يشعر كثيرون من ناشطي الوسط الوطني التغييري بمرارة وإحباط شديدين. مصدر الإحباط والمرارة ثلاثي الأسباب على الأقل. أول تلك الأسباب، هو أن السلطة اللبنانية قد نجحت في خداع الناس مرة جديدة، فأقرّت موازنة أصابت بنودها، أكثر ما أصابت، ذوي الدخل المحدود وأوسع الفئات الشعبية دون أن تطاول كبار المتمولين وذوي السلطة والمال ممن نهبوا البلاد على امتداد عقود طويلة؛ وما زالوا يواصلون ذلك، رغم تفاقم الأزمة مؤخراً، بوقاحة وإصرار لا مثيل لهما. والثاني هو أن هذه السلطة قد خيّبت آمال من كانوا يراهنون على عملية فرز في داخل أطرافها بحيث ينحاز فريق محدّد منها إلى صفوف الأكثرية الشعبية كما كان يعد ويتوعد. لم يحصل ذلك، ففي الأمور الجوهرية توحّدت مكوّنات السلطة، الجديدة منها والقديمة، الممسكة بكل تلابيب النفوذ والإدارة، وتلك التي تكاد مشاركتها تكون جزئية وحتى رمزية. توحّدت جميعها في إقرار الموازنة على النحو الذي ذكرناه: إعفاء كبار النهّابين والفاسدين والمستغلّين من المسؤولية عن الأزمة وعن موجباتها وأعبائها. أكثر من ذلك، فإن أبرز هؤلاء لم يتردد في تبرير ما حصل وفي الترويج لما انطوى عليه من «إيجابيات» وحتى إنجازات! وكان الأكثر خيبة، في هذا الصدد، أولئك الذين كانوا ينظرون نظرة تبسيطية لمشهد الصراع القائم في لبنان والمنطقة، معتقدين أن الفريق المعوَّل عليه في الاعتراض والتمايز قادر على الإفلات، من موجبات ما استقرّت عليه المعادلات والأولويات والتحالفات والعلاقات والتسويات والتنازلات... في بعدها الداخلي المتصل، دائماً، بشكل وثيق بالصراع الإقليمي وبموجباته... الواقع أن الطرف المعني (وهو «حزب الله») قد اقتصرت اعتراضاته، حين يعترض، على ممارسة هذا الفريق أو ذاك من أطراف منظومة المحاصصة الطائفية، دون أن تلامس أبداً المنظومة نفسها. على العكس من ذلك فقد أطلقت قيادة «حزب الله» ما هو أكثر من كاف لتأكيد ارتضائها لهذه المنظومة كناظم لممارسة السلطة في البلد، ولتمكينها وترسيخها، كما حصل أثناء البحث في قانون الانتخابات الأخيرة، مثلاً، لجهة القبول بـ «المشروع الأرثوذوكسي» كما أعلن السيد حسن نصرالله في أحد خطبه بعد تلك الانتخابات. إن قيادة «حزب الله»، حين أعلنت انخراطها في الحملة ضد الفساد، بلسان أمينها العام وقادة آخرين، قد كانت محكومة، إذاً، بضرورة التعاطي مع اندلاع أزمة كبيرة وشاملة التهديد والأضرار والاحتمالات السلبية التي قد تستهدف الحزب تحديداً. لكنها كانت محكومة أيضاً بالمحدودية لجهة عدم الاقتراب من المواقع الحليفة، من جهة، وعدم الذهاب بعيداً في ما يمكن أن يطاول منظومة المحاصصة الطائفية، من جهة ثانية. والسبب الثالث للإحباط هو «سوريالي» نوعاً ما. إنه في إبداء المرارة المشفوعة بالشعور بالنقمة والخذلان حيال «الجماهير» أي أكثرية المواطنين ممن قد وصل، أو قد يصل، سيف الجوع والإفلاس والخراب إلى كلّ ما يملكون دون أن يفعلوا الضروري إزاء ذلك: كأن يفيض غضبهم وتملأ جموعهم الهادرة الساحات، وتزلزل الأرض تحت أقدام الحكام المسؤولين عن الأزمة وعن تفاقمها وتماديها وأضرارها الشاملة الراهنة والمحتملة...
يمكن أن نضيف أن الخيبة ناجمة أيضاً، بنسبة كبيرة، عن الأداء والحضور الضعيفين لقوى التغيير، خصوصاً العريقة منها. ذلك أنه كان من المحتمل، وقد تقدمت القضية الاجتماعية، موضوعياً، إلى طليعة الأولويات، أن تكون قوى التغيير، اليسارية خصوصاً، في موقع القادر على الأخذ بزمام المبادرة لبناء توازنات ومعادلات ونسب قوى جديدة، تؤمن لهذه القوى حضوراً وتأثيراً في المشهد السياسي العام ما يعوض الغياب عنه، منذ مدة طويلة.
لا شكَّ أن المرارة حيال إفلات الخصم المرتكب من المحاسبة والعقاب، هو أمر طبيعي. وهو بطريقة ما ضروري (وحتى ثوري) للتزوُّد بطاقة جديدة يولدها الرفض والإدانة والحنق كزاد لا بد منه لمواصلة العمل أو لتحفيزه ومدِّه بأسباب جديدة من الطاقة والعزيمة. لكن الوقوع في اليأس هو أكثر من خطأ: قد يتحول، بالنتيجة، إلى خطيئة! الأجدى، طبعاً، الانخراط في نقاش وتحليل جديين لتحديد الأسباب وبلوغ الخلاصات الموضوعية التي قادت إلى النتائج السلبية حيث تمكنت قوى السلطة من كسب المزيد من الوقت، ومعه المزيد من النهب والفساد، على حساب الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، ما يهدِّد، أيضاً، أبرز إنجازاتهم المعروفة في حقول المقاومة والتحرير وهي حقول فريدة ومدهشة من حيث المواجهة وصنع النصر والدفاع عنه في وجه عدو ضارٍ يبلغ الآن ذروة عدوانيته وغطرسته.
تقتضي الموضوعية الاعتراف بأن المواطنين، بأكثريتهم، قد شعروا فعلاً بالأزمة وبمخاطرها وتهديداتها المُرعبة. وهم عبّروا، بأشكال مختلفة، عن ذلك، وعلى أوسع نطاق بالمقارنة مع أي فترة سابقة (عندما يتعلق الأمر بالشأن الاجتماعي). التلبية في التحركات الأولى التي دعا إليها «الحزب الشيوعي» و«التنظيم الشعبي الناصري» وآخرون، كانت جيدة وملحوظة. وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام ضجَّت بإعلان أشكال من النقمة غير مسبوقة، هي الأخرى. المشاركة في التحركات وتنظيمها من قِبل القطاعات في القطاع العام كانت شبه شاملة ومميزة وخصوصاً على صعيد متقاعدي القوى الأمنية والعسكرية خصوصاً. المبادرات العديدة في العاصمة والمناطق كانت كبيرة. القطاعات التعليمية تحرك معظمها: من المتقاعدين إلى طلاب وأساتذة الجامعة اللبنانية.... القضاة شاركوا في الاحتجاج بشكلٍ فعَّال... أدى كل ذلك إلى انكشاف وتدنّي رصيد السلطة مجتمعة ورصيد أطرافها متفرقين. من جهتها، السلطة، لجأت إلى الخداع والوعود والتهويل بالأسوأ ما لم يتنازل المواطنون لتفادى الانهيار الأخطر الكامل. أما المتضررون من سياسة السلطة فلم يجدوا سبيلاً إلى توحيد وجودهم وبرنامجهم وأشكال ضغطهم ضمن خطة وأولويات ومسار. لعل السبب الرئيس في ذلك يعود إلى ضعف وقصر نَفَس القوى السياسية الحزبية اليسارية المنظَّمة التي ما لبثت أن انكفأت مغادرةً المشهد منذ تأليف الحكومة، لتعود إلى المشاركة بشكل متقطع وخجول وغير مؤثر طيلة المراحل اللاحقة. هذه القوى لم تتعامل مع تفجُّر الأزمة بوصفه حدثاً مهماً وبالغ الاستثنائية لجهة إمكانية تحقيق اختراق ما في البنية التحاصصية الطائفية في البلاد: بنيّة العبث بمصير البلاد والبلطجة والنهب والفساد والتنكّر للدستور ومخالفة القوانين وإرساء منطق الدويلات والفئويات والعصبيات...
إن مساراً طويلاً واختبارات عديدة، آخرهما معركة الانتخابات ومعركة الموازنة، يقودان إلى استنتاج لا مفرّ منه بعد الآن: لا بديل من الانخراط في عملية تقييم شاملة لأسباب قصور وضعف «العمل الوطني» خصوصاً المشترك منه. هذه العملية مطروحة على المكونات الحزبية الراهنة قبل سواها. وهي مطروحة، بنفس الإلحاح أيضاً، على التشكيلات المدنية والناشطين المستقلين الذين هم مؤهلون، موضوعياً، لارتياد آفاق جديدة واشتقاق صيغ رائدة للعمل والاستقطاب والتأثير والتأطير...
بدرجات متفاوتة يتعمق الشعور بضرورة بناء مركز وطني يملأ فراغاً بات قاتلاً بالمعنى الفردي والوطني. إن من شأن حسن بناء هذا المركز أن يوفر مرجعية طال غيابها وانتظارها لمواجهة مهمات باتت مصيرية بكل معنى الكلمة.
* كاتب وسياسي لبناني