ستكون أولى نتائج الهجوم على منشأتي أرامكو في بقيق وخريص، تسعير النقاش حول خيار الحرب على اليمن ومجمل السياسة الخارجية السعودية في حقبة الملك سلمان. قامت السياسة الخارجية السعودية التقليدية في واحدة من مبادئها على تجنب التورط في الحروب والاستعاضة عن ذلك بالانضواء تحت مظلة الأمن القومي الأميركي والاستثمار في الوكلاء واستغلال القداسة. أتقن السعوديون لعقود فنّ الإدارة من الكواليس مستفيدين من ريوع النفط ومن هالة السيطرة على مكة والمدينة المنورة. ووكلاء المملكة متنوعون: إخوان وسلفيون وسلفيون جهاديون وليبراليون وقوميون...، ولكل من هؤلاء دور، فعادة ما يكون بعض الإخوان أداة لافتعال تغيير سياسي، والسلفيون الجهاديون للإرهاب والحرب، والليبراليون للتنظير وإضفاء مسحة إنسانية على السياسات السعودية الموجّهة للغرب. ضمنت هذه المقاربة للمملكة إقصاء عدد من أبرز مناوئيها مثل الرئيس جمال عبد الناصر قبل أن تستميل أنور السادات بعيداً عن الاتحاد السوفياتي. وهي استفادت من الوكلاء لتدمير العراق وسوريا وسعت لذلك في لبنان وفلسطين وللتخريب في مصر وليبيا والسودان. أتقن النظام السعودي حرفة إدارة الحروب الأهلية داخل العالم العربي بما توارثه من خبرة في المكائد لدى المؤسسين الأوائل وبما توفر له من موارد هائلة. وفي ذلك كانت المملكة تنطلق من موقع محافظ يحاول حماية الوضع القائم ومنع صعود المنافسين. في تلك المرحلة كانت السعودية محصّنة أولاً بالمظلة الأميركية وثانياً أنها تعمل من دون بصمة وتستخدم خطاباً موارباً، ما كبح خصومها عن التعرض المباشر لها.
لكن لمَ احتاج النظام السعودي إلى تغيير هذه المقاربة؟ هذا التغيير كانت بدايته الجدية مع انطلاقة الانتفاضات العربية عام 2011 واشتدّ مع انكشاف سوريا والعراق قبل أن تتبلور المقاربة الجديدة من خلال الانخراط في العدوان على اليمن عام 2015. المتغير المستقل الرئيسي (أي السبب) هو انكفاء مشروع الهيمنة الأميركية داخل المنطقة، وكان وصول سلمان بن عبد العزيز للحكم بداية عام 2015 ومعه ابنه محمد، وهو الحاكم الفعلي والطامح للوصول إلى العرش، متغيراً متدخلاً ساهم في تشكيل استجابة سعودية جديدة للتحولات الخارجية. ففي وقت انطلاق العدوان على اليمن في آذار 2015، كانت تتبلور اندفاعة كبيرة للجماعات المسلحة في سوريا نتيجة لتوافق سعودي مع قطر وتركيا لوقف انهيار جبهات المسلحين واستعادة المبادرة، وذلك بعد التيقن أن إدارة أوباما لن تتورط في الحرب السورية. وكان كل ذلك يجري مع تقدّم عملية التفاوض الأميركية – الإيرانية حول البرنامج النووي في لوزان بين 26 آذار و2 نيسان 2015.
أدرك الحكم السعودي الجديد أن المظلة الأميركية، نتيجة سياسات إدارة أوباما، لم تعد كافية أبداً وأن أميركا تُعيد تقييم علاقاتها بحلفائها، وأن إيران ستصبح نتيجة الاتفاق النووي المرتقب أكثر حضوراً، وأن المحور التركي – القطري يجهد لتوسعة نفوذه الإقليمي داخل المجال العربي، فقرر الهروب للأمام عبر مساكنة مؤقتة مع المحور التركي – القطري (أنهاها عندما تيقن من الفشل السوري)، وفتح الخطوط مع الصهاينة، واتباع سياسة خارجية غير تقليدية تقوم على الانخراط المباشر في الحرب وصناعة صورة لدولة إقليمية مقتدرة في مجال العنف.
تدفع السعودية منذ زمن ثمن «الرؤية النفقية» للصراع مع إيران التي تبالغ الرياض في تشخصيها مصدراً لخطر وجودي فيما كانت قوى إقليمية أخرى تستغل الانشغال السعودي لبناء النفوذ في العالم العربي. فحتى حين تراخت المقاربة الأميركية تجاه إيران لم تحاول الرياض التكيّف أو استكشاف فرص جدية للحوار مع طهران، بل اكتفت ببعض اللقاءات الرمزية بأفضل الأحوال. وفي حين أبدت قوى شيعية عراقية انفتاحاً مرحباً به من طهران تجاه السعودية، وتعامل حزب الله بإيجابية تجاه حليفه في بيروت الرئيس سعد الحريري رغم تراجعه في الانتخابات النيابية الأخيرة، لم يتبين أن لدى الرياض مساراً آخر غير التصعيد أو استراتيجية خروج أو بدائل، وكل هذا لا يمت للسياسة بصلة.
هذه هي دوافع النظام السعودي في التحول الهجومي ولكن النوايا هنا ليست كافية، فالسعودية رغم كل الإنفاق العسكري المذهل ليست قوة حرب، هي كانت تتسلح حتى لا تضطر لشنّ حرب بل لإدامة الحماية الأميركية برشاوى صفقات التسلح. فالسعودية على المستوى الهجومي لا تمتلك قدرات حسم حروب سريعة وذلك لضعف ثقافتها الإستراتيجية وهشاشة خبراتها العملانية والاستخبارية وعجز قواتها البرية وافتقادها قدرة تحمّل خسائر بشرية كبيرة كما سنبين. ودفاعياً، وكونها دولة ريعية ذات سلطة شديدة المركزية، تتجمع مصالحها الاستراتيجية في عدد محدود من المواقع التي يستحيل الدفاع عنها في ظل تطور قدرات إيصال النيران البعيدة لدى الدول والمنظمات المحيطة بها. فالعمق الجغرافي المديد يحميها من الاجتياحات البرية الواسعة ولكنه لا يحمي منشآتها الحيوية ولا سيما أنها حاصرت نفسها بالأعداء من كل جانب تقريباً، من إيران والعراق وقطر واليمن. يضاف لما سبق أن النظام السعودي قرر الانخراط في الحرب وفي الوقت عينه أطلق عملية تحول اقتصادي تقوم على اجتذاب الاستثمارات الخارجية التي تحتاج أولاً لبيئة آمنة ومستقرة.
تورّط السعودية في سياسة الحروب الفاشلة لن يقوّض فقط مشروع الهيمنة داخل المنطقة أو موقعها الإقليمي أو ضعف ولي العهد السعودي داخل لعبة القوة في الأسرة الحاكمة بل قد يؤدي إلى إعادة إنتاج العقد الاجتماعي داخل المملكة. إن صعود الدولة القومية في أوروبا بحسب أندريس ويمر (أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة كولومبيا) مرتبط بالحرب مع بروز ظاهرة الجيوش الشعبية حيث أصبح مطلوباً من العامة القتال والتضحية وثم حاجة الحكام للضرائب لتمويل الحرب، ومقابل ذلك بدأ الناس المطالبة بالشراكة السياسية والمساواة أمام القانون وخدمات وتقديمات أفضل. فبدأت تنشأ الدولة الوطنية التي اتضح أنها أكفأ من الممالك والإمبراطوريات وأكثر فعالية في جمع الضرائب وحشد الولاء السياسي وإدارة الحرب.
إن الاستبداد السعودي يقايض المشاركة السياسية للسكان بالريوع وأشكال غير رسمية من النفاذ لمراكز السلطة (لقاءات لكبار القبائل والأسر مع أمراء المناطق أو الملك أو ولي العهد تُقدم خلالها التماسات ذات طابع شخصي) وضرائب محدودة والاستقرار. بينما يقوّض النظام السعودي اليوم البنية الريعية ويرفع أشكال الدعم ويستنزف ميزانية الدولة في حروب خارجية ويعزز البطش الداخلي ويغامر بأرواح الجنود السعوديين في معركة عبثية. ولذا إن استمرار السعودية في هذا النمط من السياسات الخارجية والداخلية لا تكفي مقايضته ببعض اللبرلة الاجتماعية بل يلزمه تنازلات جدية في المجال السياسي، فهل الأسرة الحاكمة جاهزة لذلك؟
الولايات المتحدة في المنطقة هي أكثر من دولة، هي منظومة هيمنة ولكن تتحلل من الكثير من أعبائها الإقليمية وتلقي بها على عاتق حلفائها الإقليميين. فيما السعودية هي أقل من دولة، هي نظام حكم مندمج بعلاقة تبعية داخل تلك المنظومة. ولذلك كان لنجاح محور المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق والإخفاقات الذاتية لواشنطن وحلفائها الإقليميين، الفضل في استدراج النظام السعودي للخروج إلى ميدان المواجهة، وهذا الاستدراج كان على الأغلب نجاحاً غير متعمّد لمحور المقاومة. لم يفت محور المقاومة يوماً مركزية السعودية في المحور الأميركي، ولكن مكونات المحور شكّلت وعياً ومعرفة دقيقة للمركزية السعودية بعدما انتقلت الأخيرة نحو المواجهة المفتوحة والصفرية بدءاً من سوريا والعراق وثم اليمن و«صفقة القرن» وصولاً للانخراط التام في الجهود الأميركية ضد إيران والتحريض عليها بالحرب والإرهاب.
كعب أخيل منظومة الهيمنة الأميركية في المنطقة اليوم ليس «إسرائيل» بل النظام السعودي المتغلغل في البنية السياسية العربية، فالكيان الصهيوني ورغم خسارته للمبادرة الإستراتيجية إلا أنه محصّن نسبياً في الداخل بنظام سياسي كفوء وردع عسكري مدعوم بتفوق تكنولوجي واقتصاد متنوع. منحت المغامرة السعودية فرصة غير متخيلة لمحور المقاومة، فهي وفرت لليمنيين سبباً لاستهداف المصالح السعودية الحيوية بشكل مباشر وكشفت هشاشة المملكة وأثبتت أن إضعاف النظام السعودي يضرب مركزاً رئيسياً داخل منظومة الهيمنة بكلفة مقبولة وتداعيات هائلة.
يبقى هناك خطأ قاتل آخر اقترفه النظام السعودي ستظهر نتائجه مستقبلاً وهو أنه جعل السعودية جزءاً من المعركة الداخلية في الولايات المتحدة بين ترامب وخصومه، وهذا ما يُفسر بنحو ما المواقف المتشددة للديموقراطيين ضد السعودية ومحمد بن سلمان. يمكن لإسرائيل أن تمارس هذه اللعبة في الولايات المتحدة، آخرها كانت في عهد أوباما، وحتى هي لم تسلم من نتائجها دائماً، فكيف سيكون حال الرياض؟ صحيح أن الدول الاستبدادية غالباً يقضي عليها دكتاتور أرعن يفتقد لمراكز قوى تعقلنه، لكن يبدو أن المسار الوحيد للحد من الخسائر السعودية أصبح رهن حراك ما من داخل الأسرة الحاكمة والتي أثبتت مراراً أن غريزة البقاء لديها حاسمة.
* أستاذ جامعي