أن الاستعانة برموز وكوادر جديدة من البرنامج الرئاسي للشباب تغيير إيجابي، لكن إذا وضعناه في إطار انقلاب مايو/آيار ١٩٧١ وتجربة حسني مبارك وابنه جمال مبارك في بناء حزب الرجل الواحد، وإقصاء كل قوى انقلاب ٣٠ يونيو/حزيران، نصبح أمام استنتاج واحد: أن السيسي لم يستوعب درس ٢٥ يناير/كانون الثاني.
كل هذا يطرح سؤالاً واحداً يتردد على ألسنة كل المصريين اليوم: ماذا بعد؟
كل ما يمكننا أن نستنتجه الآن، من دون أي برهان أو دليل غير بعض الملاحظات الافتراضية، هو أن الإشارة التي أعطيت لمحمد علي وغيره من مطلقي الصافرات هي إشارة خضراء. فلم يكن من المنطقي أن يتم القبض على قيادات من الجيش المصري مثل سامي عنان، أحمد شفيق، والتنكيل بمعارضين غيرهم ترشحوا للرئاسة مثل هشام جنينة، من دون رد فعل من أجهزة الدولة.
ولكن أيضاً هناك شيء يمكننا أن نجزم به بناءً على مسار مصر في آخر ستة أعوام منذ ٢٠١٣، إذ في هذه الفترة تم تهجير سكان سيناء إلى مناطق مختلفة وإعلان عدة مناطق وموانئ ملاصقة لمناطق عسكرية ما يحتّم تفريغها، وتم غلق الملفات في سيناء غلقاً محكماً، ولكن في المقابل تم تسريب مقطع مكالمة هاتفية يتحدث فيها عضو اللجنة المركزية لـ «فتح» اللواء جبريل الرجوب مع المتحدث الرسمي لـ «حماس» في الخارج حسام بدران يفصحان فيه عن دور مصر في «صفقة القرن»، الأمر الذي لا يمكنه أن يمر مرور الكرام أيضاً.
فكلما زادت المحنة والتجربة، زاد معهما الكبت وقدرة الشعب وأجهزته على الاحتمال. ففي عام ١٩٨٤ نشأ «تنظيم ثورة مصر» بقيادة ضباط من المخابرات العامة نتيجة رفضهم لفضيحة معاهدة كامب ديفيد بغرض القيام بعمليات ضد الإسرائيليين. قام التنظيم بعدة عمليات استهدفت ضباط الموساد في الخارج وفي الداخل، أحدهما نُفذ في منطقة المعادي في القاهرة حين خرج أحد عناصر الموساد من السفارة وأطلق عليه أحد أعضاء التنظيم النار. كان هذا التنظيم يضم عدداً من الضباط وأبرز أعضائه كان خالد جمال عبد الناصر. قصة التنظيم معروفة، وما تم مع خالد جمال عبد الناصر ونظمي شاهين وغيرهما أمر يُترك لهما للحديث عنه. لكن ربما ما يمكن استنتاجه هو أن ليس هناك قدرة غير محدودة لاحتمال الشعب وأجهزته وحتى ضباطه. السؤال يبقى هل نحن نعيش الآن اللحظات التي تسبق انفجار كل ما قام المصريون بكبته في السنوات الأخيرة؟

* كاتب مصري