لدينا (أو لديكم في لبنان) «المركز الكاثوليكي للإعلام». لكن اسم المركز (الذي يجمع اسمه بين المدني والديني) متواضع للغاية. مهمّة المركز تتخطّى الإعلام كي تطال كلّ نواحي وجوانب الحياة العامّة والخاصّة. يمكن أن يكون اسم المركز، مثلاً: «المركز الكاثوليكي للحياة وجوانبها المتعدّدة» أو «المركز الكاثوليكي الشمولي» (ولو كنت أحبّذ كلمة دستوبيا الدارجة في الإعلام والأكاديميا هذه الأيّام، لأقحمتها في الاسم أيضاً). و«المركز الكاثوليكي للإعلام» يجب أن يصبح مزاراً ضروريّاً واجباً في نطاق السياحة الدينيّة (هل يقصد جبران باسيل «السياحة المذهبيّة» أم الـ«دينيّة» عموماً؟ يجب أن يوضح لأن جولاته لا توحي أنه يقصد السياحة الدينيّة عموماً). ويمكن للسيّاح الهابطين على مطار بيروت، ويمكن لـ«المنتشرين»، أن يقصدوا «المركز الكاثوليكي للإعلام» عند وصولهم إلى المدينة للتعرّف على وجه لبنان الحقيقي. ويمكن لعبدو أبو كسم أن يقدّم لهم وصلة فنيّة لكن ممهورة بموافقة المركز. وبات لـ«المركز» صولات وجولات كثيرة في الإعلام. والمركز يبحث في أمور كثيرة ويعطي آراء (سديدة طبعاً) في شؤون البلاد والعباد. وهو ينظّم ندوات (استضاف قبل أيام ندوة بعنوان «آداب التعامل في حياتنا اليوميّة») كما أنه رعى إصدار «الحرم الكبير» الذي أعلنه البطريرك الراعي (قبل أن يصبح بطريركاً) وهدّدَ فيه بهذا العقاب الخطير ضد كلّ من تسوّل له نفسه توجيه نقد للبطريرك الماروني. و«المركز» مناسب وملائم للقرون الوسطى أكثر مما هو ملائم لعصرنا الحالي، لكن ذلك لا يضير «المركز» لأن مهامه تتجدّد، إذ هو يمكن أن يعطي آراء فنيّة في الروك أو في بدائل الروك.
الغريب في موضوع «المركز الكاثوليكي» أنه لم يجرّ إلى إنشاء مراكز ملّية للإعلام لباقي الطوائف، وذلك من أجل إضفاء مزيد من المحبّة والإلفة بين ما باتَ يُسمَّى منذ غزو العراق بـ«المُكوِّنات»، وقد يكون هذا إسهاماً أميركياً لتمييز الطائفيّة التي فرضها على النظام الذي أنشأه في العراق عن طائفيّة لبنان. ولو تعدّدت المراكز الإعلاميّة للطوائف يمكن عندها المطالبة — من قبل باسيل قبل غيره — بإنشاء مراكز إعلاميّة بين المغتربين (جعلهم باسيل «منتشرين» للإيحاء أنهم ما تركوا بلادهم إلّا كي ينشروا الثقافة اللبنانيّة وديبلوماسيّة المطبخ اللبناني بين شعوب الأرض قاطبةً).
لكن الصفة الدينيّة للمركز الإعلامي تعطيها نفوذاً لا يجب أن يحظى به مركز مدني. أي أن المركز يتلطّى بالدين كي يضيف قمعاً ومراقبة وزجراً ونهراً اجتماعيّاً على القمع والمراقبة التي تفرضها الدولة بحجج وذرائع شتّى ضد مواطنيها (وقد ازدادت هذه المراقبة وهذا القمع في العهد الحالي حيث بات جهاز «أمن الدولة» مجرّد أداة بيد رئيس «التيّار الوطني الحرّ» كي يعاقب منتقديه)، والدولة من خلال جهاز «الأمن العام» تفرض رقابتها وقمعها وتصنيفها «الرسمي»، والذي على أساسه تعتبر الدولة أن تغريدة تضرّ بالأمن القومي، وتعتبر أيضاً أن إقامة مخرج لبناني وعمله في تل أبيب لا يخدش الأمن القومي لأن لا نيّة جرميّة للمُخرج.
لكن الطائفيّة والمنافسة بين أبطالها تفرض أيضاً حقناً متواصلاً للعصب الطائفي لتحقيق مكاسب شخصيّة وانتخابيّة. والعلّة لما يصيب لبنان حاليّاً من منافسات طائفيّة هي أن نتائج الانتخابات الأخيرة أظهرت تقارباً — يكاد يقترب من المناصفة في داخل الطائفة المارونيّة — بين «التيّار» وبين «القوّات اللبنانيّة». وحسم المنافسة يستعين بأدوات حزب الكتائب قبل الحرب الأهليّة. كانت الأهواء الشعبيّة في الطائفة المارونيّة تتوزّع على ثلاثة أحزاب كبرى في الستينيّات: «الأحرار» و«الكتائب» و«الكتلة الوطنيّة» (طبعاً، العلمانيّون والملاحدة في داخل كل طائفة لا حساب لهم في القانون أو الدستور في لبنان). وكان صبري حمادة يحذّر في أوائل السبعينيّات من أن الخطر على السلم الأهلي وعلى استقرار النظام يرجع إلى ثلاثة زعماء موارنة كبار يسيطرون على «الحلف الثلاثي» الذي يتوَّج — بدعم غربي أكيد — سيّداً على المسيحيّين في لبنان منذ انتخابات ١٩٦٨ حيث تم القضاء على هيمنة الشهابيّة. والرواية الخيالية التي اختلقها دعاة الانعزاليّة في لبنان اليوم عن الحرب اندلعت بسبب إصرار «مقاومة لبنانيّة» (وهو اسم حركي للمليشيات اليمينيّة الطائفيّة الإسرائيليّة الصنع والتمويل والتسليح) على منع التوطين — كأن الشعب الفلسطيني يرضى بديلاً عن وطنه — تتناقض مع مسار الحرب الأهليّة. في بداية الحرب الأهليّة كان ريمون إدّة يكرّر أن الحرب هي نتيجة المنافسة بين زعماء الموارنة على رئاسة الجمهوريّة. وكان البطريرك خريش موافقاً على هذا التفسير للحرب وحاول أن يجمع قادة الموارنة في بكركي كي يتوصّل إلى اتفاق بينهم لكن من دون جدوى.
هذه الضجّة يجب أن تفتح ملف تدخّل رجال الدين ــ من كل الطوائف ــ في مسائل الفن والموسيقى


اليوم يسعى جبران باسيل لمحاكاة مسيرة بيار الجميّل في الستينيّات عندما تحوّل من رئيس حزب يميني بين أحزاب أخرى إلى زعيم أكبر حزب لبناني والزعيم الأوّل عند المسيحيّين. مسيرة صعود الجميّل كانت متعدّدة المسالك: ١) المزايدة على منافسيه في مسألة الدفاع عن الامتيازات الطائفيّة المارونيّة ومقاومة مشاركة المسلمين في الحكم. ٢) معارضة اليسار اللبناني للحصول على تأييد ورعاية غربيّة في حروبه الداخليّة (وكان له ما أراد في هذا الصدد). ٣) تسليح شامل لأعضاء الحزب للدفاع عن الدولة الطائفيّة بوجه دعاة إصلاحها، ولخوض حروب بالنيابة عن التحالف الإسرائيلي - الأميركي بوجه المقاومة الفلسطينيّة. باسيل يخوض اليوم معركة منافسة القوّات في الخطاب الانعزالي الطائفي إلى درجة أنه لم يتورّع عن الزهو بمعارك طائفيّة خاضتها القوّات في الجبل وغيرها (طبعاً، غير صحيح أن «التيّار» لم يخض الحرب الأهليّة لأن ميشال عون شارك بقوّة تحت قيادة بشير الجميّل في فصول متعدّدة من الحرب الأهليّة).
لكن مسيرة بيار الجميّل لم تؤّدِ فقط إلى إشعال الحرب الأهليّة بل أدّت أيضاً إلى إشعال حروب لم تنتهِ بين «الكتائب» و«الأحرار» وبين «الكتائب» و«المردة»، وبين «القوّات» والجيش، وضدّ كل من يعارض السيادة المطلقة لـ«الكتائب» (ثم «القوّات») في مناطق بيروت الشرقيّة في زمن الحرب. باسيل، للأمانة، لا يريد إشعال معارك مسلّحة، والقوّة العسكريّة المتواضعة لطرفيْ المنافسة الطائفيّة المسيحيّة لا يمكن إلا أن تشعل حرباً محدودة في المناطق التي كانت تحت سلطة الجميّل في زمن الحرب. والظن أن أيّاً من الفريقيْن يمكن أن يجذب إليه طرفاً سنيّاً أو شيعيّاً هو أضغاث أحلام، لأن المعركة لا تعنيهما بل هي تستفزّ ما اتُّفق عليه في الطائف نتيجة هزيمة عسكريّة للفريق الانعزالي منذ ١٩٨٤ (وقضى ذلك على حلم استعادة هيمنة زعماء الموارنة على الجمهوريّة اللبنانيّة)، وهي أيضاً نتيجة تغييرات ديموغرافيّة هائلة لصالح المسيحيّين (كانت ردود الفعل في صف الانعزاليّين من صفحات «الشرق الأوسط» إلى غيرها أن أرقام إحصاء «الدوليّة للمعلومات» عن التوزيع الطائفي للسكّان هي «مشبوهة») والويل لطرفيْ النزاع بين المسيحيّين عندما تتفق أحزاب وحركات السنّة والشيعة لأن الاتفاق سيأتي على حسابهم، وعلى حساب المدنيّين على الأرجح.
هذه المقدّمة لا بدَّ منها لأن الجنون الديني المحموم الذي أصاب الشارع والكنيسة على حدّ سواء ضد «مشروع ليلى» لم يأتِ من فراغ، وإنما أتى نتيجة إفراط مقصود في التعبئة الدينيّة والطائفيّة في المناطق التي يتنافس فيها «القوّات» و«التيّار». هناك ظاهرة تجييش ديني وطائفي في المناطق المسيحيّة في لبنان، وهذه الظاهرة لم تزدها نتائج الانتخابات النيابيّة إلا استعاراً. المغزى من رفض ٧٤٪ من موارنة الحدث («الدوليّة للمعلومات»، مرّة أخرى) لبيع أو تأجير أراض للمسلمين هو نتيجة ما أصاب قطاعاً كبيراً من المسيحيّين من ضخ إعلامي وسياسي تقسيمي وعنصري. كل شعارات اللامركزيّة في بلد أصغر من نصف ولاية كاليفورنيا ليس إلّا اسماً كوديّاً للتقسيم. إن الفيدراليّات واللامركزيّات تكون في بلاد إما شاسعة أو هي شديدة التنوّع الإثني أو اللغوي أو العرقي. في لبنان، يستعيض الفريق الانعزالي عن حقيقة الوحدة في الخلفيّة واللغة والثقافة باختلاق فروقات غير علميّة في اللغة (إن بعضهم ينطق بـ«اللغا اللبنانيّي») أو في «الحضارة» (إذ بعضهم كما قالت عنهم «نيويورك تايمز» يظنّون أنهم أوروبيّون تائهون في الشرق العربي).
ولا يجب أن نفصل المبالغة في الأحاديث الدينيّة والأعاجيب عن الجو الديني والطائفي المحموم. إن هذا الترويج لقدرات القدّيس شربل يضرّ بالصحة العامّة ويعزّز ثقافة معاكسة لمتطلّبات الطب الحديث. وهذا الترويج للفكر المُضاد للعلم يعزّز أوهاماً وأحزاناً عند البائسين والمعذّبين. إن الفقراء ينذرون ما لديهم من مال أملاً في نيل معجزات من القدّيس شربل، فيما يهمل بعضهم الطب الحديث (وهذه الظاهرة موجودة في أميركا أيضاً). وبلغ عدد معجزات شربل - حسب موقع لـ«القوّات اللبنانيّة» - ٢٨ ألف معجزة. وتقول ريتا ضوميط في «الجمهوريّة» إن معجزاته تتوالى يوميّاً (بعدد ٧٢ معجزة في شهر واحد). وهناك إيمان غيبي عجائبي غير علمي عند المسلمين أيضاً إلا أن المبالغة العجائبيّة بلغت ذروتها في الثقافة الدينيّة السائدة عند المسيحيّين مؤخراً (وهناك بعض المسلمين في بيروت ممن يقصدون مزار القدّيس شربل لنيل معجزة شفائيّة) - وكل وسائل الإعلام الطائفيّة المسيحيّة تسوّق لفكر المعجزات هذا. وجبران باسيل بات يتحدّث عن سياحة دينيّة وهو حتماً لا يعني سياحة دينيّة عند مزارات كل الأديان. هل يقصد هو مثلاً سياحة دينيّة لمواقع إسلاميّة؟ الأهم، إن معظم المعالم السياحيّة اللبنانيّة هي مواقع وثنيّة. هل يقصدها هي أيضاً بين الأديان؟ حتماً لا، خصوصاً أن المدن التاريخيّة العريقة التي تشهد مهرجانات سياحيّة ازدهرت قبل وصول الإسلام والمسيحيّة إليها. (ويتحدّث باسيل أيضاً عن «ديبلوماسيّة غذائيّة»، وهو يعني فيها دفع صحن حمّص أو فول بوجه كل زائر أجنبي رسمي).
من السهل تقريع عبدو أبو كسم، ومن السهل التعريض بالمهمّة التي يقوم بها بالنيابة عن ظلاميّة القرون الوسطى. لكن لم يعد عبدو أبو كسم هو المشكلة: هناك قاعدة متعصّبة باتت تعبّر عن تطرّف أكثر رجعيّة وتزمّتاً من الكنيسة أو السلطات الدينيّة. ناشط معروف على مواقع التواصل هدّد باغتصاب جماعي لأعضاء فرقة «مشروع ليلى» (ألا يعبّر هذا التهديد عن مكنونات تعاكس ما أراد الناشط أن يعبّر عنه؟) ومنظمّة «المدافعون عن المسيح والصليب» هدّدوا بـ«ثورة مسيحيّة». وعبّر عدد من النشطاء والقساوسة عن نظريّات مألوفة لمن قرأ الأدبيّات النازيّة. أصرّ معارضو الفرقة على ربطهم بمؤامرة صهيونيّة (أو يهوديّة بلغة هؤلاء) ماسونيّة شيطانيّة. وكمّ الكراهية ضد المثليّين أظهرت أن صورة لبنان المنفتح والمتسامح ليست إلا قشرة للسياحة غير الدينيّة. ما تردّد في الأسابيع الأخيرة من قِبل رجال دين وعامّة ضد «مشروع ليلى» لا يختلف عما جاء في كتاب هتلر، «كفاحي»، والذي ربط فيه بين مؤامرات الماسونيّة واليهوديّة.
لكن الكنيسة مسؤولة عن التكفير وعن ربط المرفوض بالشيطان نفسه: وهذه كانت اللغة التي سادت من قبل معارضي الفرقة على مواقع التواصل. وذمّ المثليّين هو هوس كنسي يميني غربي ينتقل إلى بلادنا. لكن وصف الكنيسة ـ «الدعشنة» يخفي جهلاً (إسلاموفوبي) بتاريخ القمع والتحريم والحروب من قِبل الكنيسة: لا تحتاج الكنيسة إلى استعارة دروس من دين آخر في هذا الصدد. لكن الكنيسة بالرغم من تراثها القمعي تحافظ على لهجة استعلائيّة في التعاطي مع أديان أخرى، خصوصاً الإسلام. والتهويل بخطر الشيطان تقليد قديم في الكنيسة وقد راج في لبنان للتحريض ضد البروتستانت، وضد شهود يهوه وضد مَن تصوّرهم الكنسية كـ«عبدة الشيطان». خصّص مارسيل غانم قبل سنوات حلقة كاملة مع إلياس المرّ (ماذا حلّ بوعده في الانتخابات الماضية بفتح فرع للإنتربول في بتغرين؟) للحديث عن خطر الشيطان (وهذا التهويل بخطر الشيطان هو الخطر بعينه خصوصاً على عقول الأطفال). وحتى في مهرجان «الأرز» الأخير (برعاية «القوّات»): كان هناك مَن رصدَ رسماً شيطانيّاً على المسرح.
إن حالة التهييج الديني والطائفي التي يتبعها «التيّار» و«القوات» في الوسط المسيحي ستؤدّي إلى توتّر وربما إلى عنف. وبيان لجنة مهرجانات بيبلوس تحدّثت عن خوفها من «إراقة دماء». لكن هذه الإشارة كانت عابرة ولم تؤدِّ إلى تدخّل الدولة لمعرفة من استسهل التهديد بالدماء. ولماذا لم يتحرّك جهاز «أمن الدولة» الذي تحرّكه عادة تغريدات، أو «المعلومات» الذي تحرّكه تصريحات. وإذا كان هناك تهديد بإراقة دماء، فلماذا تُعاقب فرقة «مشروع ليلى» وهي التي لم ترتكب جرماً؟
ليس الموضوع هنا عن تقييم أعمال «مشروع ليلى». وأنا لستُ من المعجبين بالفرقة (لا بالموسيقى ولا بالكلام ولا بطريقة تسويق الفرقة لنفسها أو لتسويق الغرب لها). لكن لستُ معجباً بمحمد إسكندر وأغانيه المزعجة، لكن لم يحدث تهديد بإراقة دماء من أجل منعه ولم تتحرّك السلطات الدينيّة ضدّه. هناك أشكال وألوان من الفنّ، والكثير منها أكثر خطراً على الأسماع والعقول من «مشروع ليلى».

حالة التهييج الديني والطائفي التي يتبعها «التيّار» و«القوات» في الوسط المسيحي ستؤدّي إلى توتّر وربما إلى عنف


الطريف أن السلطات الدينيّة المسلمة بقيت صامتة أمام تحرّك السلطات الدينيّة المسيحيّة من أجل القمع والحظر. عادة، عندما تتحرّك السلطات الدينيّة الإسلاميّة من أجل القمع والحظر، تقوم السلطات الدينيّة المسيحيّة بإصدار مواعظ أخلاقيّة عن تقبّل الرأي الآخر وعن التسامح (كما حدث في اضطرابات تلت إهانات للرسول والإسلام في الغرب). والطريف كان موقف بعض طائفيّي السلطة والناشطين على مواقع التواصل الذين انضمّوا إلى جوقة «جو سوي» تضامناً مع مطبوعة فرنسيّة مقيتة تخصّصت بتحقير أضعف مجموعة دينيّة في فرنسا. جبران باسيل نفسه انضمَّ إلى مظاهرة «جو سوي» في باريس في ٢٠١٥. لكن هذا النفاق يسري على الساسة المسلمين أيضاً. يسهل على المسيحي أن يطالب بحريّة التعبير عندما تكون الإهانة موجّهة لدين آخر، كما أنه يسهل على المسلم المطالبة بحريّة التعبير عندما تكون الإهانة موجّهة لدين آخر. وحتى الملاحدة العرب: بعضهم يعتنق نسقاً صهيونيّاً من الإلحاد مُستقى من كتابات كارهين للإسلام من طراز سام هارس وكريستوفر هيتشنز أو ريتشارد دوكنز. وعند هؤلاء، يصبح الإسلام وحده — أو أكثر من غيره من الأديان —منافياً للعقل.
لـ«مشروع ليلى» قاعدة كبيرة بين صحافيّي وأكاديميّي الغرب، وهذه ملاحظة وليست إهانة بالضرورة. وقد اعترض عدد من صحافيّي وأكاديميّ الغرب عندما قلتُ ذلك على «تويتر». قال زياد الرحباني إن موسيقى ربيع أبو خليل (لا قرابة بيننا) هي ذات نفس استشراقي. غناء «مشروع ليلى» ومواضيعه هي ما يتصوّره الغرب عن أجواء العرب، أو ما يريده من موسيقى العرب. الذوق الغربي يستحسن موسيقى بعيدة عن الموسيقى العربيّة، أو تلك التي تذكّره بأجواء ترجمات فرنسيّة أو إنكليزيّة لما يسمّيه بـ«لليالي العربيّة». لكن هذا حق «مشروع ليلى»، أن تطلع بتصوّر خاص لها بالموسيقى والغناء. ثم إن نوع الغناء السائد لبنانيّاً، مثل هؤلاء الذين يرافقون عازفي الطبلة ونافخي المزمار في الأعراس ليس بالضرورة بديلاً أفضل من «مشروع ليلى».
وهناك من اعترض على قولي إن «مشروع ليلى» يحظى بشعبيّة محليّة وأن حفلاته تجذب حشوداً في هذه المدينة أو تلك. لكن مَن قال إن الذائقة الشبابيّة العربيّة بين الميسورين من طلاّب الجامعات في المدن لا تتأثّر بالذائقة الغربيّة؟ إن الاستحسان الغربي لمظاهر ثقافيّة محليّة في العالم الثالث لا بدَّ أن تزيد من شعبيّة المُنتَج. لم يكن نجيب محفوظ على هذه الشعبيّة والشهرة في العالم العربي قبل أن يُقرّر الغرب (بناء على مطالعات واسعة في الأدب العربي بالعربيّة؟) أنّ نجيب محفوظ (المُحب للسلام مع إسرائيل) هو أفضل أديب عربي. وتعظيم شأن محفوظ انعكس تلقائيّاً على الذائقة الشعبيّة العربيّة حتى أنك لا تسمع اليوم بأدباء أعظم منه موهبة وقدرة، من أمثال العقّاد أو طه حسين أو توفيق الحكيم أو ميخائيل نعيمة أو أمين الريحاني. (لا أقارن بين «مشروع ليلى» وبين نجيب محفوظ من ناحية السلام مع العدوّ. وللفرقة أغنية — أو أكثر — ضد الاحتلال الإسرائيلي لكن ليس على علمي أن للفرقة اللبنانيّة موقفاً من مقاومة احتلال إسرائيل للبنان)، والسفير البريطاني والسفيرة الكنديّة في لبنان غرّدا أسفاً على منع حفلة الفرقة، وهذا غير وارد لو أن المنع طالَ، مثلاً، زياد الرحباني أو جوليا بطرس أو خالد الهبر. هل غرّد سفراء الغرب دفاعاً عن الشاعر مصطفى سبيتي الذي زُجَّ به في السجن بسبب تعليق على فايسبوك؟
والفرقة — وهذا حقّها — تلتزم بمعايير نخبويّة بورجوازيّة في الترويج لنفسها وفي الاعتداد الذاتي. هي أصدرت بياناً عند بدء الحملة ضدّها فاخرت فيه أنها أقامت حفلات في «أبرز جامعات العالم» وقالت إن أفرادها درسوا الهندسة في الجامعة الأميركيّة في بيروت وأضافت أنها تنوي «الارتقاء بالفن». وفي البيان الذي أصدرته في يوم إلغاء الحفلة قالت الفرقة «حتى وصلنا إلى العالميّة». لكن الاستعانة برصيد الغرب للدفاع المُحقّ عن حريّة الغناء يشير إلى معايير طبقيّة، وإلى مخاطبة العرب بلغة إبهار الغرب ونيل إعجابه — وإن لم يكن ذلك هدفاً واعياً للفرقة.
حظي «مشروع ليلى» ببعض التضامن على وسائل التواصل لكن تظاهرة التضامن في وسط بيروت لم تستقطب أكثر من دزيّنة أو اثنتيْن. والنفاق سادَ بين بعض الإعلاميّين والإعلاميّات: ديما صادق ناصرت حريّة التعبير بالنسبة للفرقة، وهي دعت قبل أسابيع فقط لاعتقال زميلة لها في المهنة لأنها نشرت مقابلة غير معدّة للنشر مع ممثّل لبناني. نيكول حجل ناصرت حريّة التعبير بالنسبة للفرقة، وهي التي أعدّت تقريراً على محطة «إل.بي.سي» دعت فيه الحكومة لاعتقالي بسبب تغريدة في دعم سلاح المقاومة وفي نقد الجيش بسبب لقاءاته المستمرّة مع ضبّاط للعدوّ. وجويس كرم (في موقع تلفزيون البروباغندا الأميركيّة الرسميّة، «الحرّة») ناصرت الفرقة لكنها انتقدت الدولة «التي لم تحرك ساكناً أمام مغنّين أجانب جاؤوا نصف عراة قدّموا عروضاً في بييلوس»، والإعلامي ماريو عبود هدّد وذكّر بالعقوبات التي تطال المجدّفين.
هذه الضجّة يجب أن تفتح ملف تدخّل رجال الدين — من كل الطوائف— في مسائل الفن والموسيقى. ما علاقتهم بالفن والكثير منهم يحرّمه أو يبيح ما يريد منه. إذا أراد رجال الدين من كل الطوائف أن نأخذ بآرائهم وأذواقهم في الفن، فلماذا لا يقيمون مهرجاناً موسيقيّاً راقصاً كي نحكم فيه على مواهبهم الفنيّة، طالما أصبحوا من أنشط الناقدين الفنيّين. ويمكن لهم أن يشبكوا الأيدي ويخبطوا في الأرض على طريقة الدبكة العكّاريّة في تجلٍّ للوحدة الوطنيّة الفولكلويّة عندما يتعانق الهلال والصليب. عندها، وعندها فقط، سنعتبر أن لديهم الحق في نقد الفنّ.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)