تأخر الحسم العسكري واستمرت العمليات العسكرية في محافظ الأنبار العراقية أكثر مما وعدت وتوقعت الجهات الحكومية، التي بدأت بتقدير المدة الكافية للحسم بأسبوع واحد، ثم بأسابيع قليلة، قبل أنْ يعترف المالكي بأن المعركة ستطول كثيراً، معللاً ذلك بتدخلات الدول والقوى الإقليمية. أما واشنطن التي بدت كأنها تستعجل الحسم واقتحام مدينة الفلوجة التي يسيطر عليها ويديرها تنظيم «داعش» وقوى شبيهة وأخرى على مقربة منه كثوار العشائر في المجلس العسكري؛ فقد رد عليها المالكي مفسراً التأخير بمحاولات القوات الحكومية لتفادي سقوط ضحايا كبيرة بين صفوف المدنيين العراقيين.
كثيرون طرحوا أسباباً أخرى مختلفة منها: عدم جاهزية الجيش والقوات الأمنية الأخرى، بدليل سيل الأسلحة والمعدات الذي غمر موانئ الجنوب خلال فترة قصيرة من دول عديدة – واللافت أنّ صور بعض تلك الشحنات كانت تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي بمجرد وصولها – ما يعني أن الجيش كان يفتقر إلى الكثير منها قبل الصدام المسلح، كذلك قيل كلام عن تردد واشنطن في تنفيذ تعهداتها بتصدير السلاح، وخاصة طائرات الأباتشي. وهناك من فسَّر تأخر الحسم العسكري الحكومي ليكون قريباً من موعد الاستحقاق الانتخابي التشريعي نهاية نيسان القادم ليحصد المالكي وائتلافه نتاج الانتصار العسكري المنتظر في الأنبار كما يزعم أصحاب هذا التفسير.
الخلفية السياسية للاشتباك العسكري لم تتغير كثيراً عنها كما ظهرت في بداية الأحداث، فتفسيرات الجهات المهيمنة على الحكومة ظلّت على ما هي عليه؛ فالمعركة بحسب هذه الجهات هي معركة الدولة ضد الإرهاب التكفيري والتمرد المسلح الذي استولى على مدن عدة والذي يستهدف الشعب والمؤسسات الرسمية، وبخاصة الأمنية. أما الأطراف المسلحة المحلية في الجهة المقابلة، إذا ما استثنينا «داعش» البغدادي و«قاعدة» الظواهري، فهي ترفع شعارات الدفاع عن حقوق المكون العربي السني ورفض الإقصاء والتهميش الذي تُتهم الأطراف المهيمنة على الحكومة بممارسته.
اكتسبت خريطة القوى والجماعات المسلحة التي تواجه القوات الحكومية وضوحاً أشد وثباتاً أكثر في الفترة الأخيرة. يذهب أحد الراصدين للوضع، وهو الباحث في الشؤون الإسلامية هاشم الهاشمي، عبر سلسلة من المقالات المهمة نشرها في الأيام الماضية في الصحافة البغدادية إلى تقديم الملامح المحددة الآتية للوضع على الأرض، نوردها مع بعض التحفظ لعدم توافر توثيقات رسمية لها، ومع ذلك يمكن أن نختصر تلك الملامح بالآتي:
تسيطر قوة تقدر بـ 500 مسلح من داعش على شمال مدينة الفلوجة وجنوبها وشرقها، أغلبهم من الخلايا النائمة التي استيقظت مع بدء المواجهات المسلحة. وقد اتضحت هوية وتركيبة المجلس العسكري العام لثوار العراق أكثر حيث قيل إنهم من أتباع تنظيمات «الهيئة البعثية». وبعد انسحاب أفراد الفصائل المسلحة (السلفية والإخوانية)، لم يبقَ من عديدهم إلا ما يقارب 150 مقاتلاً تقريباً. و«المجلس العسكري»، الذي يمثلّه الشيخ علي حماد المحمدي والشيخ إبراهيم نايف الحردان، والغريب أن الشخص الذي كان أكثر حضوراً إعلامياً باسم المجلس وهو علي حاتم السليمان لا تذكره هذه المصادر، ويقال إنّ هؤلاء هم مجموعة من الضباط البعثيين المدعومين بأفراد من كتائب ثورة العشرين التي يقودها عدد من أقارب المعارض المقيم في الأردن حارث الضاري، الموجودين في مركز الفلوجة، وهم ضد القوات الحكومية، ويتحاشون الاصطدام بالشرطة المحلية لأنهم من أبناء عشائر المنطقة، وهم أيضاً ضد مسلحي الصحوات المساندين للحكومة والمموَّلين من قبلها، كذلك فإنهم ضد أية مبادرة سياسية يقدمها المحافظ ومجلس المحافظة. ويلاحظ أيضاً أنّ دور رجال الدين قد خفّ كثيراً والتزم أكثرهم حضوراً وتحريضاً الصمت أو اختفى عن الأنظار، ومن هؤلاء الشيخ عبد الملك السعدي الذي تحدثت أنباء عن أنه تعرض لضغوطات من الحكومة الأردنية أجبرته على الصمت أو الإقلال من تصريحاته وتحركاته. أما الشيخ حارث الضاري، رئيس هيئة علماء المسلمين، المقيم في الأردن أيضاً، فقد ضاعف من تحركاته في بداية المواجهة ثم ركن إلى الهدوء لاحقاً.
المحور الثاني من القوى المسلحة في الأنبار يتألف من المجموعات الآتية: «جيش المجاهدين» وينشط في مناطق الكرمة وعامرية الفلوجة وذراع دجلة، وتقدر مصادر مطلعة عديدة ببضع مئات. و«حماس العراق» ويتحصن مقاتلوها في معظم أحياء مركز الفلوجة، ويصل عديدهم إلى قرابة مئتي مقاتل، و«الجيش الإسلامي» في مناطق الصقلاوية والخالدية وأطراف الفلوجة الغربية ومقاتلوهم أكثر عدداً من مقاتلي «حماس العراق»، وهناك جماعات مسلحة سلفية وأخرى ذات توجهات إخوانية يتحصن مقاتلوها قرب مضافة الشيخ رافع الجميلي. وهذه الجماعات التي تقاتل القوات الحكومية وحلفاءها من رجال الصحوات ليست معادية لداعش أو لقاعدة الظواهري، ولكنها حذرة منهم.
على صعيد التعامل السياسي مع الأزمة، تعددت وتنوعت المبادرات ومشاريع الحلول، ولعل من أبرزها مبادرة السيد عمار الحكيم التي أيدتها أطراف عديدة، ولكن المالكي سحب تأييده لها بعد موافقة أولية بحسب الحكيم. وتقوم هذه المبادرة على اقتراح تقديم موازنة خاصة واستثنائية لمحافظة الأنبار بمبلغ أربعة مليارات دولار لبناء ما دمرته الأحداث ولدعم البنية التحتية. وقد استقبلت هذه المبادرة استقبالاً مختلفاً، فأيدها البعض بحماسة وعارضها البعض الآخر بنحو لا يقل حماسة، ووصفت بـ«الرشوة التي تقدم للمتطرفين ليكفوا عن ذبح وتفجير العراقيين مؤقتاً»، كما كتب أحد النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي. وهناك مبادرة تحمل اسم رئيس مجلس النواب، أسامة النجيفي، وهي أقرب إلى خطة طريق تبدأ بإصدار عفو عام عمن رفع السلاح بوجه الدولة خلال الأحداث الأخيرة مع استثناء داعش البغدادي وقاعدة الظواهري من العفو، وتنتهي بتطبيع الأوضاع وإعادة البناء وتحقيق مطالب المعتصمين. لم تتفاعل الأطراف السياسية المهمة بجدية مع هذه المبادرة لأسباب عدة، أهمها أن صاحبها يعتبر منحازاً إلى طرف في الأزمة، بل إنه اتهم صراحة من قبل النائب محمد الصيهود، من كتلة رئيس الوزراء، بأنه يوفر الغطاء السياسي لداعش والقاعدة في ثلاث محافظات. والواقع أن الطرف الحكومي يبدو مفتقداً لأي مشروع أو حلّ ذي صدقية باستثناء الحلّ الأمني، وهو حلّ ظهر واضحاً أنه مكلف كثيراً وغير مضمون العواقب.
هناك من دعا إلى تكثيف التعاون مع الولايات المتحدة وتعميقه، واقترح بداية صغيرة تتمثل بإنشاء قاعدة (للطائرات بلا طيار في العراق ومركز قيادة لتقديم الخدمات التقنية والفنية). كذلك نشرت أنباء عن أن الولايات المتحدة الاميركية سترسل 23 طياراً وفنياً لقيادة طائرات الأباتشي التي اشتراها العراق أخيراً والتي ستشارك كما يعتقد في معارك الأنبار. وأعلن في بغداد وصول 200 خبير عسكري أميركي للإشراف على تدريب الطيارين العراقيين، ومن المنتظر أن يتسلم العراق أربع طائرات مقاتلة من طراز «أف 16» مع شحنات من صواريخ «hell fire». هذه الأنباء تصادفت مع أخرى تتناقض معها في المضمون وتتحدث عن تردد وتَمَنع أميركي في تسليح الجيش العراقي بعد مطالبة ساسة من العرب السنّة، من بينهم صالح المطلك، زاروا واشنطن خلال الأزمة وطالبوا بتأخير هذه الصفقات التسليحية أو منحهم ضمانات بعدم استعمالها في مناطقهم. وقد دفعت هذه التطورات بعض المحللين إلى الحديث عن «عودة ثانية للاحتلال» أقل صخباً من سابقتها، وأن «هذه العودة لا علاقة لها بمكافحة الإرهاب؛ فهذا الأخير منتج أميركي بامتياز... وسيكون الاحتلال هذه المرة بلا جيوش ضخمة، وبلا طائرات وصواريخ من البر والبحر، سوف يتوسع ويمسك بمفاصل السياسة والسيادة الوطنية»، كما كتب الصديق عبد الأمير الركابي. غير أن هذا التحليل لا يأخذ بالاعتبار العوامل والظروف الأساسية التي أنهت الاحتلال الأميركي المباشر ولم تزل فاعلة في الحاضر، فيقع بالتالي في مطب الإرادوية السياسية. لكن، من جهة أخرى، إن رفض هذا التحليل لا ينبغي أن ينطوي على رفض لأية محاولة من قبل واشنطن للاستفادة من حرب الأنبار لتعزيز مواقعها العراقية التي باتت رمزية ومتهافتة لمصلحة إيران. لقد بلغ الهوان بالإدارة الأميركية أنها فشلت في إقناع العراقيين بالاستفادة من الكثير المزايا والاتفاقيات التعاونية كدورات تدريب الشرطة العراقية في القواعد والمدن الأميركية كما نصت على ذلك اتفاقية انسحاب القوات بين البلدين، وامتنع المعنيون عن الالتحاق بهذه الدورات التدريبية دون أن تحاول الجهات العراقية الحكومية إجبارهم على فعل العكس. ولكن هل ستدفع حراجة موقف الحكومة العراقية الأمني في الأنبار لاحقاً ومع تعقد الحسم الأمني إلى تعميق وتكثيف تعاونها مع واشنطن إلى مديات أبعد؟ لا أحد يقامر برفض هذا الاحتمال.
على الصعيد الاجتماعي، تركت تفاصيل الأحداث في الأنبار تأثيراتها الكبيرة على الناس؛ فقد تفاقم الاستقطاب الطائفي كثيرا، وخصوصاً – ويا للغرابة – لدى جمهور النخبة التي ظهرت أكثر هشاشة واستعداداً للتخندق الطائفي من المواطنين العادين، فتوزع أفرادها إلا مَن ندر على خندقين: الأول، مع الحكومة العراقية وجيشها دون تحفظات وتحت شعار «معاداة الإرهاب»، والبعض الآخر مع الحراك المسلح المعارض للحكومة. وقد صاحب هذا الاستقطاب انعدام أي تحركات تضامنية مع ضحايا الأحداث من أهالي المنطقة الغربية الذين ذاقوا الأمرين خلال المواجهة، ولكننا نسجل استثناءً تضامنياًً واعداً وقوياً حدث على الأرض حين استقبلت محافظة كربلاء عوائل كثيرة نزحت من الأنبار وقدم لها الأهالي والجهات الرسمية والشعبية كل أنواع المساعدات. حدث الأمر ذاته في بعض المحافظات الشمالية ككركوك وعند أطراف بغداد. ومن الطبيعي أن تترك بعض التفاصيل المأسوية التي لا يخلو منها أي صدام مسلح تأثيراتها على البنية النفسية والاجتماعية للناس، وهذا ما حدث بعد أن أقدم مسلحو داعش على إعدام عدد من أسرى الجيش العراقي، من بينهم أفراد مفرزة طبية مؤلفة من أربعة جنود قيل إنهم استدرجوا الى منطقة يسيطر عليها المسلحون بدعوى وجود امرأة حبلى في حالة وضع ينبغي نقلها إلى المشفى، وحين وصلت المفرزة طوقها المسلحون واشتبكوا مع جنودها وأسروهم بعد نفاد ذخيرتهم وصوروهم وهم يتعرضون للإذلال ثم أطلقوا النار عليهم وقتلوهم. لقد هزت هذه المجزرة الرأي العام هزّاً عنيفاً وأثارت ردود أفعال حادة، لكن حادثة معاكسة لها خففت من تأثيراتها حين أقدم أحد شيوخ عشائر الأنبار الذي كان يقود مجموعة مسلحة على إطلاق صراح ثلاثة أسرى عسكريين بينهم ضابط بعد أن أكرمهم وأحسن وفادتهم.
من الواضح، أن مرحلة ما بعد الحسم الأمني ستكون مختلفة تماماً عمّا قبله، وسيكون الراصد بإزاء مشهد مختلف جداً من حيث التفاصيل، غير أن جذور الأزمة الراهنة ومسببات هذا الحدث الكبير ستبقى قائمة و فاعلة ما لم تُغيَّر قواعد اللعبة السياسية عبر إنهاء العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية. لقد عنت هذه المحاصصة وتعني في جوهرها هيمنة الطائفة الأكبر على الدولة ومؤسساتها وثرواتها مثلما عنت تهميش الجميع وإقصاءهم بمن فيهم العلمانيون ومناهضو الطائفية في الطائفة المهيمنة ذاتها وإطلاق مشروع يتوافق وطبيعة المجتمع العراقي التعددي والمتنوع يتأسس على إقامة دولة المواطنة والمساواة وفصل الدين والطائفة كمؤسسات ورموز عن الدولة بسلطاتها الثلاث وعن السياسة كمؤسسات ورموز وأفكار.
* كاتب عراقي