كانت خطة العدوان تبحث عن ذريعة بتقدير سياسي خاطئ وقعت مصر في الفخ المنصوب. هذه مسؤولية جمال عبدالناصر وحده. حسب شهادة اللواء طيار صلاح الحديدي، الذي أُخضع للمحاكمة بتهمة التقصير، فإن حرب «يونيو» جرى توقعها بمعلومات صحيحة أكثر من أي حرب أخرى. تعددت إشارات من مصادر دولية موثوقة تحذر من عمل عسكري وشيك ضد مصر.الرئيس الفرنسي شارل ديجول أبلغ عبدالناصر عبر السفير المصري في باريس عبدالمنعم النجار أن المخابرات الفرنسية حصلت على معلومات مؤكدة أنه سيحدث هجوم عسكري صباح ٥ يونيو راجيًا استيعاب الضربة، ثم الرد عليها، حتى يستطيع دعم القاهرة باعتبار أنها تعرضت لعدوان.
لم تأخذ القيادات العسكرية تحذيرات الرئيس على محمل الجد، بل جرى الاستهتار بما حذّر منه: «هوه يعني من أولياء الله الصالحين حتى يعرف موعد الحرب، وأنه الاثنين بالذات!». وفق ما ورد في تقرير لجنة تحقيق عسكرية عقب الهزيمة مباشرة ترأسها الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الجديد: «في الساعة ١٢:٠٠ مساء ٢٩ مايو حضر الرئيس جمال عبدالناصر اجتماعًا في مقر القيادة العليا وقدر رئيس الجمهورية احتمالات بدء إسرائيل للحرب بنسبة ٨٠٪».. «في اجتماعٍ تالٍ رفع نسبة احتمالات الحرب إلى ٩٠٪». مساء ٢ يونيو أكد على ضرورة الاستعداد لتلقي الضربة الجوية الأولى خلال يومين. اقترح الفريق أول صدقي محمود قائد سلاح الطيران ضربة مصرية أولى، غير أن الحال التي كان عليها السلاح دعت إلى استبعاده، كما كان من المرجح في هذه الحالة أن تتدخل الولايات المتحدة عسكريًا بحجة حماية إسرائيل من العدوان عليها.
لم يكن عبدالناصر على دراية بما يجري داخل القوات المسلحة ولا مدى جاهزيتها لخوض معارك حقيقية. باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، كان يتوجب عليه ألا يترك الأمور داخلها تصل إلى هذا الحد ـ أيًا كانت أسبابه في تأجيل الحسم.
هذه مسؤولية سياسية ثانية يتحملها وحده. عندما توافرت الذريعة بدت النتائج محتمة. كانت الذريعة، التي سوغت العدوان، إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة البحرية الإسرائيلية. وقد اندفعت الأحداث على النحو التالي:
حشدت قوات عسكرية مصرية في سيناء تحسبًا لأية ضربة متوقعة ضد سوريا. شيء أقرب إلى المظاهرة العسكرية بلا نية حرب، أو استعداد مناسب، بظن أنها قد تدفع إسرائيل للامتناع عن استخدام القوة ضد سوريا، أو تهديد أمن حدودها.
لم يكن التقدير صحيحًا. وهذه مسؤولية سياسية ثالثة. في ظروفه وتوقيته كانت مشكلته أنه إذا لم يُقدم على تحرك ما على الجبهة المصرية سوف يُتهم بالتخاذل عن نصرة سوريا وتركها فريسة لآلة الحرب الإسرائيلية. أراد مظاهرة السلاح ردعًا فيما استخدمتها إسرائيل فخًا.
طلبت مصر إخلاء قوات الأمم المتحدة من خط المواجهة بين طابا ورفح، غير أن السكرتير العام المساعد رالف بانش، أميركي الجنسية، كان رأيه أنه لا مجال للانسحاب من جزء والبقاء في آخر ـ كأنه إحكام للفخ المنصوب. أغلق خليج العقبة «تمسكًا بحق السيادة ونزولًا على مقتضيات الحرب». وهذه مسؤولية سياسية رابعة لم يجر التحسب في لحظته لعواقبه وأخطاره.
لم تأخذ القيادات العسكرية تحذيرات الرئيس على محمل الجد: «هوه يعني من أولياء الله الصالحين حتى يعرف موعد الحرب، وأنه الاثنين بالذات!»


«القرار يعني الحرب» ـ حسب محمد حسنين هيكل في كتابه «الانفجار». تحركت قوات إسرائيلية من الشمال إلى الجنوب، حيث الجبهة المصرية، وبدا الوقوع في الفخ نهائيًا والعدوان مؤكدًا. مال تقدير عبدالناصر إلى سيناريوهين متداخلين:
الأول ـ أن القوات المسلحة قادرة على معركة دفاعية طويلة النفس لا تقدر إسرائيل رغم تفوقها العسكري على تحمل أعبائها. ولم تكن أوضاع القوات المسلحة في مركز قيادتها على شيء من الكفاءة العسكرية يؤهلها لمثل هذه المعركة.
الثاني ـ أنه يمكن إدارة حرب (١٩٦٧) بالطريقة التي أديرت بها حرب السويس (١٩٥٦). وكانت الظروف الدولية قد اختلفت جوهريًا عما كان قبل أحد عشر عامًا.
في الساعة الثامنة من صباح الاثنين (٥) يونيو بدأت العملية العسكرية الإسرائيلية بغارات طيران مكثفة في سيناء والداخل قوضت سلاح الجو المصري، وباتت الأجواء تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة. تحددت نتائج الحرب عند الساعة الحادية عشرة والنصف. فقدت القيادة العسكرية أعصابها وتوازنها. قررت انسحاب القوات من سيناء يوم (٦) يونيو في ليلة واحدة دون غطاء جوي يحميها، ودون أن تُخطر الرئيس. ثم عادت عن قرارها ودفعت بالفرقة الرابعة مدرعة مرة أخرى داخل سيناء تحت الضربات الجوية الإسرائيلية.
في صباح (٥) يونيو، قبل أن تبدأ الغارات الإسرائيلية، اصطحب المشير عبدالحكيم عامر كل رؤساء أركان الحرب وكل قادة الأسلحة في طائرة واحدة اتجهت إلى سيناء دون أية ترتيبات تحفظ سلامتهم، رغم التحذير الذي استمع إليه من عبدالناصر عن عدوان وشيك في ذلك اليوم. كان أمرًا مثيرًا للدهشة والاستغراب ألا يكون القادة الميدانيون في مواقعهم ـ بتعبير الفريق سعد الدين الشاذلي.

(1)

كان رأي جمال عبدالناصر أن النظام الذي يفشل في صيانة التراب الوطني لا يحق له البقاء. في لحظة الهزيمة تقوضت الشرعية وسقط نظامه، غير أنه تبدت في تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو شرعية مستأنفة رفضت تنحيه وفوّضته الحكم من جديد لإزالة آثار العدوان. لم يسبق لأمة مهزومة ومجروحة في كبريائها الوطني أن راهنت على قائدها المهزوم، باعتباره أملها في رد اعتبارها وتحرير أراضيها التي احتلت. المفاجأة أخذت عبدالناصر نفسه، الذي كان يتصور أن تُنصب له المشانق في ميدان التحرير.. لا أن تخرج الملايين تعرض المقاومة وتطالبه بالبقاء. لا تضاهي تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو سوى جنازته بعد ثلاث سنوات.
استشعر عبدالناصر أنه خذل شعبه وأمته وبدا مستعدًا أن يتحمل المسؤولية كاملة، لا أسندها إلى غيره ولا بررها بأسباب خارجة عن إرادته. لم يكن أحد بجواره ليلة «التنحي» سوى محمد حسنين هيكل، موطن ثقته ومحاوره الرئيسي في سنوات الصعود. سألت الأستاذ هيكل: «كيف بَدَرَ مصطلح النكسة إلى ذهنك عند كتابة خطاب التنحي؟»
- «والله لا أعرف»
- «هل يمكن أن تكون قد تأثرت بما صغته أنت نفسك في الميثاق الوطني عن نكسة ثورة ١٩١٩؟»
- «لا»
كل ما جرى أنه جلس في مكتبه ببيت الجيزة ليكتب خطاب التنحي ومشاعره معلقة ببلد سوف يفاجأ بعد قليل بما لم يكن يتوقعه، وأن صدمته سوف تهزه وتفقده ثقته في نفسه. لم يطاوعه قلمه أن يضع على ورق كلمة «الهزيمة».
في البداية رفض عبدالناصر مصطلح «النكسة» وكان رأيه أن عدم استخدام وصف الهزيمة قد يوحي بمحاولة للتنصل من مسؤولية يعترف بها.
شرح هيكل وجهة نظره على النحو التالي: «إن استخدام كلمة الهزيمة في تلك اللحظة قد يعني التسليم بنتائجها السياسية، وأن الحرب أطول مدى من جولة خسرناها، وإنها سوف تؤثر بالسلب على قوات عسكرية ما زالت تُقاتل في سيناء، وتسعى للعودة سالمة إلى غرب القناة، كما تؤثر بالسلب على الأمة العربية كلها، وأنه من الأوفق أن يترك الرئيس الحكم والبلد في نكسة يمكن تجاوزها في مدى منظور من التسليم بهزيمة تلزم من بعده بنتائجها».
لم يخضع خطاب التنحي لأية دراسة يستحقها من حيث إحكام الصياغة والعرض. من الناحية المهنية فهو أفضل ما كتب هيكل من خطابات عامة.
هناك نظرة مضادة تبنتها أسرة المشير ترى أنه قد قتل ولم يمت انتحارًا


قلت له ذات مرة والنقاش ممتد حول ذلك اليوم الاستثنائي: «لو أنك كتبت هذا الخطاب مئة مرة وألقاه عبدالناصر مئة مرة ما كان يمكن أن يكون مؤثرًا إلى هذه الدرجة التي رأيناها في البيوت والمنتديات والشوارع».
قال: «إنه الصدق والشعور بالمسؤولية».
بصورة أو أخرى تصدرت الوطنية المصرية مشهد (٩) و(١٠) يونيو قبل أي اعتبار آخر. أعطت مصر أقصى ما لديها من إرادة القتال، ولم يكن التفويض الاستثنائي الذي منح لعبدالناصر شيكًا على بياض، فقد خرجت مظاهرات طلابية عام (١٩٦٨) تندد بالأحكام المخففة على التقصير الفادح لقادة سلاح الطيران في حرب يونيو. بقوة الوقائع (٥) يونيو هزيمة عسكرية فادحةوبقوة الإرادة بدت نكسة يمكن تجاوزها.

(2)

فور عودة عبدالناصر إلى ممارسة مهامه الرئاسية بعد تظاهرات (9) و(10) يونيو أسند قيادة الجيش للفريق أول محمد فوزي، ورئاسة الأركان للفريق عبدالمنعم رياض. لم يكن عبدالناصر، مستعدًا لأي تساهل مع أي انفلات داخل الجيش.
تولى المهمة الفريق أول محمد فوزي بنفسه. تفاقمت حالة المشير وحاول الانتحار في حضور الفريق أول فوزي والفريق رياض وتكررت محاولاته حتى انتهت حياته. أصدرت النيابة العامة برئاسة محمد عبدالسلام أول بيان لها يوم (١٦) سبتمبر (١٩٦٧) جاء فيه بالنص: «... كما ثبت اليوم بصفة قاطعة من التحليل الضوئي والكيماوي، الذي أجرته مصلحة الطب الشرعي أن المادة التي وجدت مخفاة تحت الشريط اللاصق وزنها (١٥٠) ميليجرامًا هي مادة الأكونيتين، وهي عقار شديد السمية سريع الأثر، يكفي نحو ميليجرام أو اثنين منه لإحداث الوفاة في مثل الظروف والحالة التي شوهد عليها الجثمان». هناك نظرة مضادة تبنتها أسرة المشير ترى أنه قد قتل ولم يمت انتحارًا. نشرت تقارير منسوبة لخبراء سموم تستبعد فرضية الانتحار، وقالت إنه لا يتحمل مسؤولية الهزيمة في يونيو، ولا عن انفصال سوريا، ولا حرب اليمن، وأن كل ما منسوب إليه محض افتراءات.

«الأستاذ.... المصري الأصيل والكاتب الصادق مع نفسه ومع الغير، بكل التقدير والاحترام، أقدم لك كتابي هذا، لعلي أكون قد وفقت في رد الأمانة إلى أهلها، الشعب المصري العظيم». هكذا أهدتني السيدة برلنتي عبدالحميد الزوجة الثانية للمشير عبدالحكيم عامر كتابها «الطريق إلى قدري.. إلى عامر» عام (٢٠٠٢). لم نلتق أبدًا لكنها هاتفتني أربع أو خمس مرات، تطلب أن تحاور وأن تستمع إلى رأي فيما كتبت. كان تقديري إن ما احتواه الكتاب مَرارات يمكن تفهم دوافعها الشخصية. لم تحظ بمكانة زوجة الرجل الثاني في البلاد، أو الرجل الأول مكرر ـ كما كانت تقول. أحاطت قصتها معه تساؤلات وظلال، وعندما رحل خضعت لتحقيقات ومساءلات. تفهم الدوافع الإنسانية لا يعني تقبل الرواية التاريخية. لم تكن في موقع يسمح لها بالحكم على التاريخ.
اعتمد أغلب كتابها على شهادات قادة عسكريين عملوا مع المشير ويتحملون معه مسؤولية الهزيمة الفادحة. الشهادات التي أوردتها أقرب إلى نفي أية مسؤولية عن الهزيمة، وهو ما يستحيل تقبله على أي نحو أو بأي حساب. ما تحتاجه مصر بعد كل هذه السنوات الطويلة، وبعد أن غادر أبطال الحدث مسارح الحياة، أن تطل على الحقيقة في مسألة وفاة المشير.
في مذكرات المستشار عصام الدين حسونة وزير العدل أثناء الحدث إشارة موضوعية عن افتراق الروايتين. قال نصًا: «بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر في مطلع السبعينيات، وبعد أن استقر الحكم للرئيس محمد أنور السادات التقيت ـ مصادفة ـ المهندس حسن عامر شقيق المشير وأنا أمارس رياضتي ـ المشي ـ على كوبري قصر النيل فوقف يحييني في ود وحرارة.. كنت لم أره منذ وفاة المشير، وقال لي إن آل عامر لا ينسون لك مواقفك معهم.. ثم بادرني بالسؤال إننا نشعر بأن المشير لم ينتحر.. وأنه قُتل فهل يمكن أن يُعاد التحقيق في الحادث؟.. قلت إن القضية قضية شهود، وقد قرر هؤلاء الشهود ـ على سبيل القطع ـ أن الوفاة تمت انتحارًا، وأيدهم في ذلك صفوة الأطباء الشرعيين في مصر.. فهل عندك ما يفيد أن شهود الحادث مستعدون ـ اليوم ـ للعدول عن أقوالهم؟.. أجاب: لا.. قلت: هل استشرت أحدًا من رجال الحكم الجديد؟ قال: نعم استشرت السادات وقد شجعني على طلب إعادة التحقيق».
«سألت صلاح نصر لماذا استوردت المخابرات هذه السموم من الخارج فأجابني بقوله: إن المخابرات استوردت نوعًا متقدمًا من السم، وهو الأكونيت، ويستخرج من نبات اسمه خانق الذئب»


بنص شهادة فريدة نشرت في صحيفة «العربي» عام (٢٠٠٩) لوزير الكهرباء والسد العالي حلمي السعيد، الرجل الذي حقق في قضية انحراف المخابرات: «سألت صلاح نصر لماذا استوردت المخابرات هذه السموم من الخارج فأجابني بقوله: إن المخابرات استوردت نوعًا متقدمًا من السم، وهو الأكونيت، ويستخرج من نبات اسمه خانق الذئب». «ولما سألته لأي غرض استورده قال نحن نستورده من أجل كبار القيادات الذين يرغبون في الانتحار عند الهزيمة، لأنها تُحدث قتلًا فوريًا ودون ألم».
«وسألته هل أخبرت الرئيس عبدالناصر عن هذا السم فقال نعم، وقد علم بهذا قبل ٥ يونيو، فغضب وقال بحدة: مش أنا اللي انتحر».
«وقال لي صلاح نصر لكن المشير عبدالحكيم عامر أخذ واحدة منها، وقد وجدوا مكان لصقها بين فخذيه، وهي التي أودت بحياته».
وقد أكد حلمي السعيد في شهادته أن التحقيقات التي أجراها تم تسجيلها على شرائط سلمت جميعها إلى النيابة العامة. بعضها تسرب وبعضها الآخر ما زالت أسراره مجهولة. جرت تحقيقات في التجاوزات التي ارتكبت، أسبابها والمتورطون فيها، تولاها ـ مع المهندس حلمي السعيد ـ اللواء محمد نسيم، وهو ضابط مخابرات بالغ الكفاءة اشتهر بـ«قلب الأسد». أشرف اللواء نسيم على عمليتي ضرب الحفار الإسرائيلي في أبيدجان وزرع «رأفت الهجان» في إسرائيل.
جاء حلمي السعيد إلى التحقيقات من قلب التنظيم السياسي بلا حسابات شخصية يصفيها وجاء محمد نسيم من قلب المخابرات العامة، وهو على علم بما يجري فيها.
كان الرئيس الجريح يطلب الحقيقة دون مبالغة، ما الذي جرى بالضبط؟.. وكيف ولماذا جرت التجاوزات والانحرافات التي شملتها مذكرة تفصيلية كتبها اللواء نسيم؟ كانت أكثر نقاط التحقيق إثارة وغموضًا ما قيل عن استخدام النساء في أعمال المخابرات، ومن بينهن فنانات معروفات. في هذه النقطة - بالذات - جرى التحقيق مع (٤٤) سيدة و(١٩) شخصًا من خارج الجهاز و(١٤) من قوته. أثبتت التحقيقات أن ثلاثة من أفراد الجهاز وثلاثة من خارجه متورطون في علاقات نسائية.
كما أثبتت استخدام الجهاز لبعض النساء فيما يطلق عليه في الأدبيات الاستخباراتية بـ«عمليات السيطرة».
لم ينفِ صلاح نصر في التحقيقات التي أجريت معه مثل هذه العمليات، وعزا إليها الإيقاع بشبكتين استخباريتين في القاهرة. القصة بظلالها وامتداداتها تتجاوز ما هو شخصي إلى ما هو عام، وتكشف جانبًا مما كانت تقوم به المخابرات في ذلك الوقت وأساء إلى صورتها وأدوارها. باليقين فإن ما حدث وفق شهادة الرجل الذي حقق مع صلاح نصر انحراف بالسلطة. بموضوعية كاملة لا يمكن التقليل من الأدوار، التي لعبها صلاح نصر في لحظة حرجة من الصراع على المنطقة.
بذات القدر لا يمكن التغاضي عن تجاوزات مهدت بصورة أو أخرى للهزيمة العسكرية في «يونيو».

(3)

كانت قد مرت عقود طويلة على رحيل الرئيس والمشير، عندما باغتني نائب رئيس الجمهورية الأسبق زكريا محيي الدين بسؤال لم أتوقعه، نصه تقريبًا: «هل تعرف يا ابني لماذا لم يحسم عبدالناصر مبكرًا، وهو يقدر ويستطيع، الصراع مع عبدالحكيم عامر؟».
كان ذلك عام (٢٠٠٤) في لقاء حضره نجله الأكبر محمد زكريا محيي الدين، عضو مجلس النواب فيما بعد والمحامي المعروف عمر الشال. قلت: «يا سيادة النائب كنت ثالثهما من حيث القوة في مجلس قيادة ثورة (٢٣) يوليو، وكنت نائبًا للرئيس ورشحك لخلافته، حاورته في اجتماعات رسمية وغير رسمية بعد الهزيمة واستمعت منه وعاينت بنفسك حقائق الأمور». لم يكن الماضي هو موضوع ذلك اللقاء النادر، الذي جرى ذات صباح في غرفة استقبال تُطل على حديقة صغيرة بمنزله في شارع الثورة بحي المهندسين. بدا أنه يريد الاطمئنان على مستقبل البلد، وهو يقترب من نهاية رحلته في الحياة.
كانت أكثر نقاط التحقيق إثارة وغموضًا ما قيل عن استخدام النساء في أعمال المخابرات، ومن بينهن فنانات معروفات


ماذا يمكن أن يحدث إذا مضى «سيناريو التوريث» إلى نهايته وتقوضت أُسس النظام الجمهوري؟ غير أن الماضي طرح نفسه في حيرة سؤاله. إلى هذا الحد كانت العلاقة الإنسانية بين عبدالناصر وعامر فريدة في متانتها ومستعصية على التفسير. تأخير الحسم بتوقيته وحينه وأسبابه أفضى إلى انقلاب صامت عام (١٩٦٢) قلصت بعده صلاحيات الرئيس العسكرية. بدأ الانقلاب الصامت قبل خمس سنوات من الهزيمة كرد فعل عكسي على ما توجه إليه عبدالناصر من تقليص صلاحيات المشير في التصديق على تولي المناصب القيادية في الجيش، وأن يكون مثل هذا التصديق حقًا لمجلس الرئاسة، الذي كان يمثل في ذلك الوقت نوعًا من القيادة الجماعية، وأن تستبدل القيادات العسكرية التي ثبت فشلها، وأن يكون معيار الاختيار هو الكفاءة العسكرية وليست الاعتبارات السياسية والشخصية.
ارتفع صوت المشير بعبارات حادة وغير معتادة فغادر عبدالناصر الاجتماع، وأسند رئاسته إلى عبداللطيف البغدادي، خرج بعده المشير غاضبًا ومستقيلًا. الأخطر أنه نقل إلى قيادات الجيش ما دار في اجتماع مجلس الرئاسة، والقرار الذي أصدره، وجرى تفسيره بأن هناك خطة سياسية للتدخل في شؤون الجيش وسلب سلطة القائد العام. والأكثر خطورة أنه تم ما يمكن وصفه بشبه استفتاء غير رسمي طُرح فيه سؤال لمن الولاء: للرئيس أم للمشير إذا ما اختلفا؟!
معنى الاستفتاء ـ دون أي لبس ـ مشروع انقلاب عسكري مباشر يُفضي إلى صدام دموي بين الجيش والشعب، الذي يمنح تأييده مطلقًا لجمال عبدالناصر.
جرى تقبل الانقلاب الصامت بديلًا عن الانقلاب الكامل أو الصدام الدموي المحتمل. كان ذلك خطأ مأساويًا كاملًا، فقد كان بوسع عبدالناصر أن يحسم أي صراع من مثل هذا النوع بأقل كلفة ممكنة.

(الحلقة الثانية في عدد الخميس المقبل بعنوان: «السادات وعصره: الانقلاب من الداخل»)