ربما كان العام 680 فاصلاً في تاريخ المسلمين، تفاعلت حوادثه لتخلق ظروفاً أسهمت في بلورة مناهج فكرية ومذهبية تواصلت وتطورت عبر القرون حتى أدّت الى الأطر الفكرية والثقافية الحالية للمسلمين. ففي أحد أيام ذلك العام (العاشر من محرم من العام 61 هـ) حدثت واقعة كربلاء التي استشهد فيها الحسين بن علي بن ابي طالب، حفيد الرسول، ومعه اثنان وسبعون من ذويه وأصحابه، والسبب المباشر الذي يؤكده المؤرخون هو رفضه مبايعة يزيد بن معاوية خليفة للمسلمين بعد وفاة أبيه معاوية بن أبي سفيان. وحتى ذلك اليوم لم تكن هناك حدود واضحة تفصل بين المسلمين، وإن كانت هناك ولاءات وانتماءات بعضها ديني وبعضها قبَلي. فحتى استشهاد الامام علي بن أبي طالب قبل ذلك بعشرين عاماً كان المسلمون أمة واحدة مع اختلافات في الولاءات السياسية والدينية لم تمنع وقوفهم صفّاً أمام تحديات الخارج وتهديداته.
لوحة «معركة كربلاء» لعباس الموسوي - متحف بروكلين، نيويورك

صحيح أن مسألة الخلافة بعد رحيل رسول الله كانت هي الاخرى موضع اختلاف بين المسلمين، ولكن الخلاف بقي ضمن ما هو مألوف من الاحتقانات السياسية في أغلب الظروف. ولو كانت الحدود الفاصلة بين المدرستين الشيعية والسنية حادّة لما أصبح علي بن أبي طالب خليفة للمسلمين بعد عثمان بن عفان. وتواصل السجال السياسي بعد رحيله عشر سنوات حدثت خلالها معارك سياسية وعسكرية بين الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان انتهت بمعاهدة وقّعها الطرفان وجمّدت الخلاف السياسي حتى وفاة الحسن في العام 50 بعد الهجرة. وبقي الوضع السياسي شبه مستقر مع شيء من الاحتقان، حتى توفي معاوية في العام 60 هـ وعيّن ابنه، يزيد، مكانه. وفي غضون فترة بسيطة حدثت واقعة كربلاء، بعد أن رفض الحسين بن علي مبايعة يزيد. كانت تلك الواقعة ثقيلة على المسلمين عامة، خصوصاً أن ضحاياها المباشرين كانوا من آل بيت الرسول، وعلى رأسهم حفيده الحسين وعدد من الصحابة.
ربما بدا للكثيرين أن ما حدث في تلك المنطقة الصحراوية من العراق كان حاسماً. فقد تم القضاء على أخطر تحدٍّ لشرعية الحكم الأموي الذي حوّل الخلافة، التي يفترض أن يكون لعامّة المسلمين الحق في إقرارها أو رفضها، الى نظام حكم يفصل الدين عن الحكم. فلم يكن الحاكم هو الأكثر اطلاعاً على أحكام الدين، بل كان حاكماً سياسياً يعيّن السلطات الاخرى، ومن بينها «قاضي القضاة» الذي يعتبر المرجع الديني للمسلمين من دون سلطات سياسية مباشرة. كانت مسألة «البيعة» ضرورة للحاكم، فسعى يزيد لاستحصالها من الرموز السياسية والدينية المرموقة، ومنهم الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير. وتصدّى بشكل حاسم لتحرّك قادته رموز كبيرة من الكوفة والبصرة لاستقدام الحسين من المدينة ليتسلم مقاليد الحكم بعد رحيل معاوية. ولكن المؤسسة الأموية في دمشق تصدّت لتلك المحاولة ووأدتها في مهدها، بينما كان الحسين في طريقه متوجهاً الى العراق. ولضمان عدم تبلور معارضة قوية للولاة الأمويين، تمّ اعتقال المئات من الرموز التي شجّعت الحسين على القدوم. ولذلك فعندما وقعت حوادث كربلاء، لم يستطع الحسين تعبئة دعم عسكري مؤثر، فاقتصرت قوته العسكرية على ما يربو على 70 شخصاً فحسب. بعد واقعة كربلاء التي يحتفي بذكراها هذه الايام قطاع واسع من المسلمين ينتمون إلى المذهب الشيعي، تولّدت حراكات سياسية متواصلة لم تتوقف. فبعد أربع سنوات فقط قاد سليمان بن صرد الخزاعي ما أطلق عليه «ثورة التوابين» التي ضمّت أكثر من ألف عنصر أغلبهم من أهل الكوفة الذين شعروا بعقدة الذنب لأنهم تخلّفوا عن نصرة الحسين عندما واجه جيش يزيد في كربلاء. وقد قتل الكثيرون من المقاتلين، ولكن تمكّنت مجموعة منهم من الفرار. وأعقبتها ثورة أخرى قادها المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي كان مسجوناً عندما وقعت حوادث كربلاء.
من الخطأ حصر ما حدث في كربلاء ضمن الأطر المذهبية


ماذا يعني ذلك؟ كما تمّت الاشارة، فقد تجرّأت مجموعات مسلحة على التصدي للدولة الرسمية. في البداية كان هناك بنو أميّة وبعدهم بنو العباس. وتعددت الثورات العلوية لاحقاً. ولكن قبل ذلك سعت المؤسسة الأموية لإثبات وجودها وردع المعارضين بشدة. فحدثت واقعة الحرة بعد عامين من ملحمة كربلاء (63 هجرية)، حيث بعث يزيد قواته بقيادة مسلم بن عقبة المري لمواجهة تمرّد أهل المدينة بعد مقتل الحسين ورفضهم مبايعته، وكانت المعركة شرسة جداً، انتهت بقتل المئات من أهل المدينة واستباحتها. وفي العام التالي استُهدفت مكة لإجبار عبد الله بن الزبير على البيعة، وتعرضت الكعبة لشيء من التدمير عندما أطلق عليها المنجنيق. وبدأت لاحقاً حركات تسعى للثأر من قتلة الحسين، وكانت أولاها «حركة التوابين». انطلقت تلك الحركة في العراق بعد مقتل الحسين وتزعمها سليمان بن صرد الخزاعي، وانضم اليها الآلاف تباعاً. وفي العام 1965 توجهت نحو الشام حتى واجهت الجيش الاموي عند منطقة عين الوردة التي حدثت فيها معركة شرسة، انتهت بانتصار الامويين وقتل أغلب قادة الحركة وانسحاب بعض المقاتلين. وبعد عامين قام أحد الكوفيين، وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي، بحركة عسكرية استهدف فيها عدداً من قتلة الحسين الذين كانوا في الكوفة. وسيطر على الحكم في الكوفة، ورفع شعار «يا لثارات الحسين»، وكان يخطط لبناء دولة علوية في العراق، وقد قُتل في الكوفة عام 67 للهجرة على يد جيش مصعب بن الزبير. وتوالت ثورات العلويين ضد الحكم الأموي تباعاً، بعد أن وفّر قتل الحسين أرضية دينية للتحشيد ضد الحكم الاموي. وبشكل تدريجي تبلورت اتجاهات مسلحة لمواجهة النظام السياسي. هذه المرة لم تعد الثورة ضد النظام اختراقاً للدين والشرع، بل تحول الصراع في أغلبه الى مناكفات سياسية، بعد أن سحبت الصفة الدينية عن الحكم. فالخليفة الأموي لم يعد محمياً بالدين، وإن كان يحمل مسمّى «الخليفة». وبغياب الصفة الشرعية عن الحكم، أصبح استهدافه أيسر، فتعددت الثورات والصراعات التي نخرت المشروع السياسي الذي ابتعد تدريجياً عن انتمائه العقائدي.
إن من الخطأ حصر ما حدث في كربلاء في العام الحادي والستين من الهجرة ضمن الأطر المذهبية، وان كان الأطراف المرتبطون بها قد نحَوا ذلك النهج. بل يمكن القول إن رفض الحسين مبايعة الحاكم الأموي آنذاك كان بوابة التمرد السياسي وبروز مجموعات معارضة، تارة ضمن أطر فكرية وأخرى بوسائل عسكرية. وفي غضون ستين عاماً بعد واقعة كربلاء حدث التمرد الشديد على الدولة الأموية من دون توقف، حتى جاءت الثورة التي قادها الامام زيد بن علي بن الحسين. هنا لم ينحصر الصراع السياسي ضمن الدائرة المذهبية، وان كان زيد أحد رموز آل بيت الرسول، بل تجاوزه ليشمل رموز الفقه وأئمته. فها هو الإمام أبو حنيفة النعمان ينحاز إلى زيد ويدعمه، ويتصدى للحكم الاموي قبل سقوطه في عهد مروان الحمار، وللحكم العباسي خصوصاً في عهد أبي جعفر المنصور. وبينما استشهد الامام زيد بن علي في الكوفة وصلب جسده في سوق الكناسة، تعرض أبو حنيفة للسجن والتعذيب حتى استشهد في زنزانته. وهكذا توسعت دائرة المعارضة للحكم الرسمي الذي كان يلتحف بالدين. الأمر المؤكد أن ثورة الحسين أزالت القداسة الدينية عن الحكم السياسي الذي أصبح مكشوفاً أمام عموم المسلمين، وبذلك تحرر المسلمون من قيود الاتباع الأعمى والانصياع للحاكم الظالم، أو الاستسلام للقوي الباغي أو المستبد الظالم أو المحتل الغاشم. ومع تغوّل النظام السياسي، توسعت دائرة الاضطهاد ولم تنحصر بمن يحمل السلاح في وجه الحاكم، بل شملت من يتحرر في فكره أو يناقش في قضايا الحكم والفكر والحقوق. وما أكثر الذين اضطهدوا في الحقب اللاحقة بسبب مواقفهم الفكرية ورؤاهم الدينية. ففي عهد الخليفة العباسي المأمون، ظهرت محنة خلق القرآن، وهو فكر انتشر من قبل فرقة المعتزلة التي قالت إن القرآن مخلوق وكلام الله مخلوق. وينسب ذلك للجهم بن صفوان الترمذي الذي كان بارعاً في علم الكلام. وكان الجهم قد صحب الجعد بن درهم بعد قدومه إلى الكوفة وتأثر بتعاليمه. يومها كان خالد بن عبد الله القسري والياً على الكوفة، فقبض على ابن درهم، وفي أول يوم من أيام عيد الأضحى من ذلك العام قال خالد وهو يخطب خطبة العيد: «أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر».
اقتنع الخليفة المأمون بآراء الجهم بن صفوان، وطالب بنشر هذا الفكر، وعزل كلّ قاضٍ لا يؤمن بهِ. وهو ما لقي معارضة واستهجان كثير من الائمة، مثل الإمام أحمد بن حنبل الذي تحمّل من أجل ذلك الكثير، وسجن زمناً حتى أفرج المتوكل عنه. وتعرّض الحلّاج (حسين بن منصور) للاضطهاد بعد أن اختلف العلماء والمفكرون حول فكره، فذهب البعض الى تكفيره والبعض الآخر وصفه بأنه من أهل الفناء. ولم ينحصر الخلاف ضمن دوائر الفكر والثقافة التي يمكن تجاوزها، بل اتخذ تقييم الحلاج بعداً عقائدياً، وإن كان العلماء يتفقون على أن الرجل صاحب نظرية الحلول والاتحاد بالوحدة، لكن الإشكالية هي، هل أن ما طرحه الحلاج هو كفر وإلحاد؟ أم أنه كان خارجاً عن قيود السلطة السياسية، فاتخذت أفكاره ذريعة لتتخلص منه؟ وقد قتل بطريقة شنيعة، إذ يقول المؤرخون إنه ضرب بالسياط نحواً من ألف سوط، وقطعت يداه ورجلاه، وضربت عنقه، وأحرقت جثته بالنار، ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد، وعلقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه في أحد شوارع بغداد، وذلك في العام 309 هـ.
دروس من التاريخ تكشف مدى ما يمارسه النظام السياسي، في غياب الحرية والقانون، من اضطهاد لمعارضيه. لقد أسهمت حادثة كربلاء في العام 61 هـ في إنهاء التستر بالدين لإخفاء المظالم وتخدير الجماهير. ويبقى السؤال: هل كان الامر يحتاج إلى ذبح حفيد رسول الله من أجل تحرير عقول المسلمين ودينهم من الظلم والاستبداد؟
* صحافي وناشط سياسي من البحرين