ها هي حكومة الرئيس تمّام سلام قد شُكّلت بعد مضي أكثر من عشرة أشهر على التكليف. ولادتها كانت قيصرية. وإمكانية «إجهاضها» بقيَت حتى اللحظات الأخيرة بسبب عقدة الداخلية، التي عكست كل ما يجري في الداخل اللبناني من عُقد. ولكن، بعيداً عن العقد التي رافقت التأليف في الأيام الأخيرة، لا شك أن تشكيل الحكومة كان قراراً إقليمياً تدخّلت فيه قوى دولية من أجل الحفاظ على الاستقرار في لبنان في انتظار تبدّل في موازين القوى على الساحتين الإقليمية والسورية!
اللاعبان الأساسيان في الداخل في تأليف الحكومة، تيار المستقبل وحزب الله، التقطا الرسالة وتراجعا خطوة في مواقفهما. فحزب الله تراجع عن حكومة 9 – 9 – 6 الذي كان قد هدّد أمينه العام بأنه أحسن ما يُعرض على قوى 14 آذار. وتيار المستقبل قبل مشاركة حزب الله في الحكومة دون تحقيقه شرط الانسحاب من القتال في سوريا (وهذا ما لم تفعله القوات اللبنانية). هذان التراجعان يعكسان رغبة كل من إيران والمملكة العربية السعودية، اللاعبان الأساسيان على الساحة اللبنانية اليوم بضرورة الحفاظ على الاستقرار في لبنان الذي يكاد ينفجر. لماذا؟ وما علاقة هذا التراجع على الساحة اللبنانية بالصراع الإقليمي؟
تراجع إيران يأتي في سياق سعيها إلى العودة لـ«حظيرة» المجتمع الدولي للخروج من أزماتها الاقتصادية والمالية التي ازدادت تفاقماً منذ بدء العقوبات الأوروبية عليها. الاتفاق النووي كانت الخطوة الأولى في هذا المسار. وها هو تأليف الحكومة في لبنان يشكّل الخطوة الثانية. أما السؤال، لماذا اليوم؟ فهناك سببان: الأول هو تصاعد وتيرة التفجيرات التي طاولت عمق مناطق حزب الله التي كانت على مدى ثلاثة عقود، قلاعاً أمنية وعسكرية يصعب اختراقها حتى من قبل إسرائيل. فتنامي الأصولية وانتشار فكر القاعدة في لبنان وبين اللبنانيين (إذ إن غالبية الانتحاريين هم لبنانيون) يشكّلان خطراً استراتيجياً على قوّة حزب الله والنفوذ الإيراني، وهو ما كان مستبعداً حتى إعلان الحزب «رسمياً» مشاركته في القتال في سوريا إلى جانب النظام. أما السبب الثاني لهذا التراجع، فهو حاجة إيران إلى إظهار حسن نيّة تجاه الأوروبيين، ولا سيما فرنسا التي يبقى لبنان في سلّم أولوياتها في الشرق الأوسط، لاستعادة علاقاتها التجارية معها في المرحلة الثانية من الاتفاق النووي، وبخاصة تصدير النفط، حيث إن أوروبا تستورد نحو 20 بالمئة من النفط الإيراني. من جهتها، المملكة العربية السعودية تجد نفسها وحيدة في مواجهة نفوذ إيراني متنامي في المنطقة العربية، معطوف اليوم على اتفاق إيراني – أميركي يشكّل تهديداً استراتيجياً لدورها ولأمن الخليج العربي. فهي خسرت مصر حسني مبارك حيث وصل إلى الحكم الإخوان المسلمون (المنافسون إسلامياً للوهابيين) الذين زار رئيسهم طهران لحضور قمة الدول الإسلامية. كذلك خسرت نظام علي عبد الله صالح في اليمن حيث يعود شبح تقسيم البلاد إلى يمنين، وربما أكثر، ومعه شبح النفوذ الإيراني من خلال الحوثيين، ما يشكّل تهديداً على الحدود الجنوبية الغربية للمملكة وعلى طريق تصدير النفط عبر البحر الأحمر.
بعد قمع الثورة البحرينية بالقوة واطمئنانها إلى عدم تمدّد موجة تغيير الأنظمة إلى الجزيرة العربية، حاولت الرياض الاستعاضة عن هذه الخسائر بقلب النظام السوري، الحليف الأول لإيران في المنطقة. لكن ذلك لم يتحقّق لأسباب عدّة أبرزها مواقف واشنطن الرافضة لدعم المعارضة السورية عسكرياً التي منعت وصول هذا الدعم من الدول الإقليمية (وأبرزها تركيا والسعودية). وكان آخر هذه المواقف تردّد إدارة باراك أوباما وعزفها عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري بسبب استعماله السلاح الكيماوي ضد المعارضة.
يُضاف إلى كل هذا الوضع الإقليمي الصعب للمملكة العربية السعودية، الاتفاق النووي الأخير بين إيران ودول 5 +1 الذي شكّل بداية «تطبيع» علاقات هذه الأخيرة مع المجتمع الدولي دون تراجع نفوذها في المنطقة العربية. فهي لا تزال لاعباً أساسياً على الساحة العراقية، وتدعم النظام السوري لوجستياً وعسكرياً بواسطة حرسها الثوري وحزب الله. أما في لبنان، على خلاف ما كان متوّقعاً، فبعد خروج الجيش السوري ازدادت قوّة حزب الله في اللعبة السياسية الداخلية وكذلك قوّته العسكرية وسيطرته الأمنية.
تصلّب المواقف السعودية من إيران خلال السنوات المنصرمة ومن السياسة الأميركية في المنطقة في الأشهر الاخيرة لم يؤدّ إلى تغيير في الواقع، فأدركت المملكة عدم قدرتها على تحقيق هذه المهمّة دون مصر، الدولة العربية الأكبر والأقوى. من هنا كان تأييدها السياسي السريع ودعمها المالي الكبير لـ«مصر السيسي». ويأتي دعمها اليوم تأليف حكومة في لبنان بمشاركة حزب الله بمثابة تأجيل للمواجهة مع إيران بانتظار عودة مصر إلى الساحة العربية بعد الانتهاء من «مخاض ثوراتها». فمصر القوية وحدها قادرة على الوقوف في وجه النفوذ الإيراني في المنطقة، وهي ستكون بذلك سنداً مهماً للجزيرة العربية التي تعيش منذ سقوط نظام صدام حسين في العراق هاجس تمدّد النفوذ الإيراني في قلب جغرافيتها.
هل هذا يعني أنه لم يكن للأطراف اللبنانيين رأي أو حماسة في تشكيل الحكومة؟ بالطبع نعم. فتيار المستقبل لم يعد يحتمل بقاءه خارج الحكم. فهو خسر كثيراً خلال السنوات الثلاث الأخيرة. أما حزب الله، فلم يستطع أن يحكم من خلال حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. وذهابه عسكرياً إلى سوريا «لحماية ظهر المقاومة» أعطى حجّة أقوى لخصومه الداخليين لإسقاط صفة المقاومة عن سلاحه. وحربه «الاستباقية» على التكفيريين جلبت هجماتهم إلى قلب مناطقه. وها هي «ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة»، التي أعطت شرعية لسلاح الحزب منذ عام 2005، مرفوضة سلفاً من قبل قوى الرابع عشر من آذار. و«إعلان بعبدا»، الذي يعتبره الحزب حبراً على ورق، سيكون في صلب مناقشة البيان الوزاري. وهو مدعوم اليوم بـ«المذكّرة الوطنية» لبكركي التي تبنّته صراحةً ودعت إلى حصرية السلاح بالقوى الشرعية اللبنانية ورفضت الأمن الذاتي.
الأنظار كلّها موجّهة اليوم نحو البيان الوزاري. فهل يعمل الطرفان بنصيحة لينين فيتراجعا خطوة اضافية بهدف التقدّم في ما بعد خطوة إلى الأمام؟ بعبارة أخرى، هل سيقبل تيار المستقبل بـ«ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة»، بصيغة ما، من أجل أن تحصل الحكومة على الثقة؟ وبذلك تكون كاملة الشرعية لتسلّم زمام السلطة إذا ما تأخّر انتخاب رئيس للجمهورية. وهل سيقبل حزب الله بـ«إعلان بعبدا»، بطريقة ما، مقابل تبني البيان الوزاري «التصدّي لكل أنواع الإرهاب» كواحدة من أولوياته؟ وسأذهب أبعد من ذلك، هل ستتحلّى قيادة حزب الله بالجرأة فتعتمد البيان الوزاري مخرجاً لبدء خروجها من الوحول السورية التي تغرق فيها أكثر يوماً بعد يوم؟
* باحث وأستاذ جامعي