«الرقص فوق رؤوس الثعابين»، هي مقولة تُقال لكل من يُحسن التعاطي مع «متناقضات»، سواء أكانت مصالح أم قضايا أم سلوكيات. فإجادة الرقص وحسن اختيار «النقلات» ومهارة التملّص من لسعات الثعبان، قد تُعدّ خصائص قلّما وجدت عند كثير من الناس؛ فصعوبة التكهن بردة الفعل، المفترضة من قبل تلك «الرؤوس»، تجعل إتقان تلك المهمة وتنفيذها، مع ما تحمله من نتائج قد تصل إلى حدّ القتل، أمراً لا يجيده كثيرون، إلّا أصحاب الاختصاص. إن التمادي في فرض «الأمر الواقع» على السلوك السياسي العام، المرتبط بخيوط المصالح تلك وتقاطعاتها وأصحابها، وصل إلى مرحلة لم يعد نافعاً معها أي إصلاح في شكل ذلك الوجه المتصدر للمشهد، والذي عبث فيه فساد أصحابه، فشوّهوه إلى حدّ لا يمكن ترميمه، ما سيجعل تلك الرقصة المجنونة قاتلة في النهاية، ولن ينجو منها إلّا ذلك الثعبان المتربص والمقيم في جلباب الراقصين.إن ما جرى من فلتان أمني أخيراً في منطقة جبل لبنان، ومن توترات في العديد من المناطق اللبنانية المختلفة، والمترافق مع خطاب سياسي ومناخات أعادت الى الأذهان مراحل الاقتتال الأهلي، يتحمل مسؤوليته السياسية، بالدرجة الأولى، أصحابه المتمسكون بنظام المحاصّة المذهبية والفساد السياسي، والمراهنون على استخدامه لتنفيذ مشاريعهم المشتبه فيها، ولو كان الثمن تفجير الوضع الأمني، ومن بوابة الكانتونات والفدراليات المذهبية، ونبش أحقاد الماضي... هؤلاء ليس لديهم ما يقدمونه للبنانيين سوى إنتاج هذا النوع من السلوك السياسي وتسويقه، سلوك مبني على المحاصّة بأسماء وأشكال متنوعة، وليس أقلها حكومة «الوحدة الوطنية»، وأيضاً بتقديم اللبنانيين كضحايا لتأبيد سلطتهم كلما تهددت مصالحهم، وذلك تحت غطاء من الخطابات المكررة والممجوجة كمثل تحقيق «التوازنات» الطائفية والمذهبية أو حماية «الديموقراطية التوافقية»، والتي لا تعكس في حقيقتها إلّا مراهنات ضمنية ومعلنة على استبدال هيمنة طائفية بأخرى أو إلغاءً وتهميشاً لهذا أو ذاك من السياسيين داخل كل طائفة ومذهب، ليصل إلى حدّ رسم حدود الفصل بين المناطق ولو بالدم والعنصرية والتاريخ والجغرافيا... من دون أي رادع أو وازع، أقله أخلاقياً.
إن المناطق اللبنانية كافة، ليس لها أبواب كي تَدخُل إليها، فهذه كانت عادة قديمة، حين كان سور المدينة هو خط حدودها الفاصلة بين الناس وإقطاعات المتنفذين، وهو تاريخ مضى وانتهى، منذ أن شهر الفلاحون معاولهم في وجه مالكيهم، وصنّاع المدن وعمّالها في وجه مستغلّيهم، وأمر استعادة تلك المقولة اليوم هو مدعاة للريبة؛ فهل هو حنين لتاريخ مضى، توارثه بعض من في السلطة اليوم؟ أم هو استجابة لموجبات المرحلة السائدة في منطقتنا وتماهٍ معها، والقائمة على مزيد من التقسيم ومشاريع الفدرلة؟
بغض النظر عن دوافع البعض وخلفياتهم، بأن لا أبواب للمناطق تُفتح لواحد أو تقفل على آخر، وما من مالك لأي مفتاح، وما من منطقة تُصنّف حكراً أو ملكاً خاصاً لأي مدّعٍ، ومن غير المقبول أن تصبح القرى والمناطق كانتوناً مقفلاً لجماعة أو مسرحاً لخطابات الشحن المذهبي وشد العصبيات الطائفية لذلك الزعيم أو غيره، وأن يمنع أي من اللبنانيين من زيارتها أو السكن أو العمل فيها بحجج مختلفة وواهية وساقطة من أساسها. لكن، إذا كان هناك ثمة أبواب للمناطق فمفاتيحها تعود حصراً لأصحابها، للأبطال والشهداء المقاومين الذين دافعوا عنها وعن بيوتها وثغورها ومفارقها، والتي أريقت دماء عطرة وغزيرة للدفاع عنها في مواجهات بطولية غطّت لبنان كله، وليس مثلث خلدة وقرى الشحار الغربي وعاليه والإقليم والحدث... التي شهدت على دحر قوّات المارينز وفتحت طريق التحرير من الاحتلال الصهيوني انطلاقاً من بيروت باتجاه الجنوب إلّا نماذج على ذلك،... واستكمالاً إلى بقية لبنان، والذي لا تخلو أي دسكرة فيه من حكاية دم ودموع وكرامة وبطولة، خطّتها أيادي فقرائه وعمّاله ومواطنيه. من هنا، فإن أي مقاربة تخرج عن إطار ارتباطها بشكل أساسي بمصالح الفئات الشعبية، أي كل الشعب اللبناني، ومن خارج أهدافه، وعلى نقيض أصحاب المشاريع السلطوية، ستصبح خسارة حقيقية، وستلحق ضرراً كبيراً في بنية الدولة ومؤسساتها.
وعليه، فإننا لا نرى تعويضاً عن هذه الخسائر الجسيمة التي لا نهاية لها، والتي ستستمر، طالما بقيت تلك المنظومة الحاكمة تنتهج المسار نفسه، سوى قيام شعبنا بكسر تلك الحلقة من أساسها، أي بضرب البنية السياسية والاقتصادية للنظام المعمول به اليوم؛ هو مسار يبدأ بوأد هذا النظام ومزارعه وسلوكه، والذي دأب أمراؤه على سفك دماء اللبنانيين جيلاً بعد جيل، وأفقروا الشعب وهجّروه إلى بقاع الأرض قاطبة، من أجل مصالحهم الضيّقة والخاصة. وأيضاً بإعادة صوغ مفهوم الاقتصاد الوطني بطريقة أكثر انحيازاً لفقراء الوطن؛ اقتصاد يؤمن استقراراً وفرص عمل وضمانة للمستقبل، قائم على بنى حقيقية منتجة وقادرة على التطور وقابلة للديمومة.
فالسياسات الاقتصادية والاجتماعية للسلطة المتنفّذة أوصلت أكثرية الشعب اللبناني إلى حالة من الفقر والعوز، ودفعت الفئات الاجتماعية المتضررة في أكثرية القطاعات للنزول إلى الشوارع... وبدل أن تلجأ الحكومة إلى إجراء تغيير في سياساتها الاقتصادية وتقدّم معالجات جدّية للمطالب المحقة عبر مشروع موازنة عام 2019، ها هي كعادتها تلجأ إلى تحميل عمّال لبنان وفقرائه وزر سياساتها الزبائنية ونتائجها المدمرة على غير صعيد. وليس بث الخوف في نفوس المواطنين إلّا المثل الواضح والصريح لذلك السلوك.
الدعوة إلى «مؤتمر وطني للإنقاذ»، يكون جدول أعماله الوحيد إطلاق الحراك الوطني في وجه كل السياسات المعمول بها

وها هم أطراف السلطة، ومن جديد، يتوزعون الأدوار بشطارتهم المعهودة، وبخطاباتهم التي تسترجع الحرب الأهلية ومنطقها وأحداثها وتبعاتها، ليس لرفضها بل لمزيد من التحريض، فيتولى أحدهم مهمة التفجير، والآخر مهمة التنفيس، وبين الاثنين لا رقيب ولا حسيب، بل استغلال هذا النوع من الجرائم للانقضاض أكثر على لقمة عيش اللبنانيين. وما التسريب الصحفي، المنسوب إلى رئيس الحكومة عن زيادة خمسة آلاف ليرة على سعر صفيحة البنزين وزيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 15%، إلّا دليل واضح عن طبيعة سلوكهم وأهدافهم البعيدة كل البعد عن هموم الشعب اللبناني ومشاكله الاقتصادية والاجتماعية الملحّة، واستجابة لشروط الهيئات المانحة ورأس المال. إن مسؤولية السلطة الحاكمة عن هذه الأحوال السياسية والاجتماعية المتردّية تعود إلى طبيعة التركيبة السياسية الهجينة التي أفرزتها الانتخابات النيابية الأخيرة، والتي أنتجت حكومة التعطيل الحالية، العاجزة عن معالجة أبسط القضايا التي يعاني بسببها اللبنانيون، عمالاً وموظفين ومعلمين ومتقاعدين وشباباً ونساء وطلاباً، على صعيد الرواتب والأجور وخدمات الماء والكهرباء والسكن والنقل وفرص العمل والتعليم الرسمي النوعي وغير ذلك من خدمات، والعاجزة اليوم أمام عقد جلسة حكومية لمعالجة ذيول ما حدث ويحدث أو لإلجام ذلك الخطاب المتفلت والفالت من كل الضوابط والحدود، بين مكوناتها ووزرائها.
وأمام هذا الوضع الخطير المحدق بوجود البلد والذي بات يهدد مصيره، فإننا ندعو كل القوى الوطنية والشعبية والنقابية والاجتماعية والقطاعية... الحريصة على إنقاذ البلد للعمل معاً، ولتعبئة كل الطاقات الشعبية في هذا الاتجاه، من خلال الدعوة إلى «مؤتمر وطني للإنقاذ»، يكون جدول أعماله الوحيد هو إطلاق الحراك الوطني في وجه كل السياسات المعمول بها، والتي كادت توصل البلد، بالأمس، القريب إلى تخوم الحرب الأهلية، وللتحرك بشكل مشترك وصولاً إلى إنتاج موازين قوى جديدة تفرض انتقال اللبنانيين من دولة المزارع والمحسوبيات إلى الدولة الوطنية القادرة والعادلة بعيداً عن الارتهانات الخارجية والرهانات السياسية الخاطئة والتوظيف السياسي للطائفية ولخطابها السياسي... دولة قادرة على تحمل موجبات المواجهة: في الخارج حيث المشروع الإمبريالي الغربي وربيبته إسرائيل، وفي الداخل حيث خطابات الفدرلة والعنصرية والتوتير والشحن والتي بلغت مستويات خطيرة.
لهذه المنظومة الحاكمة نقول: أوقفوا الرقص فوق رؤوس الثعابين، فالوطن لن يتحمل تلك الخفة في التعاطي ولا التشاطر ولا المزاد العلني في استجلاب لسعات المذهبية والطائفية التي خبرناها طوال تاريخ هذا البلد، والتي لم تكن يوماً مدعاة فخر أو تباهٍ ربطاً بنتائجها التي كانت مدمرة بمعظمها. اعقلوا، ولا تلجأوا إلى العنف للتغطية على فشل رهاناتكم، يكفيكم عبثاً بمصالح الشعب اللبناني، فلا تعرّضوه مجدداً لتلك الخيارات. وإلى الشعب اللبناني نقول: الخيار واضح وطريق التغيير تصنعه بيدك، فليكن تحركنا مشتركاً لبناء الخيار البديل؛ الخيار الوطني الديموقراطي بديلاً لمزارع الطوائف والمذاهب والمحسوبيات، ولنردم وكر الأفاعي تلك... لمرّة واحدة وإلى الأبد.

* عضو المكتب السياسي ومسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني