حينما يتبارى السياسيون لإفشال مشاريع خصومهم، أو لتحقيق انتصار سياسي، فإنهم ينسون دائماً أمراً جوهرياً اسمه الوظيفة التربوية للخطاب السياسي. وإذا أردنا تخصيص التسمية أكثر وربطها بالعمل السياسي، نستطيع الحديث عما يعرف بـ«التربية الوطنية»، أو «الثقافة الوطنية والاجتماعية»، باختلاف تفسيراتها ومسمياتها.
إن الرسالة التربوية للفعل السياسي حاجة اجتماعية ضرورية، تصنع بتكاملها واستمرارها، سلباً أو إيجاباً، جزءاً أساسياً من البناء الروحي والعقلي للمجتمع. وتصنع في الوقت نفسه أنماط السلوك اليومي، وترسم الى حد بعيد أشكال ردود الفعل الفردية والجماعية. ويكون هذا التأثير أكبر إبان الأزمات، حينما تكون الحاجة الى صوت الزعيم، أو المُوجّه، عالية. ويكون التأثير أعظم حينما يُدخل الصراع، أو يُغلف ببعد جماعي: طائفة، منطقة، عرق، طبقة. في مثل هذه الحالات، يكون الصدى الاجتماعي أكثر مطابقة للصوت ظاهرياً. وتكون ردود الأفعال سريعة، لاواعية، منفعلة، تمارس سلوكها الخاص فردياً باندفاعات مزاجية، شخصية، تستمد شحناتها من المصدر الباعث، ولكنها قد تذهب الى حيث لا يريد المجتمع، وربما الى حيث لا يريد مصدر الصوت نفسه. وقد يصل الأمر، في ظروف خاصة، كما هي الحال في لبنان، الى ظهور وعي سياسي «مافيوي»، يقود الى نشوء تربية عاطفية، قائمة على التراتبية الأبوية، يكون فيها المواطن أسيراً لشبكة ضيقة من المصالح والتوجهات الإلزامية، والالتزامات الشرطية المتبادلة. ففي لبنان يوجد «عرساليون» _ هم في نظر أنفسهم، ونظر من هم خارجهم، قوم خاصون جداً، لهم سلوك نمطي جداً، وردود أفعال نمطية جداً، لأنهم موجودون في بيئة سياسية خاصة جداً _ وفي قلب عرسال يوجد حجيريون، وفي قلب الحجيريين يوجد رئيس بلدية يعبّر عن ضمائر الجميع، ويقود الى الشيخ مصطفى الحجيري نسباً، الذي يقود الى إبراهيم الأطرش، الذي يقود الى الشيخ عمر الأطرش نسباً. مثل هذا الأمر ينطبق، ولكن بطرق مختلفة، على سكان الضاحية، وعلى سكان جبل محسن وباب التبانة والمختارة وبشري وغيرها. إن تنميط السلوك الجمعي، انعكاس خارجي لسلسلة عمليات تكرارية تحدث في الواقع، وتنشغل بعملية ردّ العلاقات الى جزئيات بيئية ومناطقية، على حساب الروابط الوطنية المشتركة. هذا مثال مبسط على أشكال ظهور شبكة بناء الوعي الجماعي التراتبية الشرطية، وأشكال تنفيذها واستقبالها جغرافياً وسياسياً وحتى حكومياً.
عند انسداد آفاق الحل الاجتماعي، وطول الأزمات، يصبح السلوك عادة شبه ثابتة نسبياً، تُمارَس تلقائياً، حتى من دون الحاجة الى الرجوع الى المصدر المباشر، أو من دون الحاجة الى مثير ومحفز خارجيين أحياناً. لأنها تغدو جزءاً من البنية الانفعالية للأفراد، وتالياً تصبح جزءاً من منظومة الدوافع الشخصية، تنقل عدوى العام الى الخاص، والاجتماعي الى الشخصي، وبالعكس. إن أية حادثة فردية، في أية بقعة معزولة، تغدو حدثاً جماعياً عاماً، بل تغدو حدثاً تلفزيونياً يتنادى إليه برلمانيون وسياسيون ومنجمون. فلربما قادت كتابة كلمة حمقاء، مجهولة ومريبة، على جدار أخرس، الى صعود قادة كتل منصة الاتهام، بجهوزية نفسية وعقلية وحربية كاملة، وتناديهم الى ربط الكلمة بأعلى مرجع من كتلة منافسة، مصحوبة بتحشيد عصبوي، وبمطالب «تاريخية» ثأرية لا مساومة عليها البتة!
في 31 كانون الثاني كتبت صحيفة «الأخبار» النص الآتي: «رجّح البعض أن يكون تمثيل العريضي لجنبلاط بمثابة تحية من البيك الى منطقة بيصور الملقّبة لدى الاشتراكيين بـ«أم الشهداء» وإلى آل العريضي خصوصاً، الذين قبلوا قرار جنبلاط بحق العريضي ووقفوا الى جانب المختارة». هذا النص، صياغة ومحتوى ووعياً، يرسم صورة معبّرة للعلاقة التبادلية، الشبكية، بين الأعلى والأسفل، سياسياً ووظيفياً ومناطقياً ومذهبياً، ويعكس أنماط وعينا للظاهرة، التي تبدو لنا جزءاً لا صلة له بلوحة الواقع.

تناقضات التأسيس تلد تناقضات التنفيذ

حينما نتحدث عن الانسداد المجتمعي، فإننا نعني به حزمة أمور مجتمعة، تاريخية طويلة الأمد، وآنية، ثابتة وعارضة، وفنية (سبل استثمار المهارات وطرق تنفيذ ردود الأفعال) ونفسية واجتماعية. باتحادها تغدو الظاهرة قوة حقيقية، غير قابلة للإيقاف. وربما يكون المجتمع اللبناني، والعراقي بعد الاحتلال، مثالين جيدين لعملية تشابك العوامل التاريخية والظرفية، بشكل فعال، يسمح بتكرار السلوك على نحو نموذجي.
في لبنان تكمن الأزمة السياسية، من حيث الجوهر، في إشكالية بناء المجتمع سياسياً. وهي أزمة تأسيسية وتاريخية في الأصل. إن البناء العائلي، الوراثي خاصة، والمناطقي، والمذهبي أساس متخلف ومعطِّل، يفتقر الى المحركات الداخلية الجامعة، ويعيق حركة المجتمع، ويصنع تناقضات دائمة، ولا يستطيع الاستجابة بيسر لأي تغيير يطرأ على حجم وحركة وموازين وطموحات التحالفات والكتل الاجتماعية. ويزيد من الأمر تعقيداً امتداد خطأ التأسيس الى قلب عملية التقاسم أو التحاصص السياسي التاريخي، الذي يعمّق سلطة العامل الأول، ويعطيه شرعية جماعية وضغطاً اجتماعياً عالياً. لكنه يسلب الخطاب السياسي، شاء أو أبى، العنصر الجوهري في العملية التربوية: الإحساس والتعبير عن البعد الشامل، الوطني. إن صيغة الحكم القائمة على أساس مبدأ المواطنة، هي الصيغة الوحيدة، المؤسِّسة لخلية العدالة الاجتماعية والسياسية، وهي الصيغة التربوية الوحيدة، التي تضع الزعيم والمواطن في مرتبة واحدة _ نظرياً ودستورياً _ في ما يتعلق بمسألتي المواطنة والوطن. إن مبدأ المواطنة، هو توافق إرغامي أيضاً، ولكن بمركزية وطنية، تصنع الهوية الجامعة. ويبدو أن الحاكم الأميركي، الذي شرّع نظام المحاصصة في العراق، كان يهدف الى خلق مجتمع ذاتي الأزمات. مجتمع ينتج بذاته، من داخله، تناقضات دائمة ودورية، علنية وخفية، سلمية وحربية، ما يجعل السياسي منشغلاً بسبل حل الأزمات أكثر من انشغاله بسبل حل مشكلات التطور وتلبية حاجات المجتمع. أي تصبح الأزمة وحلها وظيفة السياسي الرئيسية. أما الواجب الاجتماعي والاستحقاق الوطني فإنهما يأتيان في مرتبة متدنية جداً، وفي الغالب يكونان ملحقين بالوظيفة الأولى. وإذا كانت التربية الوطنية تفسد تأسيسياً للأسباب السالفة، فإنها تتفسخ عملياً في الممارسة اليومية للسبب الأخير، حين ترتبط أخطاء التأسيس، أي الخطأ البنيوي، بأخطاء التنفيذ، أي بالممارسة الواقعية اليومية. كل هذه المشكلات، غير المنظورة _ حتى لو كانت مدركة لدى شرائح معينة _ تصبّ في ثقافة الفرد، وتصوغ سلوكه السياسي، وطرق ردود أفعاله تجاه محيطه القريب والبعيد.

فن تدمير القيم

يضيف المجتمع اللبناني الى أسباب التأسيس أسباباً أخرى، خاصة جداً، فنية بالدرجة الأولى. تتمثل هذه الأسباب في سبل وأشكال إظهار المهارات الاجتماعية، الناشئة بفعل عوامل تاريخية. إن المهارات وأساليب تنفيذها فنيّاً تكون بذاتها عاملاً جدياً خطيراً في مجال إيصال ونشر مبادئ وأنماط الوعي الاجتماعي والسياسي. في مجال السلوك وتبادل الأفكار، أضحى لبنان تاريخياً أشبه ما يكون بالسوق العربية الحرة، أو أسواق المطارات، بصرف النظر عن إيجابية هذا الانطباع الخارجي أو سلبيته، وبصرف النظر عن أسباب نشوئه. هل هو ملمح ديموقراطي أصيل، نابع من نزوع ديموقراطي داخلي وعضوي؟ أم هو حالة قسرية نشأت بحكم تعدد مراكز الحكم، وشدة تأثير سلطات المناطق والأفراد والكتل؟ مهما كان الجواب، فإنه لا يلغي الحالة، بل يثبت وجودها شكلياً، في الأقل. تحت تأثير ظاهرتي الحرية والتنوع، باعتبارهما توافقاً إرغامياً، نشأت سلسلة من المعضلات التربوية السلوكية في لبنان، وتفاقمت جراءها، بشكل لافت، بضع ظواهر لا تستقيم كثيراً مع منظومة القيم الإنسانية المتوازنة: الأولى، احتراف استنساخ كل ما هو أجنبي وتعريبه أو لبننته، ثم إعادة تسويقه قومياً. فقد أضحى لبنان ورشة كبيرة لتغيير غلف البضائع وإعادة تصديرها. ولا تختلف الظاهرة في لبنان، في هذا المجال، عن ظاهرة التقليد البضاعي في تايوان وسنغافورة، إلا في انحصارها في المجال الثقافي والترفيهي والسلوكي. وتشمل ظاهرة التقليد البضاعي وما يرافقها من إعادة تصدير كل شيء غير منتِج يقع بين الأرض والسماء، من استنساخ اللغة الى استنساخ الأخلاق والأشكال والمفاهيم. أما الظاهرة الثانية، وهي ترتبط تكوينيّاً بالأولى، فهي «الفتيشية» الثقافية، والولع المرضي بالجزئيات، من جزئيات السياسة والأمن والثقافة والنطق ونمط المعيشة الى جزئيات الجسد. وهذه الظاهرة جزء من تفردات الواقع اللبناني، تشمل طغيان الولع بالتفاصيل المخابراتية، وبالتفاصيل السياسية الشديدة الجزئية، وبالتفاصيل الجسدية المثيرة، وبالنكتة الجنسية التفصيلية العابرة للحواجز، والتفنن في عرضها على أوسع جمهور، وبالتقاط ما هو تفصيلي عالمياً والبناء عليه محلياً: رقص النجوم، غطس النجوم، حماقات النجوم وغيرها. ويدخل ضمن هذه الظاهرة تخريب هوية اللغة، واعتبار هذا التخريب الساذج إشارة ثقافية متحضرة. وهذا الولع يشمل الأفراد والمؤسسات، ويحمل في ثناياه علامات مرضية متنوعة. فإذا كانت «فنانة» ما، مولعة بتكسير اللغة، بطريقة هزلية، من دون وظيفة ضرورية، أمراً يمكن ابتلاعه بعسر، باعتبارها تخاطب وسطاً ترفيهياً، فكيف تستطيع معالِجة نفسية أو اجتماعية أو طبيبة أطفال أو تربوية مخاطبة الناس والأمهات بلغة تحشر حشراً بليداً التعابير الأجنبية، في مواضع غير اصطلاحية، مثل: «لما الصبي أوف كورس يبلش درنك كولد ووتر»، و«شور، تتحسن صحتو لما ياخد الدوا مور أند مور»! إن التفتيش عن جزئيات ورفعها الى السقف الوطني، والتباهي بإشهارها، سلوك تعويضي، يعكس الحاجة الفعلية الى جامع ورابط وطني حقيقي، وإلى وحدة تربوية وسلوكية، تصنع أطر الهوية الثقافية وملامحها على نحو متماسك. بيد أن عدم التماسك هذا هوية أيضاً، كما يعتقد البعض. وهو اعتقاد صحيح كفكرة قشرية، ولكنه خاطئ كوظيفة تأسيسية، بنيوية.

من السياسي إلى المنجّم وبالعكس

حينما تتحد «الفتيشية» والاستنساخ بنزوع ثالث، هو الميل الصاخب الى الإشهار، نكون أمام تكوين ثقافي محكم، ينظم المهارات وسبل التلقي، ويدرب ردود الأفعال على الخضوع الاستعبادي لشروط الوسط المحيط. ففي لبنان، يجوز لعائلة طفل مغتصب أن تصبح لوحة إعلامية وخبرية مشاعة ومستباحة جماعياً، بالصوت والصورة، تنتهبها بفظاظة مجمل محطات الإعلام، بكل أنواعها، من دون التزام بالضوابط الأخلاقية والقانونية والاجتماعية والنفسية، وبدرجة أساسية الإنسانية. الهوس الأحمق المسمى «الخبر العاجل»، قراءة الأبراج والفلكيون، التنجيم السياسي، سجل «غينيس» للأرقام القياسية، قطع الطرقات وسيلة للتعبير، العصبوية الفئوية وسيلة للاتحاد، تقليد الشخصيات، وتقليد المقلدين، المغنية العالمية، والفنان العالمي، والبرنامج العالمي، والأهبل العالمي. إن وجود هذه الظواهر منفردة علامة ضعف ذاتية خالية من الخطورة الكبيرة، واستغلال متخلف لعناصر الحضارة ومنجزاتها، لكن اتحادها بالعوامل الأخرى يجعل منها عارضاً مرضياً جديّاً. أما اتحادها بالعامل البيئي والاجتماعي التاريخي فيجعل منها قوة تأثير سلبي شديدة الخطورة على وعي المجتمع، وعلى سبل إدارة الحياة. هنا يغرق المجتمع بأسره في لعبة التفاصيل والاستنساخ والإشهار، فيفقد المجتمع السيطرة على مناسيب الحقيقة، ومعايير القيم، وعلى مواطن الزيف والانحراف في السلوك والوعي العام، ويفقد في النهاية بوصلته ومقدرته على التقويم. إن الولع بالأبراج مثلاً هو حاجة اجتماعية قبل أن يكون فردية. حينما كانت وظيفة قراءة الطالع ترتبط بالمنجمين وبقارئات البخت، كانت تعكس واقعاً ثقافياً وعقلياً محدداً، يسوده الجهل والتخلف وغموض المصير. ولكن حينما يتحول التنجيم الى وظيفة ثقافية، وإلى حسابات رقمية تمسخ وتهين العلم، في مجتمع يستنسخ بتطرف آخر نماذج الإسفاف الثقافي والأخلاقي العالمي، فإنه يعكس الحاجة الاجتماعية ذاتها، ولكن بثوب ثقافي مصطنع وفج ومثير للسخرية. والتنجيم السياسي لا يختلف كثيراً عن قراءة الفلك والأبراج في دوافعه وتأثيره. وهو موضوع يستحق بذاته أن يكون مادة غنية للبحث العلمي والجامعي، لما ينطوي عليه من رسائل خطيرة تتعلق بالسلوك الاجتماعي وبسبل التعامل مع وظائف العقل وإدارة المجتمع.
ولا تنحصر الخطورة هنا في كون الوعي الإعلامي المرسل الى المواطن ينبع من حاجات ووسائط محلية زائفة وغير سوية، وإنما هو أيضاً استجابة لحاجات المحيط القومي المرضية، يتم إنتاجها على الأرض اللبنانية، من طريق لبنانيين ومتلبننين. ويتم تجريبها في المختبر اللبناني قبل إعادة تصديرها خليجياً وعربياً. مؤسسات كثيرة مالية وفنية وسياسية تتولى مهمة تمويل وتسويق المنتَج الروحي المطلوب، الذي سرعان ما يتحول بدوره الى مصدر منتِج يلد قيماً جديدة زائفة ومختلة المضامين والأهداف. لكل هذه الأسباب، تغدو التربية السياسية في لبنان مهمة خطيرة. لأنها تخضع في الأساس لمعضلات التأسيس ومعضلات تنفيذ المهارات وما يصاحبها من خبرات فنية. في ظل هذا الواقع الثقافي المعقد والمضطرب والمأزوم، يتحتم أن يكون السياسي حذراً، وممحصاً، وحريصاً في خطابه، لأنه يواجه مجتمعاً ناضجاً لاستقبال التبشير عامة، والترميز السياسي خاصة، وجاهزاً بشكل تام لنثره مناطقياً، ثم إعادة اللعب به «فتيشياً»، مع رغبة قويه في الإشهار. بيد أن السياسي الذي يعيش في مثل هذه البيئة يكون، في الأعم، جزءاً منها، متماهياً معها، أو مدركاً لها، مستغلاً لطاقاتها السلبية. لذلك تغدو مشكلة توجيه المجتمع تربوياً حلقة مقفلة تماماً.
* ناقد وروائي عراقي