لا نستطيع فهم مواقف الصادق السياسية والفكرية دون حفر معرفي يقودنا إلى الجذور. الصادق ببساطة أسير! أسير سياسي وأسير تاريخي معرفي! وكل تاريخه السياسي عبارة عن مراوحة غير منتجة في مساحة محكومة تماماً بقيود هذين الأسرَين ولذلك هو في الحقيقة ضحية وظالم في آن واحد!- في الجغرافيا التطبيقية ثمّة ظاهرة معروفة تُسمّى «الأسر النهري» تحدث من اشتباك نهر رافد يجري الهوينا بأرض منخفضة بمجرى نهر انحداري يجري في أرض أعلى، فيسلب الأول ماء الثاني ويأخذه (يأسره) بمجراه. من دلالة هذه الظاهرة وقياساً على مفاعيلها، عرفت علوم الاجتماع ظاهرة (الأسر) الثقافي، حيث تنتصر الحضارة الأقوى ولو كانت مهزومة عسكرياً على حضارة الغازي البربرية فتأسرها فيتمثل المنتصر البدائي ثقافة المهزوم. (انظر كتابات المفكّر والمؤرّخ البريطاني أرنولد توينبي وغيرها). حالة الصادق المهدي تمثّل ظاهرة نموذجية لحالة الوقوع في الأسر ولسلوك الأسير. سياسياً لطالما كان الصادق أسيراً لابتزاز حركة الإخوان المسلمين، ومعرفيّاً لطالما كان (وسيظلّ حتماً) أسيراً للأكذوبة التاريخية المتعلقة بحقيقة «مهدية» المهدي جدّه.

في الأسر السياسي الإخواني
إن المتتبع الحصيف للتاريخ السياسي للصادق سيكتشف خلف كلّ موقف من مواقفه ابتزازاً إخوانياً ما، ورُعباً مرضياً من استحواذ إخواني وشيك على قواعد الحزبَين الطائفيين الكبيرين «الأمة» و«الاتحادي». فمنذ أن أفسد «الإخوان» الحركة الوطنية السودانية غداة الاستقلال بنجاحهم في جرّ السجالات السياسية والاجتماعية حول بناء الوطن إلى صراع ديني تضليلي مفتعَل حول «الدستور الإسلامي» مروراً بتشرين الأول/ أكتوبر ٦٤، ثم مسألة حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان ومذبحة القضاء وعصيان السلطة التنفيذية لقرار قضائي واجب التنفيذ، ما أدى إلى ضرب النظام الديمقراطي وإصابته بمقتل في أقدس أقداسه. بعدها وصف الصادق ما حدث ببساطة عجيبة بأنه «انفعال يمكن أن يتكرر»! ثم مروراً بالمطلب الأول لثورة آذار/ مارس ٨٥ المتمثّل في إلغاء قوانين أيلول/سبتمبر والتي وصفها الصادق نفسه بأنها «لا تساوي الحبر الذي كُتبت به»، لكنه تحت ضغط «الإخوان» وابتزازهم وخوفه التاريخي المزمن من استحواذهم على قاعدته (الدينية) أبقى عليها برغم تمتّع حكومته بأغلبية برلمانية، ورأي عام خارج البرلمان يكاد يجمع على أن إلغاء قوانين أيلول/ سبتمبر كان شرطاً جوهرياً لإمكانية بناء دولة المواطنة التي بشّرت بها ثورة آذار/ مارس - نيسان/ أبريل ٨٥. ثم كانت الطامة الكبرى في موقفه من اتفاقية الميرغني قرنق الذي أدى لإجهاضها ولكلّ ما خلفه هذا الإجهاض من كوارث أوصلتنا في النهاية إلى انقلاب حزيران/ يونيو وانفصال الجنوب. استمرّ تردّد الصادق بين ما يقوله وبين ما يخشاه من استحواذ الكيزان يشكل كلّ مواقفه من النشاط المعارض وعلاقته بكل أشكال التحالفات المعارضة طوال حقبتَي الإنقاذ وأيار/ مايو. الآن وطيلة مسار ثورة كانون الأول/ ديسمبر المجيدة لم ينفك الصادق عن ضلاله القديم وواقع الأسر الذي يطوقه. فقد أراد الصادق دوماً إسقاط نظام الإنقاذ بدون أن يُسقط حزب «الإخوان» وأراد دوماً ديمقراطية بأسنان ديكتاتورية!
لكن الأهم والأخطر في حقيقة شخصية الصادق أنه أخ مسلم، يخرج فكره الديني والسياسي من ذات المعين وإن اختلفت العناوين والرايات. هذه الحقيقة هي التي جعلت الصادق يتماهى ويخضع لظاهرة الأسر الإخواني إلى هذا الحدّ الذي فاق تأثيره ما يُعرف بمتلازمة استوكهولم.

الأسر التاريخي المعرفي: المهدية وما أدراك ما المهدية
في غمرة انشغالنا بثورة كانون الأول/ ديسمبر خطب الصادق يوم ٢٦ كانون الثاني/ يناير فعلّقت حينها «بعيداً عن السياسة ثمة مغالطة فكرية مهولة وردت بخطبة الصادق المهدي أثبتها هنا لأعود إليها لاحقاً.. قال في وصفه المهدية إنها ملتزمة بقطيعة «معرفية» من اجتهادات التراث على أساس لكلّ وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال».
أزمة الصادق أنه يعرف أن عرشه من قش وأن حقيقة مهدية المهدي قد سقطت


فهل كانت المهدية كذلك؟ بل هل كان هناك ثمة «مهدي» من أصله؟! وهل كانت قطيعة «معرفية» أم قطيعة سياسية لضرورات سياسية؟! وإن كانت كما ادّعى الصادق قطيعة معرفية فأين ذلك الإنتاج المعرفي المغاير؟
واليوم وبسبب تصريحات الصادق وابنته وبعض سدنته وحاملي ختمه كصلاح جلال فلقد أصبحنا في حلّ من وعد انتظار سقوط النظام، بل صار الحديث المفتوح واجباً من أجل أن تصل الثورة إلى غاياتها ولا تُختطف.
بدون خوض لا داعي له حول قضية المهدي والمهدية في الفقه الإسلامي، فإن واقعة ادّعاء محمد أحمد للمهدية قد حكم التاريخ عليها، فلم نعد بحاجة لأقوال السلف لبحث أسانيد صحة الادعاء من عدمه. والغريب أنه برغم هذه البديهية إلا أنه محظور علينا كسودانيين أن نتجرأ حتى بمجرد السؤال المعرفي عن حقيقة مهدية المهدي. وظلت مناهجنا تُكرس الخرافة والدجل وسخف التفسير الميتافيزيقي للتاريخ.
إن حظر العقل النقدي والقراءة المنهجية النقدية للتاريخ قد حرمنا من وضع الثورة المهدية في سياقها التاريخي الإنساني والوطني الصحيح، كحركة تحرر وطني قادها بشر عاديون في ظروف تاريخية معينة وانطلقت من بيئة حضارية وثقافية واقتصادية محددة (غرب السودان)، فمنحتها هذه البيئة ملامحها العامة وفرضت توجّهاتها في الإعلام والدعوة وفي طبيعة المنطلقات والأساليب والغايات، ثم ربطتها بالسماء ففارقت حقائق الأرض فراق الطريفي لجمله، وكان طبيعياً أن تنتهي على يد الخليفة التعايشي بأكثر مراحلنا التاريخية ظلاماً وتوحشاً ومفارقة كليّة للعقل والضمير ومسلمات الدين وحقائق الجغرافية والتاريخ.
السيد الصادق يتعامى بشكل قصدي وممنهج عن كلّ ذلك، وتواطأت مع هذا التعامي مناهجنا الدراسية وثقافتنا وأشعارنا وأغانينا، حتى بتنا نجترّ تاريخنا ونتباهى به باستدعائه تلقائياً من أعمق مصادر الوعي الزائف بؤساً وظلامية. وحتى تغنّى شاعر ثائر في أنصع لحظاتنا الثورية الحداثية «بأسياف العشر» فطربنا بها واحتفينا دون أن يخطر ببال أيّ منا سؤال عن حقيقة «أسياف العشر»***
فلماذا يصرّون على الإبقاء على الوعي الزائف ليمتدّ ظلامه إلى المستقبل؟ الإجابة ببساطة لأن هذا الوعي الزائف وحده، وأكرّر وحده، هو الذي يمنح أسرة كأسرة المهدي كل هذه الهالة التي تصنع بها مجدها التالد في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع.
أزمة الصادق المهدي الحقيقية وإشكاله الوجودي أنه يعرف أن عرشه من قش. وأن حقيقة مهدية المهدي قد سقطت. بل إنها كانت ساقطة منذ بدايتها بكل مراكز الوعي النسبي (الشمال والوسط النيلي)، ويمكن للجميع مراجعة مراسلات المهدي مع شيوخ الطرق الصوفية والفقهاء وإنكارهم لمهديته، ولذلك كما كتب محمد أبو القاسم حاج حمد في سفره العظيم «السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل» كتب عن مبايعة الشمال والوسط النيلي للثائر محمد أحمد باعتباره المهدي «المنتصر» وليس المهدي «المنتظر»!
إنكار الصادق المهدي لأكذوبة المهدي هو «إنكار إبليسي» إنه إنكار الاستكبار لا إنكار من جهل. تماماً كإنكار إبليس لتقديم الإنسي على الملائكي لأن الإنسان هو المختص دون خلق الله بالعقل والإرادة فاستحق تبعاً لذلك أن يتصف وحده دون سائر الخلق بمن فيهم الملائكة بالحرية. لذلك عصى ربه استكباراً وليس جهلاً فرفض السجود لآدم برغم كونه أعلم الملائكة. هذا الإنكار المرضي القسري هو الذي ظلّ يطارد الصادق في كل حياته السياسية والفكرية حتى انطبعت بطابع الإنكار المرضي، فصار بهذه الحالة التي نراه عليها اليوم. رجل مجبر على العيش بكذبة. والكذبة المعرفية القسرية بالنسبة له، لأنه يستمد وجوده منها، ستجعل الكذب طابع حياته، فيبدو هكذا متردداً عند كل منعطف.
لا أمل إذن .. لا أمل البتة في هذا الصادق برغم أن الهتاف المفضل لديه والذي يدغدغ مشاعره ويصحي أحلامه الدفينة هو، ويا للمفارقة المذهلة، «الصادق أمل الأمة».
عند دراسة الفترة المهدية علينا أن نتجاوز المحرمات الغبية والتمييز جيداً: بين رمزيتها الوطنية التي تشكل في الوجدان السوداني قيم البطولة والاستقلال والكرامة الوطنية؛ وبين القداسة الزائفة التي تكرّس الوعي الزائف وتنتج ثقافة الخضوع والإذعان للطبقات المستغلة وتجار الدين.
تثبت الوثائق التاريخية ومراسلات المهدي أنه لم يعلن عن مهديته قبل عام ١٨٨١ ولم يعلنها إلا بعد التقائه بالتعايشي. والتعايشي كان مسكوناً بوهم المهدية ويبدو أن أسباباً ما تتعلق بتقديره الشخصي لذاته هي التي جعلته يعرضها على الغير؛ فعرضها أولاً على الزبير باشا رحمة، لكنه وبّخه وهدّده بالسيف إن عاد لمثلها - ثم وجد الخليفة عبدالله ضالته في الإمام المهدي، وهنا ثمة حكاية تستحق أن تُروى.
للإمام علي بن طالب قول حكيم بليغ في النفاق والمنافقين لعله أبلغ وأحكم وأجمع وأجمل ما قيل لفظاً ومعنى، يقول: «إنهم يتقارضون الثناء ويتراقبون الجزاء». ويشرحها الباحث حسن المالكي «أي أن كلّ واحد يثني على الآخر قرضاً ليثني عليه قضاء». وهذا بالضبط ما حدث في حكاية التواطؤ بين الخليفة والمهدي:
-دخل الخليفة عبدالله التعايشي على مجلس المهدي، نظر إليه، ثم ارتجف جسده وارتج حتى خرّ مغشياً عليه! لأنه رأى في المهدي سراً وتجلياً روحياً لم يحتمله جسد فخرّ صعقاً! أدرك المهدي مضمون الرسالة، فالخليفة يقول إن المهدي شخص غير عادي، لكنه في ذات اللحظة يُثبت لنفسه درجة أقل من «غير العادي» هذه، لكنها كافية ليبصر في المهدي ما استخفى على الجميع، فإذن هو أيضاً «فيه سر» وإن قل عن سر المهدية. الرجل إذن «أقرض» محمد أحمد مقام المهدي فجازاه المهدي بمقام الخليفة! هذه ببساطة حقيقة مهدية المهدية التي استطالت بها أسرة الصادق على رقاب الناس ومسكوا بها ذمام أمرهم. هي حقيقة أخفى إنكارها أو تزييفها ملايين الحقائق في تاريخنا السياسي المعاصر (وقد يكون من بينها سر الموت المفاجئ للمهدي بعد فتح الخرطوم مباشرة وتولي الخليفة عبدالله بعده). وهي الحقيقة التي لا يمكن لأحد تفسير شخصية الصادق معرفياً وسياسياً إلا من خلال الكشف عن محنة من بنى كل حياته السلطوية والمالية والفكرية وحتى الوجودية على (إنكار) حقيقة بديهية.

* عنوان المقال مستوحى من عنوان كتاب للصادق المهدي «ويسألونك عن المهدية»

** باحث وكاتب سوداني

*** العشر: نبات طفيلي معروف في السودان وتمتاز سيقانه بدرجة عالية من الهشاشة وتقول أسطورة المهدية إن سيقان العشر هذه قد تحولت لسيوف في يد أنصاره وهم يقاتلون المستعمر التركي