النظام الطائفي لا يمثل الشأن العام بل شؤون الطوائف ومصالحها الخاصة، ذلك أن مدلول «الشأن العام» هو نظام مؤسسات تنشئُه الدولة من أجل المصلحة العامة، أي مصلحة الشعب، لا «الخاصة» أي نخبة أو نُخب أرستقراطية أو عسكرية أو عرقية أو طائفية/دينية.يُنظر إلى الدولة اللبنانية وكأنها جمهورية تمتثل لدستورها، لكن واقع الحال منذ إنشاء لبنان عام 1920 غير ذلك تماماً، فالحكومة عندنا لا تمثل الشعب بل تمثل الطوائف، وبشكل أدق الطوائف الأكثر عدداً، وهي بذلك تستند إلى نمط سلطوي يعود إلى القرون الوسطى حين كانت السلطة حكراً على «الخاصة» لا «العامة»، فكان المؤرّخون والشعراء وكتّاب السير لا يأبهون إلا لتدوين سير «الخاصة» من خلفاء، وبعض ساسة الدولة، وقادة الجيش، وعلماء الدين، وقضاة الشرع؛ أما حياة العامة فلم يكن يُعرف عنها إلا لماماً، وتُعتبر غير جديرة بالاهتمام على أساس أن العامة لا تشكل قوة فاعلة في مجرى الأحداث.
بعد الثورة الفرنسية أصبحت «العامة»، أي الشعب، مصدر السلطات في الدولة الوطنية/القومية، و«الخاصة» ممثّلة لمشيئة العامة، ومهمتها تنفيذ برامج «العامة»، وفي حال تقاعسها يتم استبدالها عبر الانتخابات أو عبر القضاء.
لم يحصل هذا التطور في لبنان حيث تحكم «الخاصة» على طريقة «اللويا جيرغا» (Loya Jirga) القبلية، وتعتبر نفسها هي البداية والنهاية، وكل المؤسسات مجيرة لخدمتها، فلا مؤسسات عامة بل مؤسسات خاصة تابعة لهذا المرجع الطائفي أو ذاك، ولا تشذّ أيّ مؤسسة عن تلك القاعدة بما فيها المدارس والجيش والأجهزة الأمنية والوزارات.
فالنظام الطائفي تماماً كاللويا جيرغا يتخذ القرارات عبر التوافق (consensus)، أي أنه نظام لا ديمقراطي كان سائداً في المجتمعات القديمة التي لا دستور لها. فلبنان يسير بناء على الميثاقية والتوافق بين الطوائف كما تؤكد غالبية السياسيين.
والهدف الأساس لنظام اللويا جيرغا هو منع الاحتراب بين القبائل أو الطوائف، وبكلمات أخرى هذا نظام يسير دائماً على حافة الهاوية، أي أن المجتمع في حالة انقسام دائم، ما يتطلب تدخلاً متواصلاً لمنع الاشتباك، ما يؤدي إلى توقف عملية الإنتاج والعلم والمعرفة، لأن الحرب أو التهديد بالحرب يعني أن المجتمع لا يستطيع الحصول على الاستقرار وهو البند الأساس للبناء، فنحن عرضة لزلازل متواصلة ما يعني أن الجهود منصبة بالكامل لمجرد البقاء على قيد الحياة (survival). والنظام التوافقي يتعارض مع الأنظمة الديمقراطية لأنه يشترط إدخال الموالاة والمعارضة في الحكم! فأي طائفة لا تكون ضمن التكوين الحكومي ستعتبر أن الوفاق الوطني (اللويا جيرغا) غير مؤمنة، وبالتالي لا ميثاقية أو شرعية لقرارات الحكومة.
إذا، الشرعية ليست في الانتخابات، والمرجع ليس الشعب، بل رؤوساء الطوائف الذين يتحكمون برعاياهم الذين لا حول لهم ولا قوة لأن ليس بمقدورهم تغيير هذا النظام سلمياً: فلا وجود لاستفتاء حول الأمور المصيرية، أو آلية لتغيير القوانين يشارك فيها السكان كمواطنين، فالنظام الطائفي يمنع الاستفتاء لأنه يرفض أن يكون الشعب مصدر السلطات وصاحب القرار، وبالتالي يستحيل تغيير النظام من «خاص» إلى «عام» عبر الانتخابات. والنتيجة أن الحلول تمحورت، ولا تزال تتمحور حول تأليف «حكومات وحدة وطنية» لإبعاد شبح الحرب والمشادات العنفية، فيتم إدخال الجميع: الموافق وغير الموافق من الطوائف على البرنامج الحكومي، فلا وجود لسياسة وسياسة مضادة، وإنما طوائف تتعارك فيما بينها للاستحواذ على السلطة، لذلك لا يتقدم البلد أبداً بل يتراجع، كما هو حاصل خلال العقود الماضية.
نشاطات المؤسسات الحكومية ترمي إلى المحافظة على المكتسبات الخاصة لطائفة ما في مواجهة طوائف أخرى


وحين تحصل المشادات نجد أن الوسطاء هم رجال الدين من كل طائفة، ويتم تجاوز القوانين تحت عنوان منع الحرب الأهلية، فتسقط إمكانية المحاكمة والمحاسبة، لأنه في هذه الحالة تلجأ الطائفة المعنية إلى التهديد بالحرب الأهلية! وإن لاحت فرصة حلّ ما فتقوم حتماً على مبدأ 6 و 6 مكرر، أي إلزام جميع القبائل/الطوائف على تقبل المشاركة بالإثم. وليس لدينا دليل أسطع من أحداث البساتين وقبر شمون في قضاء عاليه («الأخبار» في 10 تموز 2019 «لا مجلس وزراء قبل أن يروق الجميع») ولقد اقترح العديد من السياسيين الصلحة العشائرية، وعدم اللجوء إلى القضاء بهدف الإبقاء على سلطة رؤساء الطوائف. حادثة قبر شمون، إن دلّت على شيء، فهو احتكار رؤساء الطوائف للحيّز الجغرافي الذي توجد فيه الطائفة/القبيلة، حيث المناطق تعتبر «خاصة» ولا يجوز دخولها من قبل رئيس طائفة أخرى إلا بعد طلب إذن من رئيس الطائفة، لذلك نجد أن رؤساء الطوائف يتقاسمون النفوذ في المساحات الجغرافية بناء على الوجود الديمغرافي لهذه الطائفة أو تلك (رلى ابراهيم، «فدرلة الأمن في بيروت: الحريري يرفض تسليم الجيش كاميرات المراقبة». «الأخبار»، 28 أيار 2019).
ومن عجائب النظام الطائفي تمييز الجنود بحسب انتماءاتهم الطائفية فلا تسمح الحكومة للشبان اللبنانيين بالانخراط في الجيش إلا بناء على كوتا محددة لكل طائفة مخافة أن تطغى أعداد طائفة ما على أخرى ضمن هذه المؤسسة التي يُفترض بها أن تدافع عن أرض الوطن، كل الوطن، لا عن الطوائف. يؤدي هذا الوضع إلى بناء جيش طائفي يشبه الميليشيات الخاصة التي يعود قرارها إلى رئيس الطائفة كما بدا جلياً إبان الحرب الأهلية في لبنان (1975-1989) لأن المرجعية ليست الشعب إنما توافقات اللويا جيرغا الطائفية. والغاية جعل الجيش والأمن العام منقسم الولاءات بحسب الطوائف وتمركزها الجغرافي.
أما رمي المشكلة بكلّيتها على أن الفساد هو الخلل المسبّب لانهيار الدولة فخطأ كبير، لأن الفساد هو النتيجة وليس السبب. السبب الأساس هو تركيبة هذا النظام. فالفساد ضمن منظومة «الشأن الخاص» مغاير تماماً لمنظومة «الشأن العام»، ذلك أن الشرعية في الشأن الخاص لا تعود للشعب بل لشخص ما: ملك، أمير، رئيس قبيلة أو طائفة، رجل دين..
الفساد ومحاكمة الفاسدين في نظام ملكي يعني التجرؤ على سرقة ممتلكات الملك، لأن الارض، وما فيها، ومن عليها، هي للملك، الذي بدوره يمثل ظل الله على الأرض. وللخلافة معنى مشابه، لأن العصيان على الحاكم أو الخليفة كان يعتبر عصياناً على الإرادة الإلهية. الفساد إذاً نسبي، أي أنه يرتكز في النظام الملكي على محاكمة أيّ فرد يعبث بممتلكات الملك، فهو الدولة. وكذلك الأمر في السلطنة العثمانية حيث السلطان يمتلك الحجر والبشر، والجميع طوع بنانه، وأي إخلال بالأمن يعني الإخلال بأمن السلطان وحاشيته لا غير، فهو القانون، وهو الشرعية، وهو الدولة. ولا يزال اعتبار الدولة «ملكاً خاصاً» لرؤساء الطوائف المتعددة سائداً في لبنان كما تبرهن الألقاب التي تُسبغ عليهم : «دولة» رئيس الجمهورية، و«دولة» رئيس الوزراء، و«دولة» رئيس مجلس النواب. ويتم التلفّظ بهذه الألقاب دون أي حياء أو خجل أو حتى إعادة نظر في الموضوع! أما الوزير فهو «معالي» والنائب «سعادة» في بلدنا الذي هو في الوقت الحاضر أقل من عشرة آلاف كيلومتر مربع، بينما الولايات المتحدة الأميركية التي هي من أضخم وأكبر وأقوى بلدان العالم، تعرّف وزيرها بأنه «سكرتير»، أي سكرتير الشعب!
الفساد في دولة ديمقراطية يعني سرقة مال الشعب من قِبل الحكام المسؤولين عن إدارة الدولة، فالشعب هو المالك الحقيقي، لا رئيس طائفة، أو حاكم، أو رجل دين. والاستنتاج الوحيد الممكن هو فساد التركيبة اللبنانية حيث لا إمكانية للإصلاح لأن كلّ مصلح سيُنظر إليه من وجهة نظر نسَبه الطائفي، وسيُفهم الأمر على أساس أن هدفه الحقيقي هو الحط من منزلة وقدر الطائفة الموازية.
أما نشاطات المؤسسات الحكومية فهي ترمي إلى المحافظة على المكتسبات الخاصة لطائفة ما في مواجهة طوائف أخرى من تهرب ضريبي، ومحميات أملاك بحرية ونهرية، ومرافئ، ومطار، ومعابر شرعية وغير شرعية حسب الطائفة التي تستفيد منها، كما الأبنية المستأجرة لصالح الحكومة، تقاسم الوظائف العامة، والتعيينات، المرافق العامة كالكهرباء والمياه والاتصالات، التوظيف العشوائي نتاج تنفيعات طائفية وعائلية وليس بسبب الحاجة ضمن مؤسسات الدولة، الكسارات، الآبار الارتوازية، المدارس الرسمية، والجامعة المسماة «وطنية»، التلزيمات بالتراضي بين الطوائف، رواتب الوزراء والنواب وعائلاتهم وذريتهم، دور المصارف الطائفية.
والمضحك في الأمر أن المثقفين يلومون السكان على أنهم ينتخبون ذات الأسماء التي برهنت عن فساد وعجز عن القيام بمسؤولياتها، وهذا قصر نظر فادح من جانب هؤلاء المثقفين، فالفساد والمراءاة والكذب ليست السبب بل النتيجة القسرية للأسباب البنيوية التي على أساسها تم تشييد دولة لبنان الكبير ألا وهو الوفاق الطائفي.
دراسة الأزمة البنيوية التي يمر بها لبنان وكأنها أزمة فساد ومفسدين، أي دراسة الأزمة على أساس أنها مشكلة أخلاقية هو اتجاه خاطئ ولا يقود إلى حلول لهذه الأزمة، لأن المشكلة هي في تركيبة النظام الذي ينتج هذه المظاهر لا العكس.
لا حل أمام الأحزاب والهيئات السياسية إلا بتفكيك وإعادة نظر جذرية في البنية السياسية-الاجتماعية في لبنان وتغييرها من تسلط وهيمنة «الخاصة»، إلى فرض إرادة الشعب، فيصبح هذا الأخير، أي «العامة»، مصدر السلطات.
* أستاذة جامعية