شكّل عام 2011 بالنسبة إلى المنطقة العربية مرحلة جديدة، كان من المأمول أن تكون مرحلة واعدة، وأن تلعب الشعوب دوراً كبيراً فيها، بعد عقود طويلة من المهانة والإقصاء والتهميش. انطلقت شرارة الانتفاضات العربية من تونس إلى مصر ثم ليبيا واليمن، وصولاً إلى سوريا، بدوافع أسبابها وافرة في بيئة راكدة. ولا ينكر أحد أيّاً كان موقفه مما جرى، الأسباب الوجيهة للخروج الشعبي المطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولكن في المقابل لن يصدّق عاقل أن هذه الجموع الشعبية كانت تتطلع للوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم. إن المفارقة العجيبة، كانت بين الأسباب الوجيهة للمطالبة بالتغيير من جهة، والقوى التي سرعان ما أمسكت بآلياته وقنواته الشعبية على الأرض، ترعاها قوى عربية تمثّل نموذجاً في الحكم، هو الأكثر تخلفاً ورجعيةً (قطر والسعودية والإمارات)، وتدعمها قوى دولية حافظت وحمت بقاء هذه النماذج، في جمودها ومعاندتها للتطور الديمقراطي، في تداول السلطة والتوزيع العادل للثروات وتكافؤ الفرص، وحق المراقبة والمحاسبة والمساواة أمام القانون. كل ذلك من أجل أن تضمن هذه القوى الخارجية استمرار هذه الأنظمة كتابع، قابع تحت سيطرتها، وهي (القوى الخارجية) صاحبة المصلحة الحقيقية في حرمان الشعوب من دورها في القرار الوطني والقومي، كما حرمانها من حقها في ثرواتها المنهوبة من القوى الداخلية المتكلسة في السلطة، والتي تنال حصة الأسد مقابل استمرار بقائها على رأس السلطة.
إن المشهد العربي اليوم، كحصيلة لمرحلة امتدت لما يقارب عقداً من الزمن (ثمان سنوات)، يكشف عن تحالفات تبيّن بوضوح حقيقة ما جرى، وتحديداً ما تلا عفوية الخروج الشعبي المطالب بالتغيير، حين تمّ امتطاء الرغبة الشعبية العارمة بالتغيير، وسوقها إلى معادلات أخرى، تستهدف تبديل موازين القوى في الوضع العربي، بما يلائم تحقيق مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، والمطروح منذ سنوات مضت.
إن تحقيق الانتصار في ثورتي تونس ومصر بـ«إسقاط الأنظمة»، لم يحقّق أيّاً من المطالب التي رفعتها الحشود الشعبية، لأن الأنظمة البديلة، بقيت تدور في ذات المحور السياسي الإقليمي والدولي، وبالتالي إعادة إنتاج معادلة الشرعية الخارجية لبقائها في السلطة، على حساب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وهذا ما يحاوَل إعادة إنتاجه اليوم في السودان، من خلال المجلس العسكري.
في الوقت الذي ما زالت ليبيا تدور في دوامة التقتيل بين فرقاء في ذات المحور، فإن الحرب الهمجية من قِبل «التحالف العربي» على الشعب اليمني، تشهد فصولاً جديدة من الإجرام والدمار، في محاولة لكسر إرادته ومنعه من حسم خياراته في تموضعه خارج محور الخضوع والتبعية، في العلاقة الدونية والحديقة الخلفية للنظام السعودي. وهو بذلك يستعيد دوره وحضوره كفاعل في معادلة الصراع في المنطقة، ممسكاً بالقضية الفلسطينية كقضية مركزية.
استطاعت سوريا أن تخرج من عنق الزجاجة بمساندة محور المقاومة، سوريا التي انكشف فيها المستور من تطلّعات وتوجهات القوى الخارجية، عربية ودولية. فأسهم ذلك في بلورة محور المقاومة، المتقدّم إلى المواجهة الشاملة لما يسمى مشروع «الشرق الأوسط الكبير».
مثّلت سوريا على الدوام مفصلاً مهمّاً في كل المحطات العربية، حرباً وسلماً، داخلياً وخارجياً، وعلى أهمية الملاحظات التي سجّلت في ضرورة الإصلاح ومحاربة الفساد وتوسيع الهامش الديمقراطي، إلّا أن دور دمشق وموقفها بقي طوال العقود الماضية مستقلاً وعروبياً أصيلاً، في مقاربته للصراع في المنطقة وحولها. عليه، فإنه لا يمكن تجازوها في تصوّرات إعادة ترتيب المنطقة وتشكيلها، فهي كانت الرحم الذي وُلد منه مشروع المقاومة تاريخياً، ثم فيها تبلور محورها حالياً. ومن المتوقّع أن تستمرّ موضعاً للصراع بأشكال مختلفة، وذلك في محاولة منعها من لعب دورها، في مواجهة المشاريع التي انكشفت وصارت واضحة جلية، وفي المقدمة منها، دمج الكيان الصهيوني في المنطقة وتبوؤه لدور ريادي في مستقبلها.
في كل الأحوال، بما أن دمشق التاريخ والجغرافيا والدور، كانت المناسبة التي شهدت اصطفاف دول وقوى المقاومة وفصائلها، فنضج حضورها ودورها كمحور، فإنَّ دورها سيظلّ محورياً وسيزداد حضوراً في المواجهة مستقبلاً، خصوصاً بعدما انجلى غبار التضليل والتشويه الدعائي، الذي انتشر خلال السنوات الأولى لما سمي بـ «الربيع العربي». لقد اتّضحت اليوم معالم الصراع في المنطقة، وبات دور محور المقاومة بحاجة إلى إعادة تظهير، بما يتناسب واتّساع المعركة وشموليتها. لقد انتقل الصراع من مرحلة المعارك الداخلية، لتغيير موازين القوى في المواقع المتعدّدة. كان الربح يُحسب بالنقاط، تقدم هنا أو تراجع هناك، حيث كانت الحروب منفصلة عن بعضها البعض، في سوريا واليمن والعراق، ولبنان وفلسطين، وإيران. في تلك المرحلة كان المحور الآخر يتلطّى تحت عناوين تضليلية ومطالب محلية داخل هذه الدول. انتقل اليوم الصراع إلى مرحلة جديدة، لقد صار يدور بين محورين واضحي المعالم. انكشف فيها المحور الآخر بعناوينه ومسمياته وأجندته الحقيقية، وتشكل «إسرائيل» الكيان والرؤية والمصالح مضمونه الحقيقي، والممالك والإمارات والدول الخليجية خصوصاً، حوامله وآلياته، من جهة. أما من الجهة الأخرى فيقف محور المقاومة، وتشكل فلسطين الحق التاريخي والقضية المركزية ومعاني النضال من أجل التحرر من الهيمنة والخضوع للقوى الاستعمارية، مضمونه الحقيقي، وإيران وسوريا والعراق واليمن وكل فصائل المقاومة في المنطقة، والقوى والأحزاب التي ما زالت تؤمن بأن فلسطين هي القضية المركزية، حوامله وآلياته.
إن الانتقال من حروب المواقع إلى المواجهة الشاملة والمباشرة بين محورين، يعني الفشل في حسم الصراع في المرحلة الأولى، وإن كانت القوى الراعية للإرهاب، قد حقّقت بعض التقدّم من خلال إشاعة الفوضى والتظليل، ولكنها في النهاية انكشفت قبل إنجاز المهمة، واضطرت لخوضها مباشرة، وهذا يفرض على محور المقاومة ضرورة تظهير حضوره أكثر، كاصطفاف جدي لقوى وأحزاب وتجمعات وشخصيات، وطنية وقومية، إسلامية ويسارية على مستوى المنطقة، تحمل مشروعاً سياسياً واضحاً ومحدداً في مواجهة المشروع الآخر. هكذا يمكن التوجّه إلى مخاطبة القوى على مستوى الإقليم والعالم، وهكذا فقط يمكن مواجهة «صفقة القرن» الاسم الحركي لمشروع «الشرق الأوسط الكبير».
*عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين