حين تراجع دونالد ترامب عن قرار شنّ العدوان (وفق الإخراج الأميركي)، أدرك العالم أن ثمة خطباً مؤسّساً قد وقع، وأن ثمة جديداً قيد الولادة. فالقوة المطلقة التي احترفت شنّ الحروب وصنعها لم تعد كذلك. وما تقوله مراكز الأبحاث المختلفة عن التراجع والانحسار في محلّه تماماً.وفي المقابل، حين أعلنت إيران، وبثقة حركت استقرار الأفكار وأربكته، قرارها إسقاط الطائرة الأميركية المعتدية، فإنها أعطت العالم أمثولة مغايرة، وكشفت عن اقتدار ترك صداه في أرجاء العالم، ومنح طلاب الحرية أملاً جديداً، وأكد أن الحدث الذي فاجأ عدو العالم لن يكون بلا نتائج.
الفعل الإيراني يؤسّس لتحولات كبرى في موازين القوى الدولية، ويفيد بانطواء زمن البلطجة غير المقيّدة، ويعطي العالم إشارة إلى حقيقة المخاض الذي يعيشه ومآلاته الواعدة.
إنها واحدة من لحظات التاريخ التي تُصنع فيها الأمم، وتُصاغ فيها الأحجام، فتتهاوى سياسات ورؤى أضرّت بالإنسانية وتوشك على إهلاكها. فإلهاب العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على ما هو جارٍ في غير بقعة (التحشيد العسكري في بحر الصين وفي المجال الحيوي لروسيا، وإعادة إطلاق سباق التسلح، والتفلّت من الاتفاقات الدولية، وحصار إيران الجائر بهدف خنقها، وقهر تطلعات المنطقة العربية وغيرها من المناطق...) يؤشر على أن التفرد المجنون يخوض حرب بقائه، وأن العالم بصدد الدخول في تاريخ جديد أقل سوءاً، وعنوانه الأبرز نهاية سياسات العربدة التي سادت العالم.
باستثناء قوى المقاومة في لبنان وسوريا واليمن وبعض العراق، وتحديداً الموقف الصائب والدقيق الذي أعلنه السيد حسن نصر الله، يسود الشارع العربي سكون مفارق. هذا الشارع (بقواه القومية واليسارية والشعبية وغيرها) يعيش غيبوبة غير مفهومة. ومن شأن الاستمرار فيها أن يهدّد بفادح الأثمان.
هل هو التعب وقد بلغ مبلغه؟ أم هو العجز وقد بلغ رشده؟ أم هو فقدان البوصلة ومعها الإدراك؟ أم هو قصر النظر وغياب الوعي؟ لا جواب كاملاً! مع ذلك، وبمعزل عن الأسباب والحجج التي يمكن «تلفيقها» أو تدبّرها لتبرير حال التقاعس المريب، فإن نذر الحرب القادمة تستدعي لا أقلّ من استنفار الطاقات وتعبئة القوى بما يتعارض ويقطع مع هذا التنصّل الفاضح من شعور المسؤولية التاريخية، والذي لا يبرره العجز ولا الضعف ولا غيرهما.
أما السؤال الذي يستفز العقل ويفرض نفسه فهو: كيف يمكن لهذه القوى أن تبقى ساكنة، والغازي الأميركي يشحذ سكينه؟ كيف لها أن تستقيل من واجباتها تجاه قضايا المنطقة المهدّدة في حاضرها ومستقبل أبنائها إن لم يكن في أصل وجودها؟ إن اللحظة المفصلية (حيث مشرط البرابرة يعيث في أمعاء الأمة) التي تعيشها المنطقة يفرض على هذه القوى واجب إدراك ووعي دقة وخطورة الظروف التاريخية المخيّمة، والمبادرة سريعاً، وبلا إبطاء، إلى تنكّب بديهيات ما يفترضه الواجب القومي والوطني، فضلاً عن الأخلاقي.
أليس هذا أبسط ما تقتضيه الفطرة الإنسانية السليمة حتى لا نقول الحسّ أو الوعي الثوري الصحيح. فالمنطقة على أعتاب مواجهة كبرى حاسمة (إن وقعت)، بل في خضم حرب حقيقية، عالية التوتر، قد تتحول في أي لحظة إلى حرب غزو وتحطيم واحتلال، ولن تقتصر استهدافاتها على إيران (على ما يحاول بعض المرتزقة العضويين، أو قصّار الوعي، وحفنة المهزومين، تصويره) بل إنها ستطال مجمل بنيان المنطقة، وستضرب مكامن القوة والمنعة العاصية، ليتسنى من بعدها لقوى العدوان وشراذمه المحلّية التلذذ بإعادة هندستها وتشكيلها بما يؤمّن فرصة القضاء التام والمبرم والمديد على التطلعات الوطنية والقومية لأهلها.
إننا أمام ما يمكن اعتباره فصلاً جديداً (شبه ختامي!) في الحرب التي أعلنها الغرب علينا. فالجولات العدوانية المتصلة التي أرهقت شعوبنا ولم تكسرها، والبادئة منذ ما قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية، لم تحقق غاياتها النهائية بعد، ولا بد من استكمالها بهدف التصفية النهائية والتامة لأشكال المقاومة والرفض، فكرة وتنظيمات، ومعها باقي الحيويات العاصية ذات الصلة، أي إن الهدف سيكون، هذه المرة، وبخلاف ما سبق، الوصول إلى تحقيق نوع متقدّم من الإبادة السياسية والثقافية والاقتصادية الكاملة.
نعم، لا مبالغة في القول إن التهديدات المحيقة بالمنطقة ترقى إلى أن تكون وجودية. فقوى الاستعمارين، الجديد والقديم، تحشد الأساطيل وتبني التحالفات وترسل الإنذارات... والغريب أن كل ذلك يجري وشعوبنا المعنية أكثر من غيرها بمجريات ما يُبيَّت لنا، غارقة في سبات عميق، بل وانفصام يضعها في موقع المتفرّج السلبي، أو المشاهد الأبله لوقائع تمسّ صميم وجودها.
أيمكن للغياب، أي غياب، أن يبلغ هذا الحد من اللامبالاة؟ لا مبادرة. لا عريضة. لا فكرة. لا اعتصام. لا تظاهرة. لا حشرجة ولو ضعيفة لها صلة بالحياة. وإذا سلّمنا بأن الضعف قد يحول بيننا وبين واجب رفع البندقية، فما الذي يمنعنا من إتيان ما هو أدنى بكثير من هذا الفعل البديهي؟
هل فقدنا جدارة الحياة؟ ليس بعد. كنا لنكون، فعلاً وقولاً، خارج الحياة وجدارتها لو أمكن لجيش الوكلاء المحليين والإقليميين وكشّافيهم (اقرأ «مثقفيهم») المُتَلَبْرِلين النجاح في مهمّة النيل من المقاومة، وهي أثمن ما تملكه الأمة، وهي التي تنهض، شبه وحيدة، بما يفوق طاقتها وطاقة رجالها القابضين على جمر المستقبل.
إن مصلحتنا الوطنية والقومية المباشرة تفرض علينا، اليوم، أن نكون مع إيران. فالمعركة التي تخوضها إيران، بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن العرب، كل العرب، بمشاربهم وألوانهم وهوياتهم الأصلية والمكتسبة، تفرض علينا أن نكون في مستوى اللحظة، وأن نبادر، كشعوب وحركات اعتراض سياسي وشعبي، اليوم وقبل الغد، إلى إعلان الموقف التاريخي، وأن نبتدع المبادرات لتأكيد الوقوف مع أنفسنا أولاً ومن ثم مع الدولة التي فُرض عليها أن تخوض معركة حرية المنطقة وكرامتها واستمرار وجودها ضد واحدة من أعتى وأشرس الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ. إنها واحدة من الفرص التي قد لا تتكرر في التاريخ. بل إن هذه المعركة ستكون البداية التي يبنى عليها، استراتيجياً، للنهوض بالواقع العربي من تردّيه الذي استفحل بفعل الاستباحة الغربية المديدة. وهنا، تقع على اليسار العربي مسؤوليات جسام. فهم أول المطالبين بأن يرقوا في مواقفهم وتحليلاتهم ومبادراتهم إلى مستوى التحديات والمخاطر الكبرى التي لا تحتاج إلى من يشرحها، بل إنها تشرح نفسها بنفسها.
إنها لحظة الحقيقة. وإذا كان صحيحاً أن مشاركتنا في معركة استعادة فلسطين هي المدخل الذي لا مدخل غيره للخروج من الحفرة العميقة، فإن هذه المشاركة تصبح أصحّ وأدق وذات معنى صميمي بالوقوف مع إيران. والمعادلة التي تفرض نفسها اليوم تقول، وبوضوح لا لبس فيه، إنه لِنكون مع فلسطين علينا أن نكون مع إيران. وهي المعادلة الوحيدة التي لها أن تؤهلنا للحياة ولبعض معانيها العميقة.
إنها اللحظة التي يجب فيها علينا، لبنانيين وفلسطينيين وسوريين ويمنيين وعراقيين ومصريين وحتى... خليجيين، أن نكون إيرانيين، إن لم يكن أكثر من الإيرانيين أنفسهم. وبغير هذا السبيل المستند إلى قيم الثورة الحقيقية، وإلى قيم العدالة والحرية الإنسانية العابرة، فإننا ماضون نحو قاع ينتظرنا بلهفة. وعندها سنكون أمة فقدت جدارة الحياة وأسباب البقاء اللائق.
إنها اللحظة التي يجدر الاعتراف معها بحقيقة أن المقاومة (من جمال عبد الناصر وصولاً إلى حسن نصر الله) التي أعادت الاعتبار إلى قدرات الإنسان العربي ما كانت لتنتصر لولا الدعم والاحتضان الإيرانيين. وبهذا المعنى، يمكن المجازفة والقول إن المقاومة من دون الدعم الإيراني لن تكون هي نفسها التي غيّرت الكثير من معادلات الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، بل وفرضت على العدو التسليم بعجزه والتكيّف مع فكرة قرب اندحاره عن الخريطة.
وعليه، وإذا كان جائزاً القول، وربطاً بخريطة القوى والاستقطابات النافذة، إنه لا معنى للمقاومة من دون إيران، فإنه يجوز التخصيص والقول أيضاً إنه لا معنى لليساريين ولا للقوميين العرب ولا حتى للإسلام الواقعي إن هم حيّدوا أنفسهم عن الوقوف المعلن والصريح إلى جانب الدولة التي كان لعونها الكثير من الفضل في إبقاء قضايانا على جدول الاهتمام العالمي. ولولا هذا الدعم، لدخلت المنطقة الزمن الإسرائيلي الذي أكسبته اتفاقات الهوان العربي، وعلى رأسها كامب ديفيد، زخماً تأسيسياً نعيش مفاعيله السلبية المتناسلة.
إنها فرصة التاريخ وسؤاله. والأمر يتوقف على نوع الإجابة التي نحن في صددها، لأن المسألة اليوم، وباختصار شديد: نكون مع إيران أو لا نكون.