معركة الأيام السبعة، ما بين قصف منزل في عقربة قرب دمشق واستشهاد مقاوِمَين بارزَين لحزب الله وفشل عملية مسيّرتين سبقت إحداهما وانفجرت الأخرى مقابل شرفة شقة سكنيّة في شارع معوض في ضاحية بيروت الجنوبيّة، في 25 آب 2019 وتدمير مركبة للعدو داخل فلسطين المحتلة وإصابة من فيها بصاروخ أطلقته المقاومة الإسلامية من لبنان في 1 أيلول 2019 ردّاً على العدوان وعقاباً للعدو، وما جرى من تعبئة عامة واستنفار شامل ومواجهة نفسية وإعلامية وسياسية ودبلوماسية لم يكن اشتباكاً موضوعياً عادياً، تحصّل في فترات متباعدة بين العدو الصهيوني، والمقاومة الإسلامية، في ظل قواعد اشتباك رسمتها حرب تموز 2006، بل هي معركة مفصلية أظهرت صورة ميزان القوى بعد أربعة عشر عاماً على حرب تموز 2006، وفيه رجحان كفة صريح، بعد محصلة الصراع في السنوات الأربع عشرة الماضية، لصالح المقاومة الإسلامية، وعليه يمكن وصف معركة السبعة أيام بأنها ضميمة انتصار إلى حرب تموز، وأنها مؤشر صادق وصريح الدلالة في معرفة ميزان القوى، وأن ذلك يزعزع استراتيجية الكيان الصهيوني العسكرية والأمنية، ويجعله عاجزاً عن خوض حرب جديدة وقلقاً على وجوده القائم أصلاً على القوة والهيمنة والإرهاب والاحتلال والعدوان والحرب... لقد صمد القرار الدولي 1701 الذي رعى وصف العمليات الحربية مدة خمسة عشر عاماً، عرفت فيها المنطقة حروباً متعددة انتقلت من بلد إلى آخر، واشتركت فيها دول وجماعات عدة، تأوجت في سوريا، في مواجهة الإرهاب التكفيري، الذي مدّ عدوانه إلى لبنان واحتل أرضاً لبنانيّة، وهدد مناطق عدة فيه واستطاعت المقاومة الإسلامية أن تهزمه في سوريا وتهزمه وتطرده من لبنان وعليه خرج لبنان من هذه الحرب منتصراً بقوة المقاومة وما عرف بالثلاثية الذهبية، وحدة الجيش والشعب والمقاومة، وهي ثلاثية كانت معادلة استراتيجية من أبرز ما أنتجته حرب تموز 2006.
وحتى نستبين أهمية الأبعاد الاستراتيجيّة لما ندعوه معركة الأيام السبعة. يلزم أن نقف على طبيعة ميزان القوى ما بعد حرب تموز، وصورته في قواعد الاشتباك التي رسمتها هذه الحرب. وما أعقب ذلك من تطوّرات ذات بعد استراتيجي في قدرات المقاومة وكذلك قدرات العدو الصهيوني، ومآل مفاعيل العقيدة العسكرية الإسرائيليّة، المرتكزة إلى شنّ الحروب الدورية، كل عقدٍ ونيف من السنوات، لتدمير ما بنته القوى العربيّة المندرجة في الصراع العربي الصهيوني وهي القوى العسكرية للدول المحيطة بفلسطين، وما جرى عليها من متغيّر، أخرج بعضها من دائرة الحرب، مقابل دخول دول عربية وإسلامية أخرى في ميزان العسكري للصراع العربي الصهيوني المديد، والأصح في هذا الموقع، تسميته بالصراع مع العدو الصهيوني المحتل لفلسطين من أجل تحرير فلسطين وعودة أهلها وقيام دولتها الفلسطينية المستقلة الديمقراطية على كل فلسطين.
انتهت حرب تموز 2006 بعد 33 يوماً من المعارك الضارية بانتصار صريح للمقاومة الإسلامية، تمثل في موافقة مجلس الأمن الدولي على القرار 1701، بطلب من الولايات المتحدة الأميركية، بعدما فشلت قوات العدوان في الميدان. لم يحقق العدو الصهيوني أهدافه من الحرب، وتراجعت قواته تحت النار، وهُزمت في معارك المدن والجبال والأودية، وخسرت الحرب على كلّ الجبهات ورغم الدعم الدولي لقوات العدو، فإن القرار 1701، صدر في لحظة سيطرة المقاومة على ساحة الحرب، وذلك يعني أن كلّ بند فيه ملتبس النص يفسر لصالح المقاومة، والبنود الصريحة تجد آلية تنفيذها لصالح المقاومة أيضاً، تلك الدقيقة في القرار 1701 بأنه صدر في لحظة انتصار في الميدان، كان إشارة إيجابية في التقرير الذي رفعته لسماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله حين كنت وزيراً لحزب الله في الحكومة إبان حرب تموز في تقديري للموقف من القرار الدولي.
لقد أنتج هذا القرار في ما بعد أمرين أساسيين:
1- مفهوم وحدة الشعب والجيش والمقاومة في السياسة اللبنانية الرسمية، وهو يشرح مسألة ومفهوم الاستراتيجية الدفاعية.
2- وضع قواعد اشتباك بسند دوليّ تقوم على حق المقاومة في الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، الأمر الذي حمى لبنان، ومنع العدو من الاعتداء عليه.
كانت حرب تموز حدثاً تاريخياً ونصراً إلهياً مفصلياً في الصراع العربي الصهيوني، وهي من أكثر الحروب التقليدية التي استخدمت فيها كامل القوة العسكرية، وكانت حرباً مباشرة بين جيش العدو المتعدد التشكيلات وبين المقاومة الإسلامية واستطاعت المقاومة أن تفرض قواعد اشتباك تحمي أرضها وشعبها وأفرادها. والتزم العدو هذه القواعد، التزام الخائف القلق الخاضع لسلطان القوة والاقتدار.
درس العدو الصهيوني تجارب حرب تموز، وشكل لجاناً للتحقيق والدراسة واستخلاص النتائج، وعليه، دفعت قيادة حرب العدو ثمناً سياسياً، فاعتزل أغلب القادة السياسة، وذهب آخرون إلى السجن بتهم التقصير والفساد، وتغير قادة عسكريون عديدون، وظهرت مبادئ قتالية جديدة، وبدلت فرق وألوية، وتم تحديث الصناعات العسكرية، وزيادة عديد وأجهزة الاستخبارات. لقد عمد العدو إلى فعل كل ما يستطيعه وذلك على قاعدة الإعداد لحرب جديدة يثأر فيها من هزيمة حرب تموز ويحقق أهدافه في ضرب المقاومة في لبنان والمنطقة العربية المحيطة بفلسطين والقوى الإسلامية الداعمة لها، لإعادة الثقة بالكيان الصهيوني المستند إلى مبادئ القوة العسكرية والسيطرة التامة للجيش الأقوى في المنطقة والذي لا يقهر.
قوّة المقاومة أصبحت جزءاً أساسياً من قوّة لبنان الاستراتيجيّة


كانت المقاومة الإسلامية بدورها، تدرس التجربة، وتطور نفسها، وتعد لهم ما استطاعت من القوة. وذلك على مستوياتٍ جامعة بين العدّة والعديد والتدريب وتطوير القدرات والخبرات وقدمت الحرب في سوريا خبرات جديدة مضافة إلى تجربة المقاومة ونشأت وحدات قتالية مدربة على حرب المدن والجبال والصحراء والسهول الفسيحة، وعلى التنسيق ما بين القوات، من أسلحة مختلفة، وكذلك سبل الدمج والتعاون بين حرب الغوار والحرب النظامية. اكتسبت المقاومة الإسلامية تجارب عالية القيمة لا يمكن حصرها في مقالة ولا نحيط أصلاً في حقائقها وأبعادها.
لقد حصل كل ذلك في ظل وارف لأمرين:
1) قواعد الاشتباك التي أرستها حرب تموز 2006.
2) الاستعداد لحرب جديدة آتية لا ريب فيها من ناحية العدو، إذا أحسّ أن كسب هذه الحرب ممكن، وأن ميزان القوى أصبح لصالحه، ما يشجعه على المبادرة إلى الحرب، على قاعدة استراتيجيته القديمة في تدمير ممنهج، دوري، لكل القدرات العسكرية العربية المحيطة بفلسطين.
كانت عين العدو على لبنان في محيط فلسطين، يراقب أحواله وقدرات المقاومة فيه، وكانت عينه على إيران، في المشرق الإسلامي، يراقب قدرات إيران ويحرض الولايات المتحدة الأميركية على العدوان عليها، وكان يفتح سبل العلاقة والتعاون في كافة المجالات مع السعودية والإمارات وقطر والبحرين ويتابع التطبيع مع الدول العربية الأخرى، ويتشدد في حربه الدائمة مع الفلسطينيين حيث تواجدوا في الضفة وغزة وكل وجود فلسطيني في هذا العالم، ويسعى إلى بسط سلطته على القدس والجولان وكل الأراضي المحتلة، وينتظر الفرصة السانحة للعدوان، حيث يمكن له، ويعدّ لذلك ما استطاع.
أبقى العدو الصهيوني لأسباب معقدة نفسه خارج الحرب الكونية على سوريا رسمياً، لكنه كان على علاقات وثيقة مع الإرهاب التكفيري. واكتفى في سوريا بمراقبة حركة التسلح النوعي وخاصة الصاروخي، للجيش العربي السوري، وللمقاومة الإسلامية، ومارس في هذه المرحلة السياسة العسكرية التالية:
1- اعتبار إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة العدو الاستراتيجي الأول له.
2- السعي لدفع أميركا والحلف الأطلسي لخوض حرب ضد هذا المحور في المنطقة.
3- مراقبة حركة التسلح والإعداد العسكري للمقاومة الإسلامية والقوى محور المقاومة.
4- الإعداد لخوض حرب تكون لصالحه إذا ما سنحت له ظروفها المناسبة.
5- تفعيل الحرب الاستخبارية وحرب الاغتيال.
عمدت المقاومة، التي أدركت مخططات العدو، إلى التشدد في الحفاظ على قواعد الاشتباك في لبنان، بمنع العدوان، بأي شكل كان؛ وفرضت حماية الأرض والشعب والأفراد، كما فرضت بقوة السلاح، حماية الأفراد على الأراضي السورية، وظلت عملية مراقبة التسلح، لعبة صراع بين طرفين، كل منهما يعدّ ما استطاع لمحاربة الآخر.
شارفت حرب الإرهاب التكفيري على الانتهاء، وانتصرت سوريا، وأصبح أبطال اليمن على أبواب الانتصار. السعودية في أسوأ أحوالها، ومجلس التعاون الخليجي ممزق بين الأمراء. الشعب الفلسطيني استعاد وحدته في مواجهة «صفقة القرن». فقدت أميركا قدرتها على السيطرة على المنطقة كما على العالم. المارد الصيني استفاق. روسيا عادت إلى قوتها الماضية على قواعد أمتن وأقوى. أصوات الحرية في العالم تشتد وتقوى.
الرئيس الأميركي تحوّل إلى مهرّج يبحث عن كسب المال. الاتحاد الأوروبي لا يثق بالإدارة الأميركية. إيران تزداد قوّة، وتظهر أنها تسيطر على طرق النفط، أميركا تلاحقها بالحصار الاقتصادي الذي تسميه العقوبات، ولا قدرة لها على خوض الحرب في الميدان.
هذا الوضع أدخل القلق إلى الجسم السياسي الصهيوني، الذي عجز عن تداول السلطة بطريقة سهلة، قادته ينخرهم الفساد، ولا يوجد قوة قادرة على ربح الانتخابات وتشكيل الحكومة مأزق محيط من كل جانب ما هو الحل وفق تقديرهم؟
أدرك رئيس حكومة العدو نتنياهو أنه يسير إلى الفشل ومن الفشل إلى السجن بتهمة الفساد وأن لبنان رغم الصعوبات التي يواجهها يتعافى، وأن قوّة لبنان في مقاومته، ودور «حزب الله»، يتقدم في السياسة الوطنية والإقليمية. وعليه لماذا لا يوجه ضربة لهذا الحزب ومقاومته إذا كان الأمر ممكناً؟ وكيف له أن يعرف. ليختبر ميزان القوى، وليعمد إلى كسر قواعد الاشتباك، ومتدرجات القرار الدولي 1701 الذي أوقف الاعتداءات في حرب تموز وذلك عبر اختبار للقوة يكشف له إمكانية دخول الحرب أو تحقيق أهدافها بالتهديد والوعيد بها.
وعليه، فقد راح يخبط خبط عشواء، ويضرب من العراق إلى سوريا، وأرسل إلى ضاحية بيروت طائرتين مسيّرتين سقطت الأولى وانفجرت الثانية. وبدأت معركة الأيام السبعة، لتكشف إن كانت الحرب ممكنة أو أنها ممنوعة بقوة الردع.
ما ظهر في معركة الأيام السبعة يشكل ضميمة إلى انتصار حرب تموز من حيث أنه أظهر:
1) أن المقاومة في جهوزية تامة لخوض الحرب ولا تخشى غمارها وأن قوتها ازدادت على كافة المستويات، وأنها أصبحت قوّة عسكرية مقتدرة.
2) أن قوّة المقاومة أصبحت جزءاً أساسياً من قوّة لبنان الاستراتيجيّة. وأن الدور العسكري للمقاومة في الدفاع عن لبنان أصبح عقيدة عسكرية للجيش اللبناني نفسه، من خلال مفهوم وحدة الجيش والشعب والمقاومة.
3) أن قدرة الشعب اللبناني على تقديم التضحيات لا تزال غالبة فيما انخفضت قدرات العدو، وأن الشعب اللبناني لا يخشى الحرب وهو موحّد في مواجهتها رغم خلافاته السياسية حول أمور عدة اقتصادية وإدارية وغيرها.
4) أن موقف الحكومة اللبنانية أفضل مما كان عليه في حرب تموز بطريقة لا تقاس، وأين الوضع الآن من أيام فؤاد السنيورة؟!
5) أن قوة لبنان والمقاومة الدفاعية أصبحت قادرة على حماية البلاد والعباد.
6) أن هذه القوة دخلت عنصراً فاعلاً في ثقافة الشعب اللبناني. قوة الدفاع حق وعزة وكرامة.
كانت أحوال العدو في المقابل في حالة فاسدة، الجبهة الداخلية ضعيفة، المستوطنون خائفون، الجنود قلقون متخاذلون، القيادة فاسدة، والكذب ملح الرجال عندها، غير صادقة وغير فاعلة، ولا تصلح إلّا لصناعة الهزيمة.
هذه الواقع تنقله الصحافة الإسرائيليّة نفسها، وتتحدث عنه مجريات الأحداث، خاصة في تتبع الأحوال والأقوال في مسار معركة الأيام السبعة، والتي انتهت إلى تثبيت ما يلي: أن المقاومة الإسلامية قوة عسكرية استراتيجية لبنانيّة مدعومة من الشعب ومؤيدة من أغلب القوى السياسية ومن التآلف الحكومة، ومتناسقة مع الجيش والقوى الأمنية الأخرى في الدفاع عن لبنان ضد العدو الصهيوني وكل عدوان آخر.
وليست قواعد الاشتباك الجديدة التي أدخلت فلسطين المحتلة في مسرح العمليات، وأضافت حرب المسيرات والحرب الإلكترونية وحماية الأجواء وحرب الصواريخ الدقيقة في ميدان المواجهة هي المتغير المضاف الوحيد ولكن اختبار معركة الأيام السبعة أظهر أن ميزان القوى العسكري، في محصلة عقدين بعد حرب تموز، تحوّل في نسب عالية لصالح المقاومة الإسلامية. إن تدخل الدول الكبرى، الفاعلة والدول الإقليمية والمؤسسات الدولية وسواها، إذا ما حصل، لم يكن يحصل في مخاطر الحروب السابقة، حين كان لبنان ضعيفاً لا حول له ولا قوّة، ولكن ما يحصل من استنفار إقليمي دولي لمنع الحرب، هو وجود قوة قادرة على فعل الحرب وإدارتها. وهذا ما أشار إليه سماحة الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله، بالقول: إن مجرد الفعل، والقيام بالردّ هو أصل القضيّة في المعركة الراهنة، إن الإرادة والقدرة والكفاءة والشجاعة والاستعداد للمواجهة وتقديم التضحيات هي التي تصنع النصر، وتربح الحرب أو تمنع نشوبها، وهذا هو المتغير في ميزان القوى الذي تحصل خلال العقدين السابقين.
هذه القوّة التي تعاظمت عما كانت عليه في حرب تموز كشفت عن مؤشرات ميزان قوى جديد، في المواجهة مع العدو الصهيوني يمثل ضميمة إضافية إلى انتصار حرب تموز وقدرة عالية في الدفاع عن لبنان ومنع العدوان عليه لعقود أخرى من السنين.
* كاتب ووزير سابق