ماكسيم رودنسون علم من أعلام دراسة العالم العربي والإسلام. دراساته تدحض فكرة التعميم عن الاستشراق الغربي بأسلوب قوي ومنطقي وأخّاذ ومستند إلى مراجع بلغات عديدة. لم يبلغ خبير أو مستشرق ما بلغه رودنسون من سعة معرفة وعمق إدراك وعلم عن الشرق الأوسط وقضاياه. هو شخص استثنائي فذّ، وكتاباته تصلح اليوم للاستفادة منها كما كانت عند صدورِها. لا تستطيع أن تقول ذلك عن كتابات الكثير من المستشرقين ومن عالمي وعالمات الاجتماع. كتبَ رودنسون أفضل سيرة معاصرة للرسول العربي، وإن لم تُترجم إلى العربيّة بعد (تُرجمت إلى الفارسيّة، والطريف أن هناك كتاباً نقديّاً للسيرة من قبل حسن قبيسي «رودنسون ونبيّ الإسلام»، وفيه يعيب الكاتب على رودنسون منطقه غير النقدي ضد الإسلام). واعترف رودنسون بأن كتابه عن محمد كان المُفضّل عنده (راجع الفصل عنه في كتاب المؤرّخة نانسي غاليغر، «مناهج في تاريخ الشرق الأوسط»)، وقارن رودنسون ستالين بمحمد، إذ إنهما — عنده — تحوّلا من حاملَي عقيدة إلى مؤسِّسَي دولة. وكتبَ رودنسون «الإسلام والرأسماليّة»، وهو دحض للفكرة الـ«ثيولومركزيّة» (بحسب مصطلح رودنسون في كتابه «الافتتان بالإسلام»، والمصطلح عنده يعني ردّ كل الظواهر بين المسلمين إلى الثيولوجيا الإسلاميّة) عن استمراريّة الإسلام كما هو، وعن أن الإسلام مفتاح التفسير في النظر إلى العالم العربي. دحضَ رودنسون فكرة ماكس فيبر عن علاقة الإسلام بالرأسماليّة، وعن قدرة المسلمين عبر التاريخ على التحايل على عقيدتهم. كان رودنسون، وهنا تكمن فذاذته، مُجدّداً ومبتكراً في الدراسات العربيّة والإسلاميّة. وهو سخرَ من فكرة أن الإسلام القديم يُسهم في تفسير العالم العربي المعاصر، لكنه رفض أيضاً فكرة أنّ الإسلام لم يعد وارداً في حياة المسلمين، في حقبة الصعود القومي (الغريب أنّ إدوار سعيد أخذ على رودنسون أنه لم يُعِر الإسلام الدورَ الذي يستحقّه في حياة المسلمين، لكن رودنسون كان أقرب إلى الصواب — راجع مراجعة سعيد لكتاب «الإسلام والرأسماليّة»، في «نيويورك تايمز»، ١٠ نوفمبر، ١٩٧٤). لكن اسم رودنسون ارتبط بالصراع العربي - الاسرائيلي لأنه، خلافاً للمستشرقين وخبراء الشرق الأوسط في الغرب، لم يختر الطريق الأسهل في إهمال الكتابة عنه لما في ذلك من نفع — أو ضرر (بحسب آراء الفرد) — شخصي وسياسي (لم يكتب المستشرق هاميلتون غيب عن الصراع العربي - الإسرائيلي، لكنني وجدتُ في أوراقه الخاصّة في جامعة هارفرد أنه كان يراسل المسؤولين في الحكومة البريطانيّة عن الموضوع).وبالرغم من غزارة إنتاج رودنسون وتعدّد اختصاصاته (كتب عن اللغة الأمهاريّة ودرَّسها في السوربون، وكتب عن الطبخ العربي في القرون الوسطى)، فإن كتابات رودنسون عن الصراع العربي الإسرائيلي طبعت مسيرته عند الرأي العام الفرنسي وعند الأكاديميا الغربيّة والعربيّة على حد سواء. التذكير برودنسون وإرثه شحذه إصدار الكتاب الجديد عن دار جامعة ييل، «عرين الأسود: الصهيونيّة واليسار، من حنة أراندت إلى نوم تشومسكي» لسوزي لنفيلد (وهي تعلّم مادة الصحافة في جامعة نيو يورك، ولا شأن لها بالدراسات الإسلاميّة والعربيّة). الكتاب جزء من حملة أكاديميّة وسياسيّة صهيونيّة لربط معاداة الصهيونيّة بمعاداة السامية. وتهمة كراهية الذات لاحقت رودنسون الذي كان، حسب قوله هو، أشهر معارض للصهيونيّة في فرنسا. ولنفيلد في كتابها الجديد تربط رودنسون بمعاداة السامية، وتتهمه أيضاً بالتغطية على جرائم الأنظمة العربيّة ومنظمة التحرير (وهذا افتراء، لأن رودنسون انتقد الأنظمة العربيّة ومنظمّة التحرير بقسوة تستحقها). والكاتبة تزعم كاذبة أن رودنسون تعرّض لـ«مشاكل» (راجع الفصل عن رودنسون في كتابها، وإن كان عدد الصفحات مختلفاً في نسختي الرقميّة) في العالم العربي بتهمة أنه «افتقر إلى احترام الإسلام أو أسوأ»، وهذه فرية. مقالات رودنسون وكتبه تُرجمت إلى العربيّة، وهو بادر إلى نقد الاستشراق قبل صدور كتاب إدوار سعيد بسنوات (وإن كان سعيد قد تمنّى على رودنسون أن يكون أكثر نقداً للاستشراق، وطبعاً فإن ردّ رودنسون على «الاستشراق» لم يعجب سعيد).
لماذا يكون لزاماً على حركة تحرّر وطني أن تقرّر سياساتها بناءً على ردود فعل الغير؟


مثل مسيرته الفكريّة، لم تكن سيرة رودنسون الشخصيّة عاديّة. ولدَ لأبويْن شيوعيّيْن (كان أبوه يلعب الشطرنج مع ليون تروتسكي) يهوديّيْن لكن معادين للصهيونيّة قبل ولادة الكيان الإسرائيلي. ونشأ رودنسون شيوعيّاً معادياً للصهيونيّة، ولم تعنِ له اليهوديّة، كماركسي مُلحد، أي شيء (ورودنسون كان صارماً في نقده للأحزاب الشيوعيّة التي تساهلت في نشر الإلحاد). وقضى رودنسون في الحزب الشيوعي الفرنسي نحو عقديْن، صرفَ فيهما ٧ سنوات بين لبنان سوريا في مرحلة الحرب العالميّة الثانيّة وما تلاها. وهذا اليهودي الذي فقد أبويه في محرقة أوشفتز، وجد ملاذاً بين عربٍ، مسلمين ومسيحيّين: والكاتبة لنفيلد تأخذ على رودنسون قوله إنّ بروز اللاسامية عند العرب كان من إفرازات نشوء دولة إسرائيل. لكن حياة رودنسون نفسه دليل على قوله: مات أبواه في أوشفتز، فيما وجد هو ملاذاً بين لبنان وسوريا. وكتب رودنسون عن الصراع العربي - الإسرائيلي، ولعلّ كتابه «إسرائيل: دولة استعماريّة - استيطانيّة؟» (وكان الكتاب مساهمة في العدد الضخم الخاص لمجلّة جان بول ساتر، «الأزمنة الحديثة» في عام ١٩٦٧، وتُرجم فيما بعد في كتاب في العربيّة والإنكليزيّة ولغات أخرى، ومحرّر العدد ندم على مشاركة رودنسون، وسارتر دعاه إلى معالجة نفسيّة لكراهيته الذاتيّة كيهودي) رسم صورة رودنسون في عيون مريديه وخصومه في جانبَي الصراع. لكن عنوان الكتاب أسهم في فرض انطباع عنه، أكثر من مضمونه المعقّد بعض الشيء.
في حوار مع مجلّة «شؤون فلسطينيّة» في أيّار ١٩٧٢، طرح رودنسون فكرة قبولية الدولة اليهوديّة أو عدم قبوليتها. ويذكر في هذا الصدد حضوره مؤتمراً لمنظمة عربية في أميركا في عام ١٩٧٠، ذكر في إحدى خطبها شخص (هو يقول إن اسمه «فاروقي»، وهو يعني إسماعيل فاروقي، أستاذ الدراسات الإسلامية الراحل في جامعة تمبل) أنه يعارض دولة يهودية، ولو على سطح القمر (وعاد رودنسون لموضوع الدولة اليهوديّة في القمر، في آخر فصل من كتاب «إسرائيل والعرب»). لكن رودنسون يقول تعقيباً إنه لا يعارض دولة يهوديّة على سطح القمر. والفرضيّة عن دولة يهوديّة في المطلق لها جانبان: جانب السكان المحليّين ومصيرهم وجانب فكرة الدولة اليهوديّة كدولة دينيّة تعطي حظوة لسكّان على أساس الدين. الجانب الأوّل غير وارد على سطح القمر، لأن لا سكّان هناك. لكن من المستغرب أن رودنسون العلماني الملحد الصارم لا يعارض بالمبدأ دولة يهوديّة أو إسلاميّة أو مسيحيّة (وقد انبرى رودنسون في عام ١٩٧٨ على الصفحة الأولى من جريدة «لوموند» للردّ بقوة على ميشال فوكو، الذي كان قد افتُتن بالخميني ودوره في الثورة في إيران، ووصف رودنسون النزعة الإسلاميّة في الثورة بـ«الفاشيّة العتيقة» ذات النزعة التوتاليتاريّة). وعليه، يكون رودنسون منسجماً مع نفسه أكثر لو أنه عارض الدولة ذات الصفة الدينيّة المستعلية والمانحة للحظوات على أساس المولد، ولو كانت على سطح القمر.
لكن رودنسون يقدّم أقوى حجّة ضد الكيان الإسرائيلي ككيان استعماري استيطاني. لكنه وضع العنوان (في النص الفرنسي والإنكليزي) بصيغة سؤال، والجواب عنه لم يكن قاطعاً بما فيه الكفاية. إجابة رودنسون كانت أقرب إلى «نعم»، ولكن. أي إنه أعطى المستعمرين اليهود أسباباً تخفيفيّة لم يستحقّوها كمستعمرين. هو قدّم أقوى ردّ على الدعاية والمزاعم الصهيونيّة، لكنه قدّمَ أيضاً تفهماً غير مفهوم لوجهة النظر الصهيونيّة بعد إنشاء الكيان.


يتعامل رودنسون مع موضوع الوجود الصهيوني في فلسطين وفق معايير تمنحه أسباباً تخفيفيّة بسبب ١) الهجرة القسريّة بسبب الصعود النازي. ٢) بسبب الحالة الاشتراكيّة في الـ«يشوف»، آنذاك. ٣) بسبب ما يقوله عن شراء للأراضي. إذ يقول عن شراء الأراضي من اليهود إنه كان «لمصلحة الشاري وللنمو الزراعي للبلاد عامّة» (ص. ٨٧، من «إسرائيل: دولة»). ويضيف أنه لا يمكن نفي قانونية عمليّات البيع. لكن هذه الحجّة برمّتها لا تنفي — باعترافه — العمل الكولونيالي لإسرائيل. ولكن الموضوع خارج سياق المحاججة كلياً لعدة أسباب: ١) إن مسألة ملكية الأراضي في العهد العثماني لم تكن بناءً على رغبات وإرادات السكّان، بل بناءً على عمليّات تسجيل لأراضٍ كانت مشاعة ورافق التسجيل خوف من الفقراء ومن غير الأثرياء من إمكانيّة التجنيد، ما أعطى لأقليّة نافذة القدرة على سرقة الكثير من الأملاك. ٢) إن بيع الأراضي كان كثيراً من قبل الملّاك الغائبين من جنسيّات غير فلسطينيّة. ٣) يمكن التشكيك في قانونيّة عمليّات الشراء، لأنها جرت من قبل أقليّة قدِمت — أو غزت — أرض فلسطين من دون إذن السكّان المحليّين، وبقدرة مستعمر خارجي (الاستعمار العثماني ثم الاستعمار البريطاني). لو أن الشعب الفلسطيني كان يمارس سيادته على أرض، لما سمح لهذه الأعداد الكبيرة من المهاجرين اليهود بالقدوم إلى فلسطين (قبل الصعود النازي وبعده) والمباشرة بعمليات شراء أراضٍ من ضمن خطة للاستيلاء على فلسطين. ٤) السبب الأهم أن فلسطين لم تُبَع، بل سُرقت عنوةً. ورودنسون يستدرك ذلك.
العودة إلى كتابات رودنسون عن فلسطين تذكّر بزيادة تأريخية طرأت على الأسانيد التاريخيّة في الحق الفلسطيني. في كتابه المذكور، لا يفصّل رودنسون في أسباب هجرة الشعب الفلسطيني من أرضه. في الكتب التاريخيّة الصهيونيّة الجديدة، مثل كتابات العنصري بني مورس، هناك تسليم اليوم بعدم وجود شك في أن العصابات الصهيونيّة طبّقت خططاً محدّدة لطرد الشعب الفلسطيني من أرضه. وينفي رودنسون، مقارنةً بحالات استعمار أخرى، نيّة السيطرة على السكّان المحليّين من قبل المُستعمرين، إذ يقول إن هدف السيطرة الصهيونيّة كان ينصبّ على الأرض، لا على الشعب (ص. ٨٨، من «إسرائيل: دولة»،). لكن: أليس طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، واستخدام اليد العاملة الفلسطينيّة في العقود الأولى والتالية من عمر الدولة واحتلال الشعب في أراضٍ مختلفة من فلسطين سيطرة على للشعب الفلسطيني؟ والاحتلال نفسه: أليس استغلالاً وسيطرة؟ ثم إذا كان المُستعمر يسرق الأرض والمياه والثروات، أليس هذا استغلالاً وسيطرة، وكيف يمكن الفصل بين السيطرة على الأرض والشعب؟
يُدرج رودنسون في حديثه موضوع الطابع الاشتراكي لبعض تجمّعات الـ«يشوف»، كأن ذلك يُؤثّر في الحكم على استعمار فلسطين. والذهاب بعيداً في منح الصهاينة أحكاماً تخفيفيّة يرد أيضاً في حديثه عن التمييز العنصري ضد العرب في فلسطين المحتلّة بعد ١٩٤٨، إذ يقول: «لقد رأى الـ«يشوف» عن صواب أن الأقليّة العربيّة داخل حدودها هي طابور خامس محتمل. والإجراءات التمييزيّة ضدّهم نبعت منطقيّاً من هذه النظرة». (ص. ٧٦، «إسرائيل: دولة»). لكن ما المنطقي؟ أن تكنّ الأكثريّة (التي أصبحت أقليّة بسبب التهجير القسري العنفي) ولاءً للدولة التي تحتلّها والتي تمارس ضدّها شتى أنواع الاضطهاد؟ ويخطئ رودنسون في هذا التفسير التبريري، لأن الصهاينة بدأوا بإساءة معاملة السكّان المحليّين قبل إنشاء الدولة، إن من خلال «العمل العبري» (الذي استثناهم من المصالح الاقتصادية اليهوديّة)، أو من خلال ضرب السكان والتعامل العنصري معهم منذ أواخر القرن التاسع عشر، بشهادة مؤسّس «الصهيونيّة الثقافيّة»، أي أحد هاآم (الذي يستشهد به رودنسون).
وخلاصة أطروحته تتملّص من إصدار حكم عن مصير إسرائيل، بل تتنوّع في تقديم ذرائع التهرّب من ذلك. هو يصل إلى خلاصة مفادها أن على العرب تقرير سياساتهم نحو إسرائيل، لكنه لا يريد من الآخرين نصحهم بانتهاج «حلول عسكريّة». وبعد مرور سنوات على ثبوت بطلان الحل الديبلوماسي، كان رودنسون مخطئاً تاريخيّاً. ووضع القضيّة الفلسطينيّة في زمن المقاومة العسكريّة كان أفضل بكثير من اليوم، وكان يُعرض على قيادة منظمة التحرير أكثر مما لا يُعرض اليوم، ولم يكن ممكناً في السبعينيّات تجاهل التمثيل الفلسطيني بالكامل في مؤتمر عنهم كما حدث أخيراً في البحرين. ويقول رودنسون إن «المنهج الثوري» الفلسطيني أطلق العنان لـ«ردود فعل غريبة» (ص. ٩٣) لكن لماذا يكون لزاماً على حركة تحرّر وطني أن تقرّر سياساتها بناءً على ردود فعل الغير، خصوصاً أنه يقصد الغير الغربي، المعادي منذ البداية للقضية الفلسطينية. وهو سخر من الذين ينصحون الفلسطينيّين بالثوريّة عن بعد، فيما هو ينصحهم بعدم الثوريّة عن بعد.
ورودنسون يعترف بأنه أشهر معادٍ للصهيونيّة، لكنه يتبرّم من التعريف العربي لها — في حينه — الذي يعتبر كل من يقبل بأي وجود لكيان صهيوني على أرض فلسطين أنه صهيوني. وهذا التعريف دقيق للغاية، إذ إن الصهيونيّة هي في اعتبار الحق اليهودي على أرض فلسطين — على أيّ بقعة من فلسطين، صغرت أو كبرت — على أنه يتفوّق أخلاقيّاً وقانونيّاً أو واقعاً على الحق الفلسطيني في أرض فلسطين. وبهذا التعريف، يكون مشروع «السلام العربي» الذي اعتنقته كل الدول العربيّة (ورثاه جارد كوشنر أخيراً) مشروعاً صهيونيّاً لا لبس فيه، كما اتفاق أوسلو المشؤوم. والمواربة في موقف رودنسون، أو التأرجح، يعود إلى رفضه لما ورد في ميثاق منظمة التحرير (المُعدَّل في عام ١٩٦٨) الذي لا يقبل بوجود الصهيونيّة على أرض فلسطين. أي إن رودنسون بعد أن رافع على أن إسرائيل مشروع استعماري استيطاني، ساواه في الحلّ بمشروع الشعب الأصلي على أرض فلسطين.
ما يعطي صدقيّة لكتابات رودنسون عن الشرق الأوسط، أنه لا يعاني من العداء الاستشراقي التقليدي


يقول رودنسون «إن هناك مجموعتيْن إثنيّتيْن في نفس البلد… وإنه يجب تمثيل كلتا المجموعتيْن في مجتمعات متمايزة على الصعيد السياسي، وكل منهما يجب منحه حق الدفاع عن مصالحه وآماله» (من حديث رودنسون مع «شؤون فلسطينيّة»، المثبت في كتاب «كَلت وغيتو ودولة»، ص. ١٦٠). ويريد من العرب الاعتراف بوجود «الشعب الإسرائيلي»، لكن الاعتراف بهذا الوجود السياسي القسري — الذي لم يكن له أن يوجد من دون طرد الشعب الفلسطيني وسرقة أرضه — يعني نكران الشعب الفلسطيني لحقوقه والاعتراف بدونيّته. وبصريح العبارة، يقول رودنسون إنه «لا يمكن المرء أن يتحدّث إلا عن تعايش بين دولتيْن». (ويسوّغ رودنسون تناقض حلّه بالقول إن الحل الفلسطيني غير قابل للتطبيق على الإطلاق، ويستشهد في ذلك برأي جيرار شاليان، الخبير الفرنسي في شؤون العالم الثالث الذي بدأ كتاباته في أوائل السبعينيّات، متعاطفاً مع الثورة الفلسطينيّة قبل أن يتحوّل نحو المعاداة فيما بعد). ويعترض رودنسون، عن حق، على أن وضع الثورة الفلسطينيّة في سياق ثورات العالم الثالث يتناقض مع سعي قيادة منظمة التحرير لنيل تاييد أنظمة رجعيّة رأسماليّة، مثل النظام السعودي (ص. ٢١٧، من كتاب «كلت، غيتو، والدولة»). لكن هذا النقد لا يجب أن ينال من حقيقة أن النضال من أجل فلسطين لا يمكن إلا وأن يتوجّه أيضاً إلى الأنظمة الرجعيّة، وكان هذا موقف الجبهة الشعبيّة عند انطلاقتها، وإن شابه فيما بعد تحالف أو محاباة لأنظمة عربيّة رجعيّة أو متزيّنة بالتقدميّة. لكن رودنسون كان متعاطفاً مع موقف الجبهة الديموقراطيّة، لأنها برأيه الأكثر قبولاً لوجود «الشعب الإسرائيلي».
ماكسيم رودنسون يعرف الكثير عن تاريخ القضيّة الفلسطينيّة، وقد رواها بالتفصيل مع حجج مسندة في كتابه «إسرائيل والعرب». ويقرّ رودنسون بأنّ مشروع دولة إسرائيل كان يستحيل تطبيقه من دون تبنّيه من قبل دولة استعماريّة غربيّة، خصوصاً أميركا وبريطانيا وفرنسا. لكن مشروع إسرائيل هو استعماري بمعنى مزدوج: هو مشروع يمثّل ومثَّل استثماراً استعماريّاً إمبرياليّاً غربيّاً (وأثبت المشروع مثلاً جدواه في دعم طغاة أميركا في المنطقة وقتل معارضيهم)، وهو أيضاً مشروع استيطاني من قبل يهود غربيّين أوروبيّين ذوي عقليّة استعماريّة (لا يقلّل من عنصريّة هؤلاء المهاجرين ومن فكرهم الاستعماري أنّ فكرة الاستعمار لم تكن منبوذة في أوروبا، على ما يذكّر رودنسون في كتاباته، كأن ذلك يخفّف من وطأة الجريمة أو من معاناة شعب فلسطين). أما اليهود الشرقيّون الذين كانوا يتشاركون في عناصر من الثقافة واللغة مع السكّان الأصليّين، فكانوا هم أيضاً عرضة لعنصريّة اليهود الأوروبيّين الحاكمين.
والسكّان الأصليّون اعتبروا الغزاة الصهاينة مُستعمرين منذ البداية، والصهاينة لم يحجموا عن استعمال مصطلحات الاستعمار في أدبيّاتهم حتى في وثائق المؤتمر الصهيوني الأوّل في بازل، الذي تحدّث عن «استيطان» أو «استعمار» فلسطين. ورودنسون يقارن في كتابه «إسرائيل والعرب» بين الهجرة اليهوديّة والهجرة الأرمنيّة، على ما في المقارنة من ظلم فظيع للمهاجرين الأرمن. صحيح أن الأرمن حافظوا على ثقافتهم ولغتهم وهويّتهم (ص. ٣٢١، من «إسرائيل والعرب») لكنهم لم يأتوا بالسلاح، ولم يقطنوا في أرض بعد أن طردوا منها سكّانها وسلبوهم منازلهم ومزارعهم. ولم يكن اللجوء الأرمني (كما اللجوء الفلسطيني في عام ١٩٤٨ واللجوء السوري في السنوات الأخيرة) إلا هرباً من اضطهاد وحرب. اللاجئون اليهود من أوروبا أتوا هرباً من ظلم فظيع لحق بهم في أوروبا، لكن من دون أدنى اعتراف بحقوق السكان الأصليّين. ورودنسون منصف ويميّز بين الحالتيْن، ويقرّ أيضاً بأنّ العداء العربي للهجرة اليهوديّة لم ينمُ أو يرتفع في الحدة إلا بعد ارتباطه بالمشروع السياسي الصهيوني.
وما يعطي صدقيّة لكتابات رودنسون عن الشرق الأوسط، أنه لا يعاني من العداء الاستشراقي التقليدي (عن جهل كما في حالة رافائيل باتاي أو عن عنصريّة وعداء سياسي كما في حالة برنار لويس)، ولا يعاني أيضاً من التعاطف الاعتذاري الذي يأخذ عند بعض الخبراء الغربيّين شكل الاعتذاريّة أو الدفاع عن أنظمة أو التغطية عن جوانب سلبيّة في التاريخ الإسلامي. رودنسون لم يرتدع عن انتقاد الأنظمة العربيّة وما رآه من «فاشيّة» الإخوان المسلمين أو من وضع غير المسلمين غير المتساوي في التاريخ الإسلامي. هو يقول إن وضع الأقليّات لم يكن مثاليّاً كما يُصوّر في كتابات التعاطف الإسلامي والعربي، ولم تكن في المقابل اضطهاداً وحشيّاً ومستمراً، كما يُصوّر دعاة الصهيونيّة.
لا أريد من نقدي لموقف رودنسون أن أدعو إلى إهمال كتاباته. لم يؤثّر في نظرتي إلى دراسات العالم العربي والإسلام أكثر من مؤلّفات هذا الرجل ذي الأسلوب الأخّاذ والفريد. وما زلت اقترح كتبه على طلاب الصف الأوّل في دراسات الشرق الأوسط في الجامعة هنا (وللجمهور العربي العام). لكن مواقفه من وجود إسرائيل وقعت في تناقض: هو اعترف بالظلم التاريخي الفظيع الذي لحق بشعب فلسطين من جراء الاستعمار الصهيوني، لكنه ينصح بحلّ سلمي قائم على الدولتيْن: أي يريد تصالحاً دائماً مع الظلم. لكنني أفضّل أن أسترشد بما ورد في كتابه «إسرائيل والعرب»: «إن إمكانيّة تحقيق النصر الكامل للعرب ضد إسرائيل يوماً ما ليس مستحيلاً. إنّ التفوّق العسكري الإسرائيلي لن يدوم إلى الأبد» (ص. ٣٥٢، «إسرائيل والعرب»). كذلك إن دحضه للرواية الصهيونيّة لا يزال مفيداً للغاية، ويمكن العودة إليه دائماً. فلنعدْ إليه — وإن بتحفّظ.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)