لا تمثّل الهوية الدينية لجاريد كوشنر عرّاب "صفقة القرن" مشكلة بحد ذاتها. المكان الذي يقف فيه هو المشكلة، الجانب المظلم في التاريخ. في التاريخ اليهودي أحداث ومآس، لا ذنب لنا فيها، دفع ثمنها نفياً للوجود الإنساني. جرى توظيف المأساة اليهودية قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها لإعادة رسم خرائط المنطقة وموازين القوى فيها تحكّماً في مصائرها على حساب شعب آخر، انتزعت أراضيه بقوة السلاح والتهجير القسري عام (1948) وبنيت على أنقاض حقوقه دولة عنصرية نفت وجوده الإنساني."صفقة القرن" تجلّ صريح لما أطلق عليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب "سلام القوة" ــــ هكذا بلا أدنى مساحيق تجميل سياسية. لا يتمتع كوشنر بأي سجل يؤهله لإدارة أكثر الأزمات الدولية تعقيدًا سوى مصاهرته للرئيس الأميركي ترامب، كأن البيت الأبيض من ضمن ممتلكاته الشخصية والعائلية، كما اعتقاده أن الوقت حان لإنهاء القضية الفلسطينية وفق أكثر الأفكار الصهيونية تشدداً، مقابل بعض الوعود الاقتصادية لتحسين مستويات المعيشة. وتلك نظرة عنصرية مفرطة، تفتقر إلى أية قيم إنسانية، أو أي صدى لأزمات الضمير.
لم تحل الهوية الدينية لألبرت أينشتاين، صاحب نظرية النسبية، من شعوره بأزمة ضمير بين تعاطفه مع أن يكون لليهود وطن لا يضطهدهم فيه أحد وبين ألا يضطهدوا هم أحدًا آخر، فعرب فلسطين لهم حق في الوطن الوحيد الذي يعرفونه ولا يستطيع أحد أن ينكره عليهم ــــ كما نقل عنه عام (1952) الصحافي الشاب محمد حسنين هيكل.
أزمة الضمير نفسها عانتها شخصيات فكرية يهودية تعيش في الغرب، غير أنها طورت مواقفها من الحديث عن حقّين متعارضين إلى مناهضة الطبيعة العنصرية للمشروع الصهيوني؛ أبرزهم العالم الأميركي ناعوم تشومسكي. وقد ربطت صلات خاصة الصحافي الفرنسي اليهودي من أصل مصري إريك رولو بالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. بسبب ما كتبه رولو عن القضية الفلسطينية، تعرّض لحملات استهدفته من لوبيات صهيونية ترددت فيها عبارة: "اليهودي الوحيد الذي يؤيد عبد الناصر". في فبراير (٢٠٠٧)، أعلنت مؤسسة محمد حسنين هيكل عن استضافة الصحافي الأميركي سيمور هيرش لإلقاء ثلاث محاضرات عن "صحافة الاستقصاء"، أو "صحافة العمق"، وفي سجلّ الأخير خبطات صحافية نشرتها "نيويورك تايمز" و"نيويوركر"، كان آخرها في ذلك الوقت تحقيقًا موثقًا عن "الخطة السرية لوكالة الاستخبارات الأميركية للهجوم على إيران"، كما أفضت إحدى خبطاته إلى إطاحة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، وهو مجرم حرب بأي معنى إنساني أو قانوني. رغم ذلك كلّه، فقد كان اسم هيكل وحده كافيًا لإثارة حملة حول هيرش وديانته اليهودية. قبل أن يبدأ الضيف محاضرته عن احتمالات الحرب على إيران، تحدّث هيكل في كلمة مقتضبة ودالّة من فوق منصّة قاعة "إيوارت" بالجامعة الأميركية امتلأت بصحافيين كبار وسفراء غربيين وأكاديميين ووزراء سابقين وطلاب من الجامعة نفسها وقال: "فوجئنا بأبواب عديدة توصد أمامنا، وأنا لا أريد أن أشير إلى ما لا يلزم ــــ ربما لا يستحق ــــ الإشارة إليه، لكن من حق الجامعة الأميركية عليّ أن أقول إنها، وإن لم تكن مقصدنا الأول، أصبحت ــــ مع إحساسها بمعنى الحق في المعرفة ــــ ملجأنا الأخير (...) ومع أن قاعات مكتبة القاهرة مفتوحة لمناسبات كثيرة متعددة الاهتمامات، إلا أننا تلقينا ردًا بالاعتذار لسببين مختلفين. الأول، أن هناك مشكلة أمن... والثاني، أن سيمور هيرش يهودي (....) من المدهش أن تثار مثل هذه الإشارة المثقلة بمواريث الجانب المظلم في التاريخ غير العربي وغير الإسلامي دون تفرقة بين الديانة اليهودية والعدوانية الإسرائيلية، وخصوصًا بالنسبة إلى رجل مثل سيمور هيرش، وهو الذي كشف أمام العالم كله خبايا مشروع إسرائيل النووي وخفاياه، منبّهًا إلى حجمه وخطره، ولعلها من المفارقات أن تصدر مثل هذه الإشارة إلى ديانة سيمور هيرش هنا، في حين أنها نسيت مع أمثال مناحيم بيغين وشامير ورابين وديان وشارون وإيهود أولمرت". وأضاف: "لولا أن مسألة يهودية سيمور هيرش وصلت إليه لما أشرت إليها، لكني أذكرها هنا لكي أعتذر عنها لرجل وقف دائمًا بالحق في مواجهة القوة، ابتداءً من مذبحة ماي لاي في فيتنام، إلى مأساة سجن أبو غريب في العراق. لقد وقف سيمور هيرش كصحافي بالحق ضد القوة في بلاده، وكثير فيه داخل إلى الصميم في قضايا الشرق الأوسط".
كان ذلك تعبيرًا موجعًا عن فجوات وتناقضات ومآسٍ في النظر إلى القضايا العربية، وفي الصمت على رموز التعصب الإسرائيلي، بينما الهجمات تنصبّ بلا عدل على من يقفون بجانبنا في الغرب لمجرد أنهم يهود. كانت أول جملة أطلقها هيرش من فوق منصة الجامعة الأميركية: "هذه المرة الأولى التي يذكر فيها اسمي مع بيغين وشامير"... فضجّت القاعة بخليط من الضحك والتصفيق.
لا أدري ماذا يمكن أن يقول هيرش إذا ما ذكر اسمه الآن مقترنًا برجل من مواصفات "كوشنر"؟ فيما روى يومها أنه لاحظ في كانون الأول / ديسمبر ٢٠٠٦ عند زيارة زعيم "حزب الله" حسن نصر الله تزايدًا في الإجراءات الأمنية حوله بالضاحية الجنوبية التي يقطنها، فبعدما كانت البوابات خشبية، أصبحت حديدية بعد قصفها بما يشبه ما حدث في الحرب العالمية الثانية. ثم تطرق إلى خطة نائب الرئيس الأميركي في ذلك الوقت ديك تشيني لـ"قطع رقبة إيران" وكان تقديره أن عدوانًا وشيكًا علي إيران قد يحدث في غضون الشهور القليلة المقبلة، كاشفًا أن ٩ مليارات دولار من الأموال العراقية اختفت من أحد البنوك الأميركية لاستخدامها ضد إيران وسوريا و"حزب الله". هكذا كانت معلوماته وتوقعاته في التوقيت الذي تحدث به والتعقيدات التي شابتها، غير أن الوقائع ذهبت في اتجاه آخر.
لمرة تالية استضافت الجامعة الأميركية محاضرة أخرى في أيار/ مايو (٢٠٠٨)، موضوعها يتصل بالعمق مع ما طرحه سيمور هيرش. في تلك المحاضرة تحدّث ستيفن والت، الأستاذ بجامعة "هارفارد"، أحد مؤلفي كتاب "اللوبي الإسرائيلي في أميركا"، الذي أثار ضجة هائلة وقت صدوره، عن آليات عمله وأسباب قوته وتداعيات نفوذه على السياسات الأميركية في الشرق الأوسط.
كلاهما هيرش ووالت، بغضّ النظر عن الانتماءات الدينية، يدافعان عن المصالح الأميركية ويخشيان عليها من تبعات الانحياز المفرط لإسرائيل. فيما قاله والت: "إن اللوبي الإسرائيلي قادر على تغيير السياسات الأميركية، وأنه قد نجح في تطويع كل من تولى منصبًا في الإدارة الأميركية، أو حظي بعضوية الكونغرس، بقوة الدعم المالي المباشر، حتى وصل في حالة منظمة إيباك وحدها إلى نحو ٥٥ مليار دولار سنويًا، بينما مجموع ما تنفقه المجموعات العربية لا يتجاوز الـ ٨٠٠ ألف دولار (...) القضية ليست مؤامرة بقدر ما هي تعبير عن مجموعة من المصالح التي يسعى اللوبي الإسرائيلي إلى تحقيقها في التأثير على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط".
الكلام في مجمله صحيح وموثّق، غير أنه يختلف عما يقوم به جاريد كوشنر الآن من أدوار. إذ لا نتحدث عن لوبي يضغط ويؤثر بقدر ما نتحدث عن مركز صنع القرار في البيت الأبيض الذي تتحكم فيه تصورات وأفكار أكثر تشددًا من "اللوبي الإسرائيلي" نفسه.
* كاتب مصري