أسوأ ما فعله النظام هنا بالإضافة إلى تجريف البيئات المفقرة هو «النيل من الطبقة الوسطى وطقوسها». قبل استعار الحرب كانت مراعاتها ضرورية، نظراً إلى ما يمثّله وجودها من شرعية للسلطة. أما الآن، فقد تغيّرت المعادلة جذرياً، وبات نتاجها - أي الطبقة الوسطى - يفيض عن قدرة اقتصاد الحرب ومافياتها على التحمّل. فهي معرقلة لعملية النهب التي تغذّي الحرب، كذلك فإنّها صعبة المراس وعصيّة على الاختراق الذي تهواه وتمارسه بحرفية مافيات النظام والمعارضة. وهذان سببان كافيان لتهميشها، إن لم نقل أيضاً لإخراجها من المشهد كلياً.
بالأساس بنيتها الطبقية لا تحتمل أفعالاً مماثلة، ومع التغيّرات التي عصفت بالمجتمع بعد الحرب أصبحت تقريباً الطبقة الوحيدة المتماسكة والقائمة في البلد، فلا الأغنياء بقوا كما هم، ولا الفقراء كذلك. لم تعد هنالك طبقات بالمعنى الفعلي في سوريا، ولذلك بدا الصراع عبثياً منذ البداية. وقد تكلّمنا على ذلك طويلاً، ودعينا اليسار خصوصاً إلى التدقيق في جدوى اصطفافه إلى جانب فقراء ضدّ فقراء آخرين. صحيح أنّ النظام لم يحطّم الطبقات الثرية المتحالفة معه أو العازفة عن إسقاطه واكتفى بتجريف بيئة الفقراء في المدن والأرياف، إلا أنّ قوام مقاتليه الذين تطوّعوا للدفاع عنه ولم يتجندوا إجبارياً فحسب كان في مجمله فقيراً، وهذا لا يصبّ في مصلحة النظرية التي تقول إنه كان أداة في يد الأغنياء. هؤلاء استفادوا من الحرب فعلاً، ولم يعودوا مجرّد أغنياء، بل باتوا أيضاً فاحشي الثراء، لكنهم لم يحكموا البلد بعد، ولو فعلوا لانتفض الناس ضدّهم قبل انتفاضهم ضدّ آل الأسد. طبعاً، لا يعبأ كثيرون بهذه الحقيقة ولا يبنون تصوّراتهم في ضوئها، ولهذا السبب يعجزون حتى الآن عن إدراك ما يحدث في الواقع السوري من تغيّرات، فبالنسبة إليهم لا يتطوّر الصراع وفق منظور طبقي، وفي المرّات القليلة التي يحدث فيها ذلك لا يكون مباشراً تماماً، أي إنّ التطوّر يحدث بمعيّة عوامل أخرى أهمّ وأكثر «مادية» من الطبقة: الطائفة، النّسب، الغنيمة، العشيرة... إلخ. المهمّ ألا يتدخّل العامل الطبقي في تأويلنا للأحداث ومجرياتها، وألا يكون للطبقات دور يذكر في صياغة وعينا للصراع ومحدداته، وغالباً ما كانت الأحداث ــ بتأثير مباشر من أعداء اليسار ــ تؤوّل على هذا النحو، على الرغم من معاندة الواقع لكلّ هذه الترهات. ثمّة أمثلة كثيرة على هذا التعسّف والخلط المتعمّد بين الشيء وعكسه، وسأكتفي بأحدها فقط، لكن قبل ذلك علينا التذكير بفقدان هذه الخلطة لجاذبيتها واصطدامها برسوخ الطبقة الوسطى في المدن وبعض الأرياف وعدم قابليتها للكسر. فبحكم تكوينها المركّب والصلب ووقوفها في أحيان كثيرة ضدّ السلطة والمعارضة معاً، أثبتت هذه الطبقة أنها الأقدر على التعامل مع المسألة السورية وفهم تعقيداتها. ورغم كونها السبّاقة تقريباً إلى قيادة الفعل الاحتجاجي الجذري ضدّ السلطة، إلا أنها أدركت مع الوقت وتطوّر الصراع أنّ الاحتجاج متغيّر بدوره، وخصوصاً حين لا يعود واضحاً إلى من يتوجّه وضدّ أيّ طبقة أو سلطة طبقية بالتحديد. والمثال الأبرز على هذا التغيّر والانزياح الذي أصاب الاحتجاج هو إعادة أولاد الأغنياء إلى بيوتهم سالمين بعد خطفهم وافتدائهم مالياً؛ إذ إنّه من الأساليب التي لجأ إليها المحتجّون لاحقاً بعدما تعذّر عليهم التأثير في البيئة الاجتماعية الموالية بالطرق السلمية. للمسألة هنا شقّان: الأول شكلي يتعلّق بانزلاق الاعتراض إلى قعر لا يعود يمثّل فيه شيئاً يذكر، فهو عبر ممارسته العنف ضدّ المجتمع وتحوّله إلى سلطة شبيهة بسلطة النظام فقد شرعيته الأخلاقية والثورية معاً، وسوّغ للسلطة المافيوية المجرمة القيام بما يلزم «لحماية مجتمعها من العصابات التي تخطف وتنهب»! والثاني جوهري ويتّصل بالامتثال غير المحدود لرأس المال ومداراة الطبقات التي تدفع أكثر. ففيما يخلى سبيل الأغنياء لأنّهم يملكون ويقدرون على الدفع، يترك الفقراء لمصيرهم، ويضحّى بهم على مذبح «الثورة» التي اتضح أنّ الفساد قد تمكّن منها «منذ البداية». الجميع عايش هذه المرحلة، وتواطأ على إمرارها، فالثورة - في حالتنا تحديداً - تيار جارف يتعذّر الوقوف في وجهه حين يتمادى، تماماً كما تستحيل مجاراته في كلّ ما يفعله، وما فعله بالفقراء والمنتمين إلى الطبقة الوسطى كان صعب الابتلاع على كثر من المعارضين المنتمين إلى هذه الطبقة. ولذا اختارت «أغلبية واضحة» من هؤلاء أن تكون نقديتها شاملة، بحيث تجنّب المجتمع خطر الانقسام على أساس آخر غير الأساس الطبقي الذي «يحفظ وحدته»، ويصعّد الصراع داخله باتجاه مواجهة فعلية لا صوريّة. والمقصود بالمواجهة هنا الصراع ضدّ السلطة والمعارضة الفاشيتين ومن ورائهما حلفاؤهما الإقليميون اللصوص والأغنياء (السعودية، قطر، تركيا، روسيا، إيران، الإمبرياليات الغربية جميعها وعلى رأسها أميركا... إلخ). الموقف من الطرفين هنا أخذ بالاعتبار تحوّلات الواقع وديناميته المتصاعدة، ولم يكتف بالمقاربة الأخلاقية وحدها (على أهميتها في صياغة مواقفنا وقناعاتنا)، فالواقع كما عرفناه قبل «الثورة» كان محكوماً بطرف واحد ينهب ويعتقل ويصادر الاحتمالات جميعها، وبقي كذلك بعد اندلاع الاحتجاجات بأشهر، ولم يتغيّر إلا عندما بدأ الطرف الآخر الذي أفرزته الحالة الاعتراضية بالتصرّف كسلطة يحقّ لها أن تفعل ما تشاء بمن «تحرّره». في الحالتين، كانت الطبقة الوسطى في موقع الضحية، فقد جرّفها النظام بداية وحاول تحطيمها بشتّى السبل، ولمّا أتت «الثورة» لتزيل النظام الذي عاداها فوجئت بأنّها مستهدفة أيضاً، وعلى وشك أن تدخل في طور جديد ومختلف من التحطيم والتجريف. كان لا بدّ لها والحال كذلك أن تتصرّف في ضوء المصلحة التي يمليها الواقع، والمصلحة هنا تمثّلت بالدفاع عن الوجود ضدّ «الثورة» والنظام معاً، فكلاهما معنيان بتحطيمها وبجرّ المجتمع إلى صراع لا يكون فيه للطبقات دور يذكر، وبما أنّ الطبقتين الأخريين (الأغنياء والفقراء) قد استوعبتا فالدور إذاً سيأتي عليها، إن لم يكن مباشرة، عبر توريطها في الصراع وجعلها جزءاً من الانقسام الذي أحدثته الحرب وآلتها العسكرية المدمّرة.
اليوم، مع استعار الحرب «وإتيانها على كلّ شيء في سوريا» تقريباً، تآكلت مداخيل هذه الطبقة وتراجعت مدخراتها إلى حدود كبيرة، وبالتالي أصبحت استقلاليتها المادية على المحكّ وباتت مقاومتها لابتزاز أطراف الحرب في النظام والمعارضة أضعف ممّا كانت عليه، وهو بالتحديد ما يعوّل عليه الطرفان لجهة مساومتها على وضعها الاقتصادي وإجبارها على تقديم تنازلات لم تكن لتقدم عليها سابقاً. ثمّة فقراء أجبروا على فعل ذلك إمّا بالقتال وتسخير قوّة عملهم في المجال الحربي، أو بالتهجير والإخراج القسري من الدورة الاقتصادية للسوق. وثمّة أغنياء أيضاً انخرطوا في الدورة الجهنمية نفسها، سواء لجهة دعم النظام ومافياته، أو لناحية تمويل المعارضة وميليشياتها. والتحدّي الفعلي الآن هو تعطيل دورة الحرب الاقتصادية، بحيث لا يصبح المجتمع بأكمله تحت رحمتها. وهذا بالضبط هو دور الطبقة الوسطى التي يتعيّن عليها إيجاد بدائل تساعدها على توفير دخول غير تلك التي يوفّرها النظام والمعارضة معاً. غير أنّ الأمر معقّد بعض الشيء، وليس بالسهولة التي نعتقدها، لا بل يبدو متناقضاً أحياناً مع ما نقول. فالدولة هنا تحتكر مجمل الخدمات العامة وتتوافر لديها موارد ضخمة سواء عبر الميزانية السنوية (وقد تضاءلت أرقامها كثيراً في الآونة الأخيرة)، أو من خلال التمويل الخارجي للحرب. وعادة - وهنا التناقض بعينه - ما يستفيد المجتمع بطبقاته المهمّشة والأكثر ضعفاً ممّا يفيض عنهما؛ إذ إنّ أجهزة الدولة لا تزال قادرة رغم كلّ التبذير العسكري الجاري على دفع رواتب الموظفين أوّلاً بأوّل، وهؤلاء كما نعلم هم العمود الفقري للطبقة الوسطى، وهذا يجعلهم مستفيدين من بقاء «الدولة» «بشكلها الحالي»، وبالتالي أيّ مساس بها وبمواردها سينعكس مباشرة على نمط حياتهم الذي بقي قائماً فقط لأنّ «الدولة» لم تسقط. بالمناسبة، استفادة البعض (وهؤلاء أصبحوا «أكثرية» داخل المجتمع) من بقاء «الدولة» ليست جريمة، وهي بالإضافة إلى ذلك لا تتناقض مع وجود آخرين من نفس الطبقة يملكون اجتهادات مختلفة، إذ ثمّة كوادر مهنية وعمّالية ونخبوية من المنتمين إلى الطبقة الوسطى لا تزال تأمل تفكيك السلطة المافيوية، لكنها باتت تميّز الآن أكثر من ذي قبل بين الدولة والسلطة، فتطالب بالإبقاء على أجهزة الدولة ومؤسّساتها بعد الانتهاء من السلطة المجرمة الحالية، وهذا في الحقيقة تحدٍّ آخر أمام الطبقة الوسطى لا يقلّ أهمية عن التحدي الأساسي المتعلق بالتفلّت من ابتزاز أجهزة النظام الأمنية والعسكرية. والحال أنّ التحدّيين يطرحان عليها سؤالاً اقتصادياً «بسيطاً»:
كيف نعيد توزيع الفائض المالي الناجم عن دورة الحرب، بحيث يستفيد منه الفقراء والمهمّشون والطبقة الوسطى أكثر، وكيف نقف في الوقت ذاته ضدّ تسخير السلطة الفقراء والمهمّشين في حربها على فقراء ومهمّشي المعارضة؟ مرّة أخرى ليست السلطة هنا أداة بيد الأغنياء، ولو كانت كذلك لما اصطدمنا بكلّ هذا التعقيد في فهمنا للمسألة السورية، فاستخدام السلطة للفقراء صحيح بمقدار صحّة انتماء فقراء الموالين إليها عضوياً! لن تحلّ هذه الإشكالية قريباً، فهي معضلة بالفعل، ولكن ما يترك للمرء حيّزاً للاشتغال ـ ولو بصعوبة بالغة ـ أنّها ليست معضلة طائفية، الأمر الذي يحفظ لأمثالنا حقّهم في الاعتراض على كلّ تناول للمسألة من خارج المعطى الفعلي. وهو بالمناسبة معطى طبقي، ومن لا يعجبه ذلك فليشرب من البحر كما يقال. بهذا المعنى يصبح سؤال التوزيع المطروح على الطبقة الوسطى هو الأساس، فالغاية من التغيير الجذري (إسقاط الديكتاتورية بحسب أدبيات هيئة التنسيق، وفي رأيي أنّه أشمل بكثير من الكلام عن آل الأسد، رغم ضرورة الكلام عنهم دائماً) هي الإمساك بالثروة وتوزيعها على الفقراء والمهمّشين كما يجب، وحين تستحيل هذه الغاية نظراً إلى امتثال المعارضة المهيمنة لسلطة رأس المال يصبح الحفاظ على «الوضع القائم» أمراً فيه نظر. «الوضع القائم» بمعنى الستاتيكو الذي يسمح بوصول فوائض الحرب إلى الجميع، مع الاحتفاظ بحقّ تغييره عندما تقرّر السلطة المافيوية معاقبة الطبقة الوسطى وحرمانها نهائياً عوائدَ عملها. لذلك نقول عن هذه الطبقة إنّها رمّانة الميزان، وإليها فقط يجب توجيه الأسئلة؛ فهي من يملك الجواب على معضلاتنا المطروحة، بما في ذلك معضلة أو جدلية التوزيع والحرب: ماذا سيحلّ بالكتلة البشرية الهائلة التي تستفيد من فوائض الحرب حال إيقافها، ولماذا تقف أصلاً إذا كانت المعارضة التي ستحلّ محلّ النظام في امتلاك الثروة وتوزيعها «أسوأ منه» ومن مافياته القائمة؟
* كاتب سوري