تفشل المدرسة غالباً في الغاية الأهمّ التي تضعها على رأس غاياتها وهي التنشئة على المواطنية، فتبقى هذه العملية أهمّ ما تصبو إليه المؤسسات التربوية التي تبدو عاجزةً أو غير فاعلة في إكساب المتعلّمين الكفايات التواصلية والاجتماعية المطلوبة والقيم والمواقف المتصلة بهذا المفهوم. هنا، تبدو استعادة نظريات عدد من رواد التيارات التربوية الكبرى مهمّة وذات دلالة، ومنهم Montaigne وRousseau وFreinet القائلون بأهمية تجاوز هذه المشكلة من خلال العمل بين وسطين: الأول هو التعليم النظامي (الكتابي والمصطنع) في المدرسة التي تحدّها الجدران، والثاني هو الاكتساب الفعلي والواقعي للكفايات المهارية (Savoir-être) ما وراء جدران المدرسة.
(فيلبي إلاستريشن - كوربيس)

مدرسة ما وراء الجدران
إنها بداية علاقة جديدة مع المكان، تقوم على رفض تحديده مسبقاً وعلى الانفتاح الجغرافي. فمدرسة ما وراء الجدران تتحدد بالتعارض مع البنية السكونية (الستاتيكية) للمدرسة. إنها تقع خارج حرم المؤسسة المدرسية. هذه المقاربة تتطلب علاقة جديدة مع المجال بكل وجوهه التاريخية، الطبيعية والثقافية، واعتماد بنية خاصة تحتاج إلى إعادة تعريف في حقل علوم التربية، في ضوء هذه المقاربة. فمدرسة ما وراء الجدران ترفض كل تحديد مكاني، وتنفتح جغرافياً، بانية علاقةً عضوية أوسع مع المجال. وهي بذلك تعيد الربط مع الجذور/الأصول لكلمة «مدرسة» وما كانت عليه «أكاديمية» أفلاطون في علاقتها بالجغرافيا التاريخية والطبيعية والثقافية.
وفي مقارنة بين المجال المحدد للمدرسة والانفتاح الجغرافي للأكاديمية، وهي مقارنة تشمل أيضاً التنظيم الداخلي لأكاديمية أفلاطون وعلاقته بأعضاء الأكاديمية، يتبيّن أن المجال المحدد للمدرسة يشمل أيضاً التنظيم الداخلي وفصل المعارف وتفريعها. أما في المجال المفتوح كما كان الحال في أكاديمية أفلاطون، فإن المعارف ليست مكتوبة ولا محددة مسبقاً ولا منفصلة عن بعضها، إنما التعليم فيها مستند إلى غنى الحوارات الناتجة عن تعددية الآراء. بهذا المعنى، لا يمكن اعتبار أفلاطون رائداً من رواد المؤسسات المدرسية الكلاسيكية، فهو لم يحضّر البتة معارف نظامية يريد تعليمها، ولا هو أعطى يوماً دروساً تحت شكل تعليم متتابع ومنتظم. وعليه، فالطريق المعتمد من أغلبية المؤسسات المدرسية الحالية، لا يندرج في التقليد الذي أرسته الأكاديمية، إنما على العكس منه تماماً.

رحّالةٌ على طريق التعلّم
يمكن مطابقة مسير الرحالة الذين مشوا على طرق المعرفة والتعلّم مع مسير المتعلّمين اليوم الذين ينبغي عليهم أن ينطلقوا، بموازاة تعلّمهم النظامي، في طرق الرحلة. فالرحالة الجغرافيون سعوا وراء المعرفة للتعليم وللتعلم، وبهذا المعنى فهم روّاد المتعلّمين اليوم. ومن هؤلاء الرحالة ماركو بولو Marco Polo الذي مشى على طريق الحرير من أجل معرفة الشرق الأقصى وأقانيمه وتراث شعوبه وعلومهم وحرفهم، بحيث كانت رحلاته موضوع تعليم وتعلّم بعدما كتب مشاهداته وما حفظه... وكذلك ابن بطوطة الذي يعتبر من كبار الرحالة أيضاً، فقد سعى من وراء رحلاته إلى تعميم ما استكشفه من علوم ومعارف.
مفكرون وفلاسفة تربية يحاولون فتح المدرسة على الجغرافيا التاريخية والطبيعية والثقافية للأرض لبناء تعلّم الفرد


وعلى خطاهما في الاستكشاف والمعرفة هناك مفكرون وفلاسفة تربية يحاولون فتح المدرسة على الجغرافيا التاريخية والطبيعية والثقافية للأرض، لبناء تعلّم الفرد، ومن هذا الهم ولدت البنية الخاصة لـ «الصف – الرحلة» (La classe-voyage) والتربية المرتبطة به.

البنية الخاصة لـ «الصف – الرحلة»
ما هي هذه البنية؟ إنها تلك التي يتم بناؤها حول مشروع تربوي متعدّد الاختصاصات تسهم فيه مواد تعليمية عدة، ليس من خلال الميادين الخاصة أو العابرة للمواد، إنما من منظور العمل المتعدد المواد في إطار عمل فريقي، ويتم تتويجه برحلة. فنحن بحاجة إلى صف في الجبل، وفي الصيف والربيع نحن بحاجة إلى صف أخضر، وفي الشتاء صف الثلج، ومع المتعلمين في الصف الثانوي الأول نصبح بحاجة مثلاً إلى صفّ صناعة العطور، يتوّج مجهوداته التعلّمية في زيارة لإحدى مناطق جنوب فرنسا المشهورة بصناعة العطور... فتتركز الأعمال الصفية، قبل الرحلة، على موضوعات مختلفة بحسب المواد الدراسية: دراسة «أزاهير الشر» لبودلير في الأدب، واستخراج العطور في الكيمياء والنسب والمقادير في الرياضيات... أو صناعة الصابون في طرابلس، والنبيذ في البقاع. فيتم تقسيم الصف إلى مجموعات، ويبحث التلامذة في موضوعات من خلال الموسوعات والكتب والشبكة العنكبوتية التي تمهّد للرحلة.

الإشكالية والأدوات
وانطلاقاً من هذه الأفكار، يمكن التعمّق في تأثير تربية الرحلة على اكتساب الكفايات التواصلية والاجتماعية للمواطنية من جانب المتعلمين، من خلال أنماط عمل مبتكرة وأشكال تعلم خاصة في مناخ مدرسي غير مصطنع.
أما الإشكالية التي يمكن أن ينعقد حولها العمل، فتكون كالآتي: إلى أي حد يمكن لأنماط الأعمال المنفذة في إطار بيداغوجيا الرحلة تشجيع اكتساب الكفايات للمواطنية؟ بحيث يتبيّن للمنخرطين في مقاربة كهذه، أن البنى المتعلقة بتربية الرحلة تشجع على اكتساب الوظائف التواصلية للتربية المدنية مثل التجريبية، والروح النقدية، وثقافة التفكير الذاتي، وكذلك الوظائف الاجتماعية مثل المشاركة والمسؤولية. وعلاوةً على ذلك، تحرّك الرحلة التربوية عوامل لها تأثيرها الواضح على نتائج التلامذة، في المواد المرتبطة بالتربية الوطنية والتنشئة المدنية.
الصحيفة السردية للرحلة هي إحدى الأدوات البحثية المهمة المستخدمة لتقييم اكتساب المتعلمين للكفايات المدنية على قاعدة دراسة الأثر على التصورات الاجتماعية لديهم. فتصبح الرحلة ومحطاتها وأمكنتها التاريخية والصناعية والطبيعية، مسار تعلّم حيث تتعمق الروابط بين المتعلمين، ويكتشفون أهمية التعلم بأنفسهم.
وخلال الرحلة تعقد عدة حصص، بحسب ما يستجدّ من مواضيع يومية تتطلب الوقوف عندها، وفق مقاربة الـ GEASE، أي «مجموعة التدريب على تحليل الوضعيات التربوية» حيث تتشكل كل حصة من أربع مراحل: عرض الوضعية، التقصّي والمساءلة، التفسير والاستجابة. وفي هذه الحصص يتم غالباً استحضار مواضيع حساسة تفرض حضورها بنتيجة احتكاك المشاركين في الرحلة مع بعضهم البعض ومع بيئة غير مألوفة لديهم بالضرورة. ومن خبرتنا في هذا المجال، نسترجع مواضيع تمت إثارتها من المشاركين كلباس النساء المسلمات، وقضية المثليين جنسياً ومسيراتهم في الدول الأوروبية التي تكون محط الرحلة، ومسألة «الحلال» و«الحرام» في ما يتعلق باللحوم المذبوحة على الطريقة الإسلامية وتوافرها من عدمه، وضرورة احترامها أم لا وتأثيرها على العلاقات الاجتماعية (الطعام خيارٌ فردي ولكن الاجتماع على الطعام موجبٌ اجتماعي، تناول الغداء والعشاء في الرحلات: وقتٌ للتغذية أو فرصة للتشارك؟).
وبالرغم مما تثيره هذه المجموعات من أجواء، تتبيّن النتيجة الإيجابية لهذه الحصص لجهة تشجيع الوظائف التواصلية والاجتماعية للتربية على المواطنية. ويتبيّن أن الموضوعات التي يختارها المتعلمون هي المواد القاعدية للعملية التربوية التي لا تحصل في المدرسة خلف الجدران، بل وراءها، في الصفوف التي لا جدران لها.
*أستاذ المواطنية في الجامعة اللبنانية