غدت مقاطعة إسرائيل في العقدين الأخيرين جزءًا رئيسًا من مقاومة الشعب الفلسطيني وكل مناصريه حول العالم لعنصرية إسرائيل واستعمارها الاستيطاني واحتلالها العسكري، حيث تسعى المقاطعة الفلسطينية إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية بما فيها إنهاء الاحتلال الإسرائيلي واستعماره للأراضي الفلسطينية منذ عام ١٩٦٧، وتقويض العنصرية الإسرائيلية الممأسسة منذ عام ١٩٤٨، وعودة اللاجئين الفلسطينيين.لقد حازت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات («بي دي إس») دعمًا عالميًا يشمل أكاديميين، وفنانين، ورياضيين، وكنائس، ونقابات مهنية، ومنظمات حقوق إنسان، وشركات تجارية. وقد تبنّت بعض الحكومات الغربية استراتيجية المقاطعة الرمزية، بما فيها المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي اللتان طالبتا أو اشترطتا أن يتم تصنيف وتعريف البضائع الإسرائيلية التي أنتجتها المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان بوضوح للمستهلك. وترفض المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي دعم حركة «بي دي إس» رغم اعتبارهما المستوطنات الاستعمارية الإسرائيلية غير قانونية بحسب القانون الدولي. وعندما اشتدّت الحملة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية المصنّعة في المستوطنات في بريطانيا، قامت الحكومة البريطانية بمحاولة حظرها. كما قام البرلمان الألماني في الأسبوع الماضي بتبني قرار غير ملزم قدمه نوّاب من حزب أنجيلا ميركل «الاتحاد الديموقراطي المسيحي» اتهم فيه حركة «بي دي إس» المناهضة للعنصرية بأنها «معادية للسامية».
تزعم الحكومات الغربية أنها تدعم إسرائيل بناءً على «القيم المشتركة» التي تربطها بالدولة اليهودية. ففي عام ٢٠١٨، أعلن سفير الاتحاد الأوروبي في إسرائيل، إيمانويل جيوفريه، أن إسرائيل والاتحاد الأوروبي «يتشاركان في القيم ذاتها. فنحن نؤمن بالديموقراطية، والحكم الذي يرتكز على القانون، وحقوق الإنسان». أما رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، فقد أعلنت أن المملكة المتحدة «تفتخر بوقوفها إلى جانب إسرائيل كحليف... وصديق حميم يشاركنا قيمنا». وكان دونالد ترامب قد أعلن في عام ٢٠١٧ أثناء وجوده في إسرائيل: «نعدكم بالوقوف معكم والدفاع عن قيمنا المشتركة». وكان ترامب، في إعلانه هذا، يحاكي الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الذي لطالما أصرّ على أن «الصلة التي تربط إسرائيل بالولايات المتحدة... متجذرة... في القيم المشتركة». وبدوره، غرّد رئيس وزراء كندا جستن ترودو على تويتر في عام ٢٠١٩ قائلًا إن «كندا وإسرائيل تجمعهما صلة خاصة متجذرة في الاحترام المتبادل والقيم المشتركة». وقام رئيس وزراء أوستراليا كذلك بمعية بنيامين نتنياهو في عام ٢٠١٧ بالتأكيد على أن «الصداقة التي تجمع إسرائيل بأوستراليا... مبنية على قيمنا المشتركة [بما فيها] التزامنا بالديموقراطية».
يردّ الكثير من الفلسطينيين الليبراليين والعرب والمتضامنين معهم في الغرب على هذه المزاعم بالإصرار على أن ثمة تناقضًا صارخًا بين قيم الدول الغربية، التي ينظرون إليها بوصفها ديموقراطية، وبين إسرائيل، الدولة التي أنشئت على مبدأ الغزو الاستعماري، والقوانين العنصرية، والاحتلال العسكري. ولكن هل ثمة تناقض بالفعل بينهما؟
لقد كانت الحكومات الأميركية والأوروبية التي دعمت الحركة الصهيونية في عام ١٩١٧ تعي جيدًا الأسس الاستعمارية والعنصرية للحركة الصهيونية، وهي قيم كانت تتشارك فيها مع الحركة. فقد كانت لمعظم الدول الأوروبية عام ١٩١٧ مستعمرات استيطانية تسري فيها قوانين وأسس عنصرية تتوافق مع فوقية العرق الأبيض. أما الولايات المتحدة، وهي أكبر مستعمرة استيطانية، فكانت تعمل وفقًا لنظام قوانين جيم كرو للفصل العنصري بين البيض والسود حتى أوائل عقد السبعينيات وكانت قد حرمت سكان البلاد الأصليين من «الهنود الحمر» من حق المواطنة حتى عام ١٩٢٤ عندما صدر «قانون مواطنة الهنود»، على الرغم من أن حق «الهنود» بالتصويت ظلّ مقيدًا حتى عام ١٩٤٨ وما تلاه.
وعندما قامت هذه الدول بدعم إقامة دولة إسرائيل عام ١٩٤٨، كانت التزاماتها وقيمها التي تساند الاستعمار الاستيطاني والعنصرية متطابقة مع مؤسسي المستعمرة الصهيونية. ففي فترة ١٩٤٧ ـــ ١٩٤٨ هاجم الجنود الفرنسيون سكان جزيرة مدغشقر، وأمعنوا في سكانها تعذيبًا وقتلًا واغتصابًا وأحرقوا قُراهم عن بكرة أبيها. وقد تمخضت مجزرتهم تلك عن ما يربو على مئة ألف قتيل مدغشقري. فيما كانت فرنسا في الفترة نفسها ترفض منح حقوق للجزائريين الأصليين تساويهم بالمستوطنين الفرنسيين البيض. وقد قتلت مليون جزائري أثناء ثورتهم لإنهاء استعمارها الاستيطاني. ولم يكن التنسيق بين فرنسا وإسرائيل في هذه الفترة غائبًا، حيث كانتا تتشاركان في استنباط استراتيجيات مشتركة لقمع السكان الأصليين في كل من الجزائر وفلسطين على الترتيب.
أما سياسات بريطانيا، فلم تكن مختلفة. فبالإضافة إلى قمعها المستمر للمواطنين في الهند حتى نالت الأخيرة استقلالها عام ١٩٤٧، شنّت بريطانيا في الخمسينيات حربًا وحشية في كينيا على حركة الماو ماو لحماية مستوطنيها البيض ضد النضال الكيني الذي كان يسعى إلى إنهاء استعمار بريطانيا الاستيطاني. حيث قام البريطانيون بتعذيب، واغتصاب، واعتقال مئات الآلاف وقتلوا مئات آلاف آخرين من الكينيين، وحرقوا الكثير منهم أحياءً. أما السكان الأفارقة للمستعمرة الاستيطانية البريطانية التي كانت تعرف آنذاك بروديسيا، فعانوا من التمييز والقمع العنصري حتى انتهاء حكمها في عام ١٩٦٥ وما تلاه، فيما جاء دعم بريطانيا للتعددية العرقية في روديسيا متأخرًا للغاية.
عندما وقفت الدول الغربية مع إسرائيل ودعمتها من جديد في غزوها لجيرانها في عام ١٩٦٧، كان سكان الولايات المتحدة السود والملونون ما يزالون يرزحون تحت نظام جيم كرو للفصل العنصري، رغم انشغال حكومتهم آنذاك بإبادة الشعب الفيتنامي. أما فرنسا وبريطانيا فقد كانتا قد أنهتا للتوّ حكمهما الاستعماري وإن واصلتا الالتزام بإرثهما العنصري. فقد استمر الدعم الغربي في هذه الفترة للمستعمرة الاستيطانية في جنوب إفريقيا، رغم دعوات في الأمم المتحدة لمقاطعة دولة الفصل العنصري. وهكذا، فقد كانت هذه الدول في تلك الفترة تتشارك بقيمها والتزاماتها مع إسرائيل، التي توطدت علاقتها مع نظام جنوب إفريقيا حتى أصبحت أقرب حليف له.
ولم تنكفئ هذه القيم والالتزامات إلا بعدما غيّرت هذه الدول الغربية موقفها من جنوب إفريقيا في الثمانينيات والتسعينيات (أما استمرار الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا في قمع حقوق مواطنيها الأصليين، فهي قيمة يتشاركون فيها مع إسرائيل حتى الساعة). وهنا يبرز تناقض سطحي ما بين المبادئ التي تزعمها بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وادّعائهما بوجود «قيم مشتركة» فيما بينهم وبين إسرائيل.
أما الأهداف والالتزامات الديموقراطية التي ينادي بها الشعب الفلسطيني لتقويض العنصرية الإسرائيلية والاستعمار الاستيطاني، والتي تتبناها حركة «بي دي إس»، فهي قيم ترفض الدول الغربية أن تتشارك فيها بتاتًا. وبناءً على ما سلف، فليس هنالك في حقيقة الأمر أيّ تناقض في القيم التي تتشارك فيها هذه الدول مع إسرائيل، والتي هي، بخلاف المزاعم الكاذبة لهذه الدول، ليست مبادئ الديموقراطية والحرية للجميع، بل مبادئ قمع الاثنين دون هوادة عندما يتعلق الأمر بالشعوب الأصلية التي لا تنتمي إلى العرق الأبيض.
* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك. صدر له حديثًا كتاب «الإسلام في الليبرالية» عن جداول للنشر في بيروت (٢٠١٨) وكتاب «آثار استعمارية: تشكّل الهوية الوطنية في الأردن» عن دار مدارات، القاهرة (٢٠١٩)