يواجه لبنان عدداً من الأزمات الداخلية والتي باتت تُشكّل هموماً إضافية تقع على كاهل المواطن اللبناني. أزمات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، تُديرها نخبة حاكمة أثبتت فشلها في مقاربة هذه الملفات ضمن إطار مصلحة المواطن. وهو ما تعكسه الفجوة الموجودة بين أهل السلطة والمواطنين اللبنانيين. هذا على الصعيد الداخلي. بالإضافة إلى ذلك، يعيش لبنان ضمن بيئة استراتيجية تواجه تحولاتٍ كبرى، هي أكبر من لبنان وقدراته، خصوصاً في ظل وضوح الاختلافات بين اللبنانيين، في ما يخص مقاربتهم للملفات الإقليمية. بالنتيجة، يعيش لبنان تحت وطأة نخبة حاكمة، أثبتت فشلها في إدارة مصالح لبنان الداخلية والخارجية.رغم ذلك، يجري النقاش اليوم حول مستقبل لبنان واللبنانيين. صحيحٌ أن النقاش ليس بجديد، لكنه بات يشغل بال الجميع، خصوصاً المواطن اللبناني. وهو الأمر الذي لا يوضح فقط شعور المواطن اللبناني بالخطر على مستقبله، بل يوضح أيضاً حجم الفجوة بين خيارات المواطن والنخبة الحاكمة. لكن اختلاف الظروف اليوم، على الصعيدين الداخلي والخارجي، يُضاف إلى ذلك الخلل في بنية الدولة والنظام اللبناني والفجوة الكبيرة بين أهل السلطة والمواطن، أسبابٌ كثيرة تفرض أن يكون النقاش حول مستقبل لبنان واللبنانيين جدياً أكثر. وهو ما يفرض تقديم مقاربة جديدة. فما هي الإشكاليات التي تتعلق بالواقع اللبناني والتي باتت بحاجة لمعالجة؟ وكيف يمكن مقاربتها بالشكل الذي يتلاءم مع تحديات اليوم ويُساهم في إنقاذ لبنان؟

نموذج إدارة الدولة في لبنان والإشكاليات المطروحة
في لبنان تتعدّد المشكلات التي تتعلق بإدارة الدولة وما يعنيه ذلك من مسائل ترتبط بالعلاقة بين الدولة والمواطن وكذلك دور التيارات السياسية والأحزاب. ولأن غلبة أسلوب الإدارة السياسية على نموذج إدارة الدولة في لبنان - حيث يطغى دور التيارات والأحزاب السياسية على إدارة الدولة لأجهزتها وسلطاتها - ما يجعل للأحزاب والتيارات الدور الأساسي في مشروع بناء الدولة ومعالجة إدارة الحكم في لبنان. وهو ما يقودنا لطرح إشكاليات عدة، تنبع من أهمية دور الأحزاب السياسية لتحقيق أيّ تحولٍ يتعلق بمستقبل الدولة وبالتالي لبنان واللبنانيين. وهنا نطرح إشكاليتين أساسيتين:
أولاً: إن تقييم التجربة اللبنانية، يُثبت أن الأحزاب والتيارات السياسية وعبر ممارستها تاريخياً للعمل السياسي، دخلت في ازدواجية ولو بنسب متفاومة، وذلك لعدم قدرتها على تحقيق أغلب وعودها لا سيما الإصلاحية والتنموية وتغليبها المصالح السياسية الخاصة على المصلحة العامة. وهو ما يُعبِّر عنه اليوم وبوضوح، الواقع المُزري الذي يعيشه المجتمع اللبناني بكافة مكوّناته، والذي يُعتبر نتيجة لهذا النهج المُعتمد في الحكم والذي هو ترجمة للعقل الموروث لأهل السلطة، والذي رسّخته قوى السلطة التي حكمت الدولة خلال السنوات الطويلة الماضية.
إنّ من لا يريد أن يقاوم الاعتداء على الحرّية الإنسانيّة لا يمكنه أن يحيا الحبّ


ثانياً: إذا كان التعامل مع أيّ سلطة يجب أن ينطلق من سلوكها تجاه المواطن والدولة، أي مما تفعله ومما لا تفعله، فإن ذلك يغيب عن النموذج اللبناني في ما يخص التعامل بين المواطن والسلطة اللبنانية. وهو ما يُؤكد غياب الحوكمة من جهة والمساءلة بأنواعها من جهة أخرى. وهو ما يُفقد «علاقة المواطن بالدولة» جوهرها الحقيقي القائم على الحقوق والواجبات المتبادلة. يُعتبر هذا النهج مدخلاً ضرورياً لتنظيم العلاقة بين المواطن والدولة، كما ويُعتبر المواطن محور هذه العملية.

التوجهات الاستراتيجية المطلوبة لإدارة الدولة
بناء لما تقدّم، يبدو واضحاً غياب اهتمام الأحزاب والتيارات السياسية بمسألة العلاقة بين المواطن والدولة. وهو ما يُفقد هذه الجهات قدرتها على تحقيق آمال المواطن اللبناني. الأمر الذي يبدو أن أغلب الجهات السياسية باتت تشعر اليوم بضرورة جعله الأولوية. إن أهل السلطة أنفسهم، باتوا اليوم، يشعرون بالقلق حيال ردات فعل المواطن اللبناني، والجميع أمام اختبارٍ حقيقي لبناء الدولة. لذلك فإن المقاربة الجديدة التي يجب الانطلاق منها، لا بد أن تلحظ مسألتين:
أولاً: الدور الفعَّال للتيارات والأحزاب السياسية اللبنانية وضرورة قيامها بقراءة دقيقة للتحديات التي تواجه الدولة والمواطن من أجل تطوير النظم الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للدولة اللبنانية والتي تخدم مصالح الشعب اللبناني وإيلاء ذلك الأولوية على لعبة المصالح السياسية الحاكمة.
ثانياً: تقتضي المسألة الأولى، ضرورة قيام الأحزاب والتيارات بإعادة النظر في نهجها تجاه المواطن اللبناني كمقدّمة ضرورية لمحاكاة الهم المعيشي للمواطن، وبالتالي تحديد الأطر السليمة للعلاقة بينه وبين الدولة.

مستقبل لبنان وأهمية المفاهيم الجامعة
إن هذه الإشكاليات والمقاربة الجديدة، تنطلق من أن القراءة الواقعية لطبيعة الدولة اللبنانية والنظام اللبناني بالإضافة إلى تقييم التجربة اللبنانية تُثبت أن المشكلة الأساسية التي نجدها تُشكل أساس أزمة إدارة الدولة في لبنان، هي: «غياب الرؤية الاستراتيجية للدولة اللبنانية». وهي المعضلة التي لا يُمكن حلُّها إلا من خلال التوجه نحو خياراتٍ تتلاءم مع مشروع النهوض لبناء الدولة اللبنانية الجامعة. ولم يعُد سراً أن هذا المشروع بات المسألة الوحيدة التي يُجمع عليها المواطنون اللبنانيون اليوم، وهو ما يُشكل نقطة قوة لم تحصل عبر تاريخ لبنان الحديث.
إن المواطن اللبناني وبغضّ النظر عن انتمائه الحزبي أو المذهبي أو الطائفي أو المناطقي، بات يُعبِّر اليوم، عن مطالب وحقوق كثيرة، تُشكِّل إطاراً لمشروع النهوض وبناء الدولة الجامعة التي يريدها أي مواطن لبناني. فبحسب مفهوم الدولة، لا تتناقض المواطنة مع الانتماء، شرط أن يُرسِّخ اللبنانيون طاقاتهم ضمن إطار مفاهيم الدولة الجامعة، وهو الأمر المقدور عليه.
إن المشكلات العميقة التي يعاني منها النظام اللبناني، والتي تُعبِّر عنها تناقضات الطبقة الحاكمة، واختلافها في قراءة مصالح المواطن وأولويات إدارة الثروة الوطنية، لا يمكن أن تجتمع إلا ضمن إطار جديد يخدم مصالح اللبنانيين كافة ويُحافظ على النسيج الداخلي اللبناني وتماسك اللبنانيين وهو ما يحتاج لتأسيس عقد وميثاق وطني يشمل المفاهيم الوطنية الجامعة واللغة المشتركة والتي تدعم مفهوم الدولة وما يرتبط بها من معاني وقيم الدولة. من هنا يجب التركيز خلال المرحلة المقبلة على التالي:
أولاً: ضرورة توجه الأحزاب والتيارات لإيلاء الأهمية، للمقاربات العملية التي تعالج هموم المواطن اللبناني، بعيداً عن الشعارات. ما يحتاج لإعادة النظر في الدور المطلوب من التيارات والأحزاب السياسية اللبنانية في تطوير النظم الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للدولة اللبنانية.
ثانياً: تعزيز دور الحوكمة كمقدمة لإصلاح النظام اللبناني، واعتبارها حاجة ضرورية يفرضها الواقع البنيوي المُترهل للدولة اللبنانية وضعف الخدمات تجاه المواطن اللبناني. ما يتطلب من الأحزاب ممارسة دور الرقيب على نشاط الدولة خدمة لمصالح المواطنين.
بالنتيجة يحتاج لبنان لتحولٍ تقوده الأحزاب والتيارات السياسية من خلال دورها الأساسي في ظل غلبة الإدارة السياسية على نموذج إدارة الدولة في لبنان. وهو توجهٌ استراتيجي تفرضه الواقعية السياسية المطلوبة في مقاربة بنية الدولة وطبيعة النظام اللبناني. لذلك، يجب أن تقرر الأحزاب والتيارات السياسية، إعادة النظر في نهجها تجاه المواطن، كمقدمة لإعادة النظر في دورها لحماية مصالحه. وهو ما يُشكل نقطة عبور الجهات السياسية، من ممارسة دورها المُعتاد والذي رسخته العقلية الموروثة لأهل السلطة والهادف لتأمين استمراريتها في الحكم عبر السير ضمن مشاريع تُعزز من الواقع المُترهل للدولة وتضرب مصالح المواطنين، نحو مشاريع تُعزز من نموذج الدولة الحديثة، الذي يحمي مصالح المواطن وبالتالي يحمي مستقبل لبنان واللبنانيين.
* باحث لبناني