«لا رجعيّة ولا إخوان... ولا تجارة في الأديان» شعار أطلقه جمهور من النساء والرجال أثناء خطاب الرئيس جمال عبد الناصر، 1965

«ماذا تعني الصحوة الإسلامية هنا؟ إن السلفيّة الحالية لا تتبعُ الغرب أيديولوجيّاً بل اقتصاديّاً. والاقتصادُ الواحد قد تكونُ لهُ عدّة أيديولوجيّات بمقدار ما نأخذ الشكل الاعتقادي الذي يمكن أن يتكيّف مع أيّ نسق سياسي - اقتصادي. ويرجع الاستتباع السلفي للغرب إلى ما بعد اندحارِ المقاومة الإسلاميّة الأولى أمام الاستعمار الغربي، حيث وجد الاقتصاد الرأسمالي مسارب سالكة لاحتلال مواقع الاقتصاد السلفي المغلق».
هادي العلوي، «فصول من تاريخ الإسلام السياسي»

ملاحظة أولى، يجب علينا أن نحدّد كحركة وطنية عربية أو كأفراد وطنيين عرب، ما نعنيه بـ«الإسلام السياسي»، كي نستطيع أن نفهم العلاقات التي أنتجت الممارسات الاجتماعية والسياسية من منظور فقهي إسلامي أحادي وضيق، ولا نقصد بذلك الممارساتِ الطقوسية الدينية، بل الممارسات التي تكوّنت من خلال الأدوات «الحداثية»، وفي ظلّ الاحتكاك مع الاستعمار الأوروبيّ. ونفصل عن «الإسلام السياسي» تشكّلات مجموعات المقاومة التي تعتمد على التراث العربيّ الإسلامي التي ظهرت بالأساس في المغرب العربي، وبين مجموعات تعاونت مع المُستعمِر، ونحدّد ذلك عبر المواقعِ الاجتماعية في كلّ من المناطق واحتكاكها مع المُستعمِر. من هنا معيارنا؛ المُمارسات الاجتماعية والسياسية الإسلامية التي تخدم المُستعمِر من خلال ثلاثة أمور: تفكيك النضال، التبعية المعرفية والتبعية السياسية، (سنعرضُها في المُلاحظات القادمة بشكل مفصّل).
ملاحظة ثانية، الفصل بين «الإسلام السياسي» ولاهوت التحرير المسلم، هو أمر ضروريّ للحركة الوطنية العربية. فصل قد تنبّه له جمال عبد الناصر، في حقبته السياسية المعادية للاستعمار والتي تدعو لبناء دولة عربية مستقلة، بمعنى الانتباه إلى الدعوات التكفيريّة أو المعادية للمجتمعات أي وسمها بأنها ليست مسلمة بما يكفي وآثمة. فرق واضح بين دعوة عبد الكريم الخطابي وحسن البنّا، وفي المقابل نجد فرقاً بين أدبيات حسن البنّا وسيد قطب، ولكن سؤالنا هل القواعد التي وضعها حسن البنّا لا تؤدي بالضرورة إلى أدبيات سيد قطب؟
سنحاول أن نجد الشبكة الإسلامية السياسية التي تنتج بالضرورة سيد قطب، ونرسم شبكة أخرى للاهوت التحرير المسلم، ونضع فاصلاً بينهما. نجد بعد المعارك الشديدة التي قادتها القبائل الريفية في المغرب العربي، تحت قيادة محمد عبد الكريم الخطابي ونجاحها في دحر المستعمِر الإسباني والفرنسي، وإثر ذلك قامت «جمهوريّة الريف». خلال عقده اجتماعاً من أجل وضعِ الدستور، قال الخطابي: «لا حرية دون دستور. ليس هناك من دستور إلا الدستور الوطني الذي تضعه الأمة بنفسها ولنفسها. إن الدستور الشرعي لبلد ما، لا يمكن أن تصيغه إلا لجنة أو هيئة منتخبة تمثل مختلف الطبقات الشعبية تمثيلاً صادقاً وأصيلاً...». وهنا نلتفت إلى كلمات ومشروع عبد الكريم الخطابي الأب وأيضاً الابن، بأن المشروعِ السياسي للوطنِ مستمَّد من الشعب، وفي صلبه مفهوم الاستقلال، دون التطرق إلى الإسلام كمشروع سياسي، بل كثقافة ودين تمدُّنا وتصبّ فينا دافع المقاومة، دون تحديدها واختزالها بضيقِ مذهب أو ممارسةٍ اجتماعية أو مشروع سياسيّ إسلاميّ، سَتخدمُ الاستعمار بالضرورة، كونها تقبلُ بالفرضيّات المعرفيّة الاستشراقيّة.
ملاحظة ثالثة، شبكة المفاهيم أو العلاقات الاجتماعيّة التي نضعها من أجل تعريف «الإسلام السياسي»، ونفصلُها بذلك عن لاهوت التحرير المسلم، هي مفاهيم تشكلت لتُعيق تحرّر الشعوب واستقلالها. نود في البداية الالتفات إلى الظروف الاجتماعية (أثناء الاحتكاك مع المُستعمِر) التي تُنتج أشكال «الإسلام السياسي» التي تتفرّع من ذات شبكة المفاهيم والظروف الاجتماعية، شكلهم الطبقي الذي يُتيح لهم أن يتعاونوا مع المُستعمِر طالما لا يضر في مصالحهِم أو مشروعِهم، رجال ودعاة ومعلّمون من الطبقةِ الوسطى الذين لا تعنيهم مشاكل أو غير مدركين لمعنى الأرض في الريفِ المصري مثلاً، يعارضون ذلكَ منذ الإصلاحِ الزراعي لثورةِ يوليو. لم يكن مشروعهم السياسيّ يتمحور حول قضايا مادية للشعبِ المصري والشعوب العربية، ذا «نمط إنتاج فلاحي». «الإسلام السياسي» في شكلهِ الاجتماعي والمفاهيمي يمكنه اختراق المُستعمِر؛ بما أنّ مركز الاستغلال يكمنُ في الأرض، وتقسيم العمل على مستوى العالم، فهذهِ الأمور هي هامشيّة تجاه الإسلام السياسيّ. فمن خلال القبول بالفرضيات المعرفية التي تشكلت في المخابر الاستشراقية للمُستعمِر وأيضاً المشروع السياسي باعتماده على الثقافة والدين، لن يكون بالضرورة على عداوةٍ مع مصالح المُستعمِر طالما لا يعتمد على أساسات مادّية. يتبيّن لنا ذلك منذ العلاقة الأولى الماليّة وأيضاً السياسيّة، منذ 1942 بعد خروجِ حسن البنّا من السجنِ وإغلاق الصحف والمجلات. قبِل حسن البنّا بالمساعدات البريطانية على أساس التعاون، وهنا مهّدت بريطانيا لإعادة نشر الصحف والمقالات بكثافة، التي تدعو إلى «الإسلام السياسي» ضمن بنود الدعم المعلوماتي لها، وتكفير وإقصاء الجهات الاشتراكيّة والشيوعيّة والوطنية في مصر وأيضاً لتكون أداة مسلّحة تضرب كل الجهاتِ المعارضة في مصر. وقد ارتكب أفراد من «الإخوان المسلمين» اغتيالاتٍ عدّة في تلكَ الفترة، وهذا ما أقصده في الأدواتِ «الحداثية»؛ الصحافة والسلاح. نجدُ ذلك في كتاب كشف فيهِ الصحافي والمؤرخ مارك كورتيس العلاقات البريطانية وتكثيف المُمارسة والقُدرة والتأثير عند نُشطاء وجمعيّات «الإسلام السياسي» على الشعب المصري، في كتابهِ «الشؤون السريّة: تواطؤ بريطانيا مع الإسلام السياسي».
الطروحات الاقتصادية التي يتحدث عنها «الاسلام السياسي» لا تُعالج المسائل الأولى والأكثر أهميّة على المساوة والتوزيع العادل


ملاحظة رابعة، التبعية المعرفية، هي تبعية مادية. بمعنى أثرُ المعرفة علينا وتشكّلات منظورنا للعالم بالضرورة، ستكون لها تبعات في الممارسات والسلوكيات الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، وسنبقى قابعين تحت الاستعمار والهيمنة الأجنبية. في حوارٍ مع الباحث في الاستعمار والهيمنة المعرفية الأوروبية رومان غروسفوغل، تطرق فيه إلى الأصوليات المحلية كجزء أساسي للهيمنة المعرفية الأوروبية أو ما يُطلق عليه «الأورومركزية» يقول:
«صحيحٌ أن الديمقراطية غربية وأنها لا تُناسبني، إذن سأدافع عن الملكية المطلقة (وهذا هو منطق ابن لادن)، وأن المساواة ليست من خصوصياتي الثقافية إذن سأساند اللامساواة، وأن حقوق المرأة هي قيمة غربية إذن على المرأة أن تكون مطيعة للرجل... هذه التصورات ليست سوى كاريكاتور لمزاعم وافتراضات مُعاكسة للتفوق، تنتزع نفس افتراضات الخطاب الأورومركزي فتحافظ عليها ثم تؤكد غيريتها، وأنها في اتجاه آخر، بمعنى أنها اتجاهات متباينة لذات المشكلة الأورومركزية، وشخصياً أعتقد أن ابن لادن هو أصولي أورومركزي تماماً كما هو حال هابرماس؛ فكلاهما مشدودان لذات مسلّمات التفكير الغربي».

الهيمنة المعرفية
تكوّنت عملية إنتاج معرفة محلية عند المُستعمَرين، من خلالِ القبول بالفرضيات المؤسسة للمركزية الغربية. ومن خلال ذلك، تشكّلت أصوليات محلية، تُثبت الهيمنة الغربية والأصولية الأوروبية، وهي الأشد خطراً. من هنا نستطيع أن نرى تطوّر «الإسلام السياسي» كحالة معرفية تقبل بجميعِ فرضيات «الأورومركزيّة» عن التاريخِ العربيّ أو العلاقات والممارسات الاجتماعية والسياسية. في مسألة الديمقراطية، الاقتصاد، الجنسانيّة وإلخ، نجد في أدبيات «الإسلام السياسي» منذ البداية قبولاً للهيمنة المعرفية، عبر عدة خطوات منذُ بداية القرن العشرين، تمّ فيها إعداد وتشكيل بنية خطاب «الإسلاميين»؛ في البداية مفهوم «الكونية الإسلامية» بمعنى القبول بالفرضية الغربية بشكل مُعاكس، من خلال النظر إلى التاريخ بأثرٍ رجعيّ، بأن الإسلام كدين وتاريخ ومقدسات بإمكانه فرض ذاته على العالم أجمع، كممارسات وطقوس وعلاقات وميكانيكيات سياسية واقتصادية وظهرت له مميزات خاصة يستطيع أن يُصلحَ بها كل الخراب عند الشعوب والديانات... هذه الخطوة ظهرت عند المؤسس حسن البنّا في ظل الرعاية البريطانية. أهمية هذه الخطوة في السيرِ نحو التبعية بأنها تؤسس، في ظل علاقات قوة لصالحِ المُستعمِر، لخطاب ليس له معاني أو أجوبة حقيقيّة مادية نحو القضية الملحّة وهي الاستقلال الوطني المصري والعربي، ويُخفي أيضاً الكثير من الأسئلة الضروريّة الراهنة كما حدث في مصر مطلع القرن العشرين.
على هامش الملاحظة، ننظرُ إلى حالة إيران، التي تشكّل فيها «لاهوت التحرير المسلم» في البداية، وصلها مع الحركات الوطنيّة والاشتراكيّة في فترة بعد الحرب العالميّة الثانية حتى الانقلاب في عام 1951، وأيضاً بناء الجمهوريّة الإسلاميّة على أساس الاستقلال والتنمية، بمعنى أن الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران فيها حتى اليوم أثر استعماري في مجالاتٍ اجتماعية، تنظرُ إليها قيادات الجمهورية بعين «أورومركزيّة معكوسة» كما يُسمّيها سمير أمين، ولكن لم يمنعها ذلك من تحقيق الاستقلال، ويعود ذلك إلى الكثير من أدبيّات «لاهوت التحرير المُسلم»؛ علي شريعتي، وأحمد جلالي وإلى حدّ كبير الخُميني التي تأسست عليها الثورة الإسلاميّة الإيرانية.
الخطوة التالية في الطروحات حول «الاقتصاد الإسلامي» تنطلق من الفرضية بأن النظام الاجتماعي ينبثق عن التصور العقائدي، لذا فالعلاقات بين الطبيعة والإنسان والمجتمع يجب أن تكون من أجل غاية الوجود الإنساني، كما يتبين في الدين السماوي، والقصدُ هنا الإسلام. والإشكالية نراها بالأساس، خدمة للمُستعمِر عبر تشكيل مفاهيم غيبية للجواب على علاقات القوة، والهيمنة والنهب.
وأيضا سؤالُ الرأسمالية والعلاقات الاستعمارية، يتمّ التغاضي عنهُ أو تهميش السؤال المركزي، حول جذور الاستعمار وتعدديّة الهيمنة الاجتماعية، المعرفية والسياسية، أو حتى يتم إدخال الكثير من المفاهيم الاستعمارية والاستشراقية كمعرفةٍ عربية إسلامية. كما في أدبيات الإسلام السياسي، بأن الشعوب العربية والفارسية والتركية وغيرها، تتميز بسمات «المُجتمع المسلم» كتعبيرٍ مجرد ليس لهُ صلة في الواقعِ وتناقضاتنا الثقافية والاقتصادية وحياتِنا الاجتماعية والسياسية. بل النظر إلينا ككتلةٍ واحدة وأمة واحدة تحتَ «شريعة الله» وهذا يُذكّرنا بتحليلات وكتابات المستشرقين وخاصة في الأجهزة الاستعمارية، مثل برنارد لويس حديثاً، وسابقاً ارنست رينان.

الطروحات الاقتصادية والاجتماعية
الطروحات الاقتصادية التي يتحدث عنها «الإسلام السياسي» لا تُعالج المسائل الأولى والأكثر أهميّة على المساواة والتوزيع العادل مثل «الملكيّة الخاصة لوسائل الإنتاج» و«نظام الضريبة»، بل تطرح لها حلولاً وفق الاقتصاد الكلاسيكيّ، وأحياناً أخرى اقتصاد نيو-ليبرالي كما ناقش ذلك تاريخياً، المفكّر سعيد ناشيد، وحديثاً وضعَ وائل جمال الباحث الاقتصادي، مقولة أن سياسات «الإسلام السياسي» الاقتصاديّة الراهنة هي في صُلب النيو-ليبراليّة. وفي ظلّ علاقات القوة والتقسيمات العالميّة ستبقى الشعوب الإسلامية خاضعة وتابعة للاستعمار. وفي طروحاتِ سمير أمين، نجده يقول إن ميزان القوّة الراهن، يُحتّم علينا كعالم ثالث، التوجّه نحو الاشتراكيّة الاتحادية بين الدول المُستقلة النامية، لتُحافظ على استقلالِها وحرية شعوبِها.
الفرضية الثالثة عندَ «الإسلام السياسي» هي «الهيراركيّات الاجتماعية» في مجالات الطبقة والجندر بالتحديد. في التاريخِ العربي الإسلامي نمت أشكال متنوعة من الهيراركيّات ولكن لم تكن بذات الحدّة والتقسيم كما كانت في غرب أوروبا، وسببُ ذلك يعود للشكل القبليّ في الحياة الاجتماعية العربية في إطار الجغرافيا الفسيحة التي امتدت عليها السلطة السياسية الإسلامية. ولكن كما يذكر المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل بأن التقسيمات الاجتماعية العائلية الجندرية والطبقية في أوروبا أتاحت المجال للرأسماليّة ولنمو الطبقة البرجوازيّة الأمر الذي لم يحدث في التاريخ العربيّ أو الصين مثلاً لعدم وجود تقسيماتٍ اجتماعيّة. تُضيف جوديث تاكر في عملها البحثيّ حول الهيراركيّات الجندرية في جبل لبنان ومصر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بأنّ النساء كنّ يملكن ورشات في النسيج وإنتاجِ الملابس القُطنيّة وحرفٍ أخرى، ووفقَ السجلات العُثمانية لاحظت بأن النساء مُنخرطات في الحياةِ الاقتصاديّة والقانونيّة. وحددت بدء التغيير مع الغزو الاستعماريّ للسوق والاقتصاد والمجتمع وتحطيم الحرف المحليّة والورشات، ومع اختراق الاستعمارِ البريطانيّ والفرنسيّ المنظومة الأخلاقيّة للمجتمعات العربيّة التي لم تكن تُبدي تحقيراً أو إهانة للفعل المثلي في الجنسِ، بل كما يقول المؤرخ سليم كيداوي بأن الشعر عند أبي نوّاس وأيضاً الفارسي سعدي الشيرازي كانَ يُدرّس حتى بدايةِ القرن العشرين، والقانون العُثماني في عامِ 1858 لم يُجرّم الفعل المثلي لذاتهِ. أما في ظلّ الاستعمار البريطاني والأوروبي بشكلٍ عام، فكان المثليون يلاحَقون وتمارَس عليهم أساليب التعذيب وحتى القتل.
لذلك ما نجدهُ عند «الإسلام السياسي» في التأكيد على الهيراركيّات الاستعمارية، في الجندر؛ المحافظة على تقسيم المجتمع بين النساء والرجال على أساساتٍ اقتصادية وقانونية، كما يظهرُ في البرامجِ وأدبيّات مُفكرين يُحافظون على التقسيمات الاجتماعية بأشكالٍ عديدة ومجالات العمل، القضاء، الاقتصاد والسياسة. في الطبقة؛ الحفاظ على التقسيمات الطبقية التي وضعها الاستعمار في مجالاتٍ كثيرة وعدم معالجتها. بل عقد «الإسلام السياسي» اتفاقات وحلفاً مع الطبقة التي وضعها الاستعمار في شبه الجزيرةِ العربية، إذ كان التعاون مع الدولة السعوديّة في فترات كثيرة منذُ الأربعينيات ونستطيع أن نسرد الكثير من الأمثلة ولكن تضيق بنا مساحة المقالة. وفي الفترة الأخيرة بعد عام 2011 نرى بشكلٍ واضح وجلي سياساتِ «الإسلام السياسي» في تونس ومصر والمغرب أيضاً، بعد وصوله إلى مواقع الهيمنة. لم نرَ تغييراً أو برنامجاً أو اقتراحات دستورية تقضي على احتكار الشركات الأجنبيّة أو الطبقات المحلية التي تخدم «رأس المال العالمي» بل عكس ذلك، وجدنا تشجيعاً في تونس على قروض البنكِ الدولي، وفي مصر أيضاً، ما يُعيد إنتاجِ الهيمنة والتبعية.

السعودية كانت الموطن لجميعِ «الإسلاميين» بعد خلافهم مع الدول الوطنية


مُلاحظة خامسة، سنعود إلى الشبكةِ الاجتماعيّة التي تُنتج «الإسلام السياسي» بمعنى أن نحدد العلاقات التي يتميز بها عن شبكة لاهوت التحرير المُسلم، ونستطيع بذلك استعادة وإنتاجِ شبكاتٍ سياسية واجتماعية تُتيح للمُجتمعاتِ الإسلامية التحرّر من خلاله. الفرضيات الثلاث التي تحدثتُ عنها، يتم إنتاجُها من خلال الخطاب الذي يتأسس على العُنصرية والعدائية والعُنف تجاه المُجتمع. الخطاب الديني الغوغائيّ، على حد قول المؤرخ والفيلسوف هادي العلوي؛ كان دائماً موجوداً في الحضارة العربية، في سياقات مختلفة وظروف مادية أخرى، وبذلك فصلَ بين التدين العمومي للناس، كونهم دائماً كانوا يعبدون الله ويقومون بالطقوسِ، وفي المُقابل يشربون الخمر وإلخ. أما عن الغوغائية الدينية التي ظهرت بالأساس في المُدن الرئيسية، القاهرة بغداد ودمشق، مثلاً يذكرنا بأن من رجمَ الحلاج هُم غوغائية الحنابلة، ومن منعَ القُطب الصوفي ابن سبعين من الإقامةِ في مصر، ليس الجماهيرُ المسلمة، بل بعضُ الغوغائية من رجالِ الدين وأتباعهم. الفصلُ الذي يقفُ عليهِ هادي العلوي مهم ولكن ليس كافياً بما أن العلاقات الاجتماعية اليوم، هي علاقاتٌ رأسمالية استعمارية.
خطاب «الإسلام السياسي» وصياغة شبكته الاجتماعية، من خلال العلاقة (رجل الدين - السُلطة المحلية - الاستعمار) التي تم إنشاؤها في شبه الجزيرة العربيّة. في مجموعة الوثائق البريطانية بين 1798 - 1932 تم الكشف عن العلاقات بين المُستعمِر البريطاني والعائلةِ السعودية وأيضاً رجل الدين محمد بن عبد الوهاب، واستغلال المُستعمِر له، ودعمِ السلطة المحلية ليكون لها تأثير وتبني بذلكَ بُنية اجتماعية واقتصادية وأيديولوجية. وتُظهر الوثائق بأن السُلطةِ المحليّة كانت أيضاً بحاجة إلى تلك العلاقات والشرعيّة الدولية من المُستعمر. وفي إطار تكوين الدولة السعودية في مراحلها وتطوراتها، لتكون منبع تشكلات «الإسلام السياسي» ليُقدم الخدمات الاستعمارية في التفتيت والتكفير والعُنف المحلي. والدولة السعودية منذُ تأسيسها، هي موطن «الإسلام السياسي» ونشرت خطاباً يعتمدُ على التُراث العربيّ والإسلاميّ ليُقدم الخدمات الاستعمارية بمعنى أنّها حطمت بقوتها السياسية والاقتصادية أشكال لاهوت التحرير المُسلم واحتكرت التُراث العربي.
منذُ بداياتِ القرنِ العشرين بدأت العلاقات بين «الإسلام السياسي» (في هذه المرحلة «الإخوان المسلمون») مع الدولة السعودية كما يقول الباحث في جامعةِ برينستون مايك كليفنتون، وسبب ذلك يعود، إلى أن حسن البنّا و«الإخوان المسلمين» لديهم هدفٌ لمُحاربة القوى الأجنبية والاستعمار، وفي المُقابل العمل على إقامة الدول الإسلاميّة التي تُقيم «الشريعة» على أساس الفرضيات الثلاث «الأورومركزيّة».
مفهوم «الشريعة» على أساس فرضيات استعمارية سيقود بالضرورة إلى عدم الفصلِ بين دولٍ متوافقة مع المُستعمِر ودولٍ أخرى مُعادية للمُستعمِر. الدولة السعودية كانت الموطن لجميعِ «الإسلاميين» بعد خلافهم مع الدول الوطنية التي تأسست على العداء ومُحاربة المُستعمِر والإصلاحاتِ الزراعية والاجتماعية... من هنا نرى عدم إمكانية التوافق مع الجمهورية المصرية بعد 1952 وتوافقهم مع الدولة السعودية، التي عملت على تجنيدهم الإعلامي والدعائي، في فترةِ الحرب العربية الباردة بين وُكلاء المُستعمِر البريطاني والأميركي، ومُحاربي الاستعمار كما نرى في مقالة للباحث في العسكرية الأميركيّة مايك كليفنتون.
مُلاحظة سادسة، عمليّة إنشاء الشبكة الاجتماعيّة التي تُتيح صياغةِ أشكال عديدة من «الإسلام السياسي»، هي علاقات مُعقدة بين خطاب يقوم على فرضيّات «الأورومركزيّة» الاستعماريّة لا يُمكن فهمها بمعزل عن بناء سياسيّ واقتصاديّ تأسس من أجل وعبرَ المُستعمِر؛ الدولةِ السعوديّة. سنحاول من خلال حفرنا المعرفيّ بين الرُكام التاريخيّ منذ القرن التاسع عشر أن نجد ونُعيد إنتاجِ شبكة اجتماعيّة تعتمدُ على التُراثِ العربيّ؛ «لاهوت التحرير المُسلم».
أختارُ كلمة «مسلم» عن قصد، لكي نُميّزها عن «الإسلاميّ» الذي يحملُ مشروعاً سياسياً حديثاً يقوم على الفرضيات الثلاث الاستعمارية، وأقولُ بأن هذه الفرضيات الثلاث بحاجة إلى عمل بحثيّ خاصّ وأيضاً توضيح بأن سياقها السياسيّ هو ما يجعلها على توافق مع السياسات الاستعماريّة. لاهوت التحرير الذي نتحدّثُ عنهُ هو تجديد وثورة اجتماعيّة اقتصاديّة وسياسيّة على العلاقات الاستعماريّة وما يمتازُ بهِ «لاهوت التحرير المُسلم» بأنهُ وضع أساساً مادياً لبدءِ عملية التغيير في المجتمعات المسلمة؛ دحر الاستعمار ومُعاداة الوكيل المحليّ المُستبدّ، دون التقيد بـ«الشريعة» كما في خطاب «الإسلام السياسي».
الشبكة الاجتماعية التي تأسست على تحرير الوطن وإقامة دستور وحكومة وطنية، من الأمة ولأجلها كما تحدث الخطابي في الريف المغربي. هذه الشبكة الاجتماعيّة تتميز بأنها تبلورت من خلال الواقعِ الاجتماعي للشعوب، ورفض الفرضيات «الأورومركزية» ورفض التعاون مع وكلاء الاستعمار، ليكونوا «مُرتزقة المعرفة المحلية» كما حصل مع مُحمد بن عبد الوهاب وأيضاً سيد قطب وآخرين... آليّات التكفير الاجتماعيّة، وتأسيس خطاب العنف المحلي، وبذلكَ تفكيك للنضال وتفتيتٌ للإمكانيّات العسكريّة، وأيضاً مُعاداة الحركاتِ التحرريّة والخصام معها لكونها «علمانيّة» أو بسبب رفضها «الشريعة».
الشبكة الاجتماعية التي بدأت منذُ نهايات القرن التاسع عشر، عند قدوم جمال الدين الأفغاني لمصر، ومُبادرته لحلقات تجمعُ الشُعراء والأدباء ورجال دين، تنخرطُ بقضايا المُجتمعِ المصري الريفي بالأساس، الذي حمل على عاتقه أجر تبعيّة مصر للدولِ الغربيّة، فرنسا وبريطانيا. هذه الحلقات هي بداية شبكة اجتماعية تقومُ على أساس التُراث العربي والدين، وتشكّلات الخطاب المُسلم المُعادي للاستعمار والتفكير في قضايا التجديد وبناء الدولة المُستقلة. وفي عامِ الغزو البريطاني، نرى عند عبد الله النديم، مركزيّة العسكريّة العربيّة في الدفاعِ عن الوطن، وأيضاً التنديد بالاستبداد الملكي: «وأعلنتُ حب العسكر والتعويل عليهم، وناديتُ بانضمام الجموع إليهم، وأوغلتُ في البلاد ونددت بالاستبداد، وتوسعت في الكلام، وبيّنت مثالب الحكام الظُلام، لا أعرفهم إلا بالجهلة الأسافل، ولا أبالي بهم وهم ملء المحافل»، ودعوته لتشييد حكومة وطنيّة على مبدأ المُساواة والشورى. وكان عبد الله النديم مفكّر وخطيب الثورة العُرابيّة ضد الإمبرياليّة البريطانيّة وأيضاً ضد الاستبداد المحلّي. وفي كتاب هادي العلوي «فصول من تاريخ الإسلام السياسي» يرى الكاتب بأن جمال الدين الأفغاني قد استطاع صياغة منظور سياسيّ حديث دون الانجرارِ وراء المُستعمِر، ويستلهمُ التُراث العربيّ، ويسعى إلى الاقتصاد الاشتراكيّ لضمانِ حقوق المُجتمعات الإسلاميّة.
وفي منظورِ هادي العلوي نجد ملامح الشبكة الاجتماعيّة التي تُنتج «الإسلام السياسي»؛ أولاً، الاقتصاد الرأسماليّ وشكله الكولنياليّ في مجتمعاتنا، مما يُساهم في تشكيل ودعم الحركات الإسلاميّة، السلفيّة منها والمُعتدلة، بما أنّ الاستعمار والدول التابعة في الخليج هي التي تُقدم هذه الخدمات المعرفيّة والمادّية.
ثانياً، الدعوة إلى الحُكم الدينيّ وتعدد أشكاله القمعيّة والقهريّة أو الدعوة إلى حكم الله «الشريعة» كما نجدُها في مؤلفات المُستشرقين عن المجتمعات العربية والمجتمعات غير-الأوروبية. من هُنا نستطيع أن نرى تميّز «لاهوت التحرير المُسلم»، في الدعوة إلى تنظيمٍ اقتصادي اشتراكي أو تعاوني مشاعي يكون ضمانة الاستقلال، ومنهم محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وآخرون. نضالهم يعتمد على التراث من أجل تحقيق غايات تحرريّة. وهُنا تحديدُنا للغايةِ الأساسيّة المادّية، نمنع بذلك إمكانيّات تفكيك النضال، أو الانجرار وراء المُستعمِر ووكيله المحليّ.
* كاتب فلسطيني