المشكلة التي تطرحها المادة 95 من الدستور هي كونها واضحة جداً من جهة لكنها تتعمّد في نقطة محددة الغموض من جهة أخرى. فهي واضحة بشكل جليّ كونها تعتبر صراحة أن لبنان اليوم يمرّ في مرحلة انتقالية هدفها النهائي إلغاء الطائفية، علماً أن المادة تارة تذكّر بإلغاء الطائفية السياسية وطوراً تكتفي بإلغاء الطائفية.في مطلق الأحول، المرحلة الانتقالية تتّسم بالمحافظة على عدالة التمثيل الطائفي في الحكومة من دون تحديد ما هو المقصود بتلك العدالة، وضرورة المحافظة على المناصفة في وظائف الفئة الأولى مع إلغاء التمثيل الطائفي في سائر الفئات. لا مشكلة حتى الآن، لكنّ الغموض سرعان ما يظهر في تعبير «الوفاق الوطني» الذي يرد في الفقرة «ب» من المادة 95 التي تنصّ على التالي: «تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويُعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى...». ما المقصود بمقتضيات الوفاق الوطني؟ ولماذا تمّ إقحام هذا المفهوم الغامض والمبهم في نصّ دستوري من دون شرحه أو تحديد مراميه؟
يعكس هذا النصّ مشكلة عامّة من مشاكل اتّفاق الطائف. فقد عمد النواب الذين اجتمعوا في مدينة الطائف سنة 1989 على صياغة مفاهيم والاتفاق على تعابير، ومن ثم تكريسها في النص مجرّدة عن كلّ سياق يمنح تلك التعابير معانيها ويعطيها الديمومة الضرورية كي تتحول إلى نص قانوني ملزم وواضح. وربما السبب وراء ذلك هو اعتقاد هؤلاء النواب أن تطبيق اتفاق الطائف هو منوط بهم في المستقبل، وأن النظام السياسي الجديد سيكون برعايتهم، إذ لم يكن يدور بخلدهم أن سنة 1992 ستشهد خروجهم من مجلس النواب وتسلّم السلطة من قِبل تحالف المليشيات ورجال المال الذي سيتولّى فعلياً تطبيق اتفاق الطائف وفقاً لمصالحه الخاصة.
ومن الأمثلة على هذا التخبّط مثلاً المادة 49 من الدستور التي تعلن أن رئيس الجمهورية هو رئيس المجلس الأعلى للدفاع من دون تعريف ما هو هذا المجلس الذي يظهر من عدم ومن ثم يختفي بالمطلق من النص الدستوري. والسبب في ذلك معرفة النواب حينها أن هذا المجلس تمّ استحداثه بموجب المادة السابعة من المرسوم الاشتراعي رقم 102 تاريخ 16 أيلول 1983. أي أن الذين شاركوا في الطائف افترضوا وجود هذا المجلس فتم ذكره بشكل عرضي في مادة دستورية ما يقلب المنطق القانوني رأساً على عقب بحيث بات هذا المجلس يستمد وجوده من القانون، بينما ينحصر دور الدستور فقط في استخلاص النتائج القانونية لهذا الوجود أي أن النص الأعلى (الدستور) بات تابعاً من الناحية المنطقية للنص الأدنى (القانون). جرّاء ما تقدم، بغية إماطة اللثام عن لغز «الوفاق الوطني» لا بدّ لنا من العودة إلى الفهم الذي كان سائداً بين نواب الطائف في تلك الفترة. وبالفعل ينقل لنا النائب ألبير منصور في كتابه «الانقلاب على الطائف» ما هو المقصود بمقتضيات الوفاق الوطني قائلاً إن إلغاء التمثيل الطائفي في الوظائف أثار تخوّف رئيس حزب الكتائب النائب جورج سعادة، لا سيما في الجيش وقوى الأمن الداخلي فتم الاتفاق على التالي:
• في حال كان التعيين في الإدارة العامة يتم بمباراة لا يتم الأخذ بالتمثيل الطائفي كون الكفاءة هي المعيار الوحيد الذي يجب احترامه.
• في حال كان التعيين لا يخضع للمباراة بل فقط لامتحان عادي أي أن الإدارة ملزمة فقط باختيار الموظفين من الذين نجحوا فقط دون الأخذ بالاعتبار ترتيب علامات نجاحهم، يجب عندها احترام المناصفة بين المسيحيين والمسلمين علماً أنه إذا لم يكن قد نجح القدر الكافي من المسيحيين أو المسلمين لتأمين المناصفة يتم التعيين ولو خارج الإطار الطائفي.
• حيث التعيين هو استنسابي ويخضع بشكل كبير لتقدير سلطة الإدارة كالتطويع في الجيش وتعيين الأجراء والمياومين تراعى مقتضيات الوفاق الوطني باعتماد المناصفة والتوزيع النسبي بين الطوائف (ألبير منصور، «الانقلاب على الطائف»، ص. 54).
هذا هو تفسير الوفاق الوطني الذي لا وجود له في أيّ نص دستوري أو قانوني. ويعطي منصور مثالاً عن هذا الأمر عندما كان وزيراً للدفاع في حكومة الرئيس سليم الحص سنة 1990، فقال إنه اضطر إلى تطويع عناصر جديدة في الجيش الذي شاخ وأصبح متوسط العمر فيه 35 سنة، فتقدم أقل من خمسين عنصراً مسيحياً من أصل ألفي متطوع، «فقرّرت التطويع ولأول مرة في لبنان خارج الإطار الطائفي ولم أكن في ذلك مخالفاً لمقتضيات الوفاق الوطني لأني لم أقم بتعيين استنسابي وإنما بتعيين قسري» (ص. 120).
وهكذا يصبح جلياً أن المناصفة توجد فقط في حال كان التوظيف يتم عملاً بالسلطة الاستنسابية للإدارة، بينما يتم إلغاء التمثيل الطائفي في حال كان التوظيف يتم بمباراة، بينما يمكن المحافظة جزئياً على المناصفة في حال كان التوظيف يتم بناء على امتحان. في النهاية لا بدّ من الإشارة الى أن هذا التفسير الذي ينقله النائب ألبير منصور هو سياسي ولا يوجد من مبرر قانوني للالتزام به مثل سائر نصوص اتفاق الطائف التي لم يتم إدراجها صراحة في متن الدستور، التي تظلّ عبارة عن اتفاق سياسي غير ملزم.
* أستاذ الأعمال التطبيقية للقانون الدستوري في الجامعة اليسوعية