تتنافس الطائفيّات اللبنانيّة وتتبارز، وكل واحدة تحاول أن تثبتَ تخلّف الأخرى وأن تبرز وتثني على صفاتها هي دون غيرها. عندما كان بعض المسلمين (وبتحريض من دول ومن منظمّات إسلاميّة) يحتجّون على كتاب سلمان رشدي أو على الرسوم الكاريكاتور الدنماركيّة، كان البعض في الكنيسة (في لبنان وخارجها) يعظونهم بضرورة قبول النقد والرأي الآخر، وأن يكون دينهم رحب الصدر. لكن هذا الأسبوع شهد صخب كنسي وشعبي ومسيحي مُسيّس ضد بشارة الأسمر بسبب سخريته من الإفراط المذهل في تبجيل البطريرك صفير وفي تحويله إلى قدّيس بعد مماته: وأتت سخريته على حسابه هو، عندما سخر من مصاعبه الجنسيّة ومن تساقط شعره.لكن ردّ الفعل على قوله تخطّى المعقول في القرن الواحد والعشرين. وبيان البطريرك الماروني، ردّاً على «نكتة» الأسمر، أعادنا إلى القرون الوسطى، إذ إنه حكمَ أن الأسمر فقد «الأهليّة للاضطلاع بمسؤوليّة تتعلّق بالشأن العام». لكن ما علاقة الكنيسة أو الجامع بأهليّة أي كان في الاضطلاع بالمسؤوليّة العامّة؟ وأكّد الراعي أن أبواب بكركي ستبقى «مقفله أمامه إلى حين تكفيره وتعويضه عن خطيئته». فلنقارن هذا الردّ من البطريرك بسلوك البابا يوحنّا بولس الثاني الذي غفر للشاب الذي أطلق النارَ عليه، واجتمع البابا معه وصلّى من أجله. وهذا التدخّل السافر من قبل الكنيسة في الشأن العام يثبتُ مرّة أخرى ان كل الطوائف والأديان في لبنان سواء من ناحية عدم احترام اي فصل بين المؤسّسة الدينيّة وبين الشأن العام والمجتمع، وان المؤسّسات الدينيّة تقحم نفسها دائماً في ما لا يعنيها ـــ أو في ما لا ينبغي أن يعنيها، لكنها ترى أن ليس هناك تحت الشمس ما لا يعنيها. الأديان والطوائف في لبنان تقبل النقد والسخرية من رجال الدين فقط إذا كانوا من دين وطائفة أخرى، ويثورون لو أن النقد والسخرية طالهم هم. والبطريرك الراعي هو الذي كان وراء مشروع إنزال «الحرم الكبير» على مَن ينتقد البطريرك في عهد سلفه (طبعا، حضر عبده أبو كسم الإعلان يومها، إذ إنه لا يفوّت إعلان قمع أو مراقبة أو حرم). لكن عندما يتدخّل رجال الدين في السياسة ـــ والبطريرك يتدخّل منذ إنشاء الجمهوريّة ـــ يصبح لزاماً على الناس التمتّع بحريّة نقد والسخرية من كل رجال الدين، المسيحيّين والمسلمين على حد سواء. رجل الدين عندما يتدخل في السياسة يصبح رجل سياسة، ولا يجوز ان يتستّر برداء رجل الدين لحماية نفسه من النقد ومن السخرية.
إن وفاة البطريرك صفير مناسبة لتقييم علاقة الحيّز الديني بالدولة في لبنان. من المعلوم أن لبنان دولة فريدة من حيث تداخل الطوائف والأديان مع الدولة ومعارضة المؤسّسات الدينيّة لعلمنة الدولة والمجتمع. والأحزاب اليساريّة في لبنان تقاعست عن دفع العلمنة، والشيوعيّون هادنوا الأديان والطوائف لأسباب سياسيّة. وقيادة كمال جنبلاط للحركة الوطنيّة كان من الطبيعي ألا تدفع بالعلمنة عميقاً، وأن تكتفي الحركة بشعار «إلغاء الطائفيّة السياسيّة» على أساس أن الأنواع والأصناف الأخرى من الطائفيّة صحيّة للمجتمع والدولة.
وما عبَّر عنه الأسمر بطريقته السوقيّة (لماذا اعتبرها البعض ذكوريّة؟ هل السخرية من رجل لضعفه الجنسي هي من الذكوريّة، خصوصاً أنه قرن ذلك بالشكوى من الصلع؟) هو ما غاب عن التغطية الإعلاميّة. إن وسائل الإعلام اللبنانيّة (لا بل والسعوديّة لغاية في نفس محمد بن سلمان) تطرّفت كثيراً في تبجيل وتعظيم وتقديس البطريرك الراحل. وما يزيد في حدّة المبالغة أن محطة الانعزاليّة اللبنانية الطائفيّة، «إل.بي.سي.» (والتي يحلو لها متى تشاء أن تتزيّن بلباس المجتمع المدني) تتنافس في جذب الجمهور الطائفي مع محطة أخرى للانعزاليّة اليمينيّة الرجعيّة، أي «إم.تي.في.». وهذا التنافس يدفع ثمنه المشاهد والمشاهدة من مبالغة في تعظيم البطريرك وفي تصنّع الإيمانيّة وفي تغطية حوادث السير في مناطق معيّنة (ذات أغلبيّة طائفيّة واحدة) دون غيرها من المناطق. وتظهر الطائفيّة في المحطتيْن أكثر ما تظهر في الغلبة الطائفيّة الواحدة للعاملين والعاملات فيها، خلافاً لمحطة «المستقبل» و«الجديد» اللتيْن تتمتّعان بتنوّع طائفي في التوظيف.
كاتب سيرة صفير، يقول إن جعجع وصفير لم ينسجما على الصعيد الشخصي لغياب الكيمياء بينهما


والمفارقة لا تصبح مفارقة عندما تتكرّر، تصبح عادة متأصّلة. موقف الليبراليّين والعلمانيّين من 14 آذار (ويمينها المُرتدي لباس يساريّة أو مدنيّة مزيّفة بناءً على أحوال الطقس) كان متوقّعاً: اختفت كل جماعة جوقة «جو سوي» الذين دافعوا عن حق مجلّة فرنسيّة في إهانة المسلمين والإسلام. ماذا كان سيكون موقف هؤلاء لو أن الأسمر أطلق نفس النكتة والسخرية ضد علي خامنئي أو حسن نصر الله مثلاً؟ ألم يكن كل هؤلاء قد تجمّعوا، بإمامة السفير السعودي، في ساحة من ساحات بيروت ورفعوا الأقلام والرايات الخضر؟ لا، أسبغ بعض هؤلاء المديح على البطريرك ودافعوا عن تجريم مُطلق النكتة وتذكّروا فجأة سوء إدارته وفساده في الاتحاد العمّالي. الأسمر كان يجب أن يُعتقل ويحاكَم، لكن ليس على نكتة بل على استئثاره بتمثيل مزيف للحركة العمّالية والمُسيّر تحت راية سلطة سياسيّة.
ولا شكَّ في أن مراثي البطريرك من قبل ساسة لبنان شابها الكثير من النفاق. وليد جنبلاط يجعل من نفسه المُعجَب الأكبر بصفير، وهو لا يتوقّف عن التذكير المملّ بـ«اتفاق الجبل»، ويتناسى تاريخاً طويلاً من الإهانات التي كان قد وجّهها إلى صفير وإلى الكنيسة والى الطائفة المارونيّة. النفاق في أن «القطاع العمّالي» في الحزب التقدّمي الاشتراكي أدان واستنكر واعترضَ على سخرية بشارة الأسمر، وطالب بإنزال أشدّ العقوبات به من دون مقارنة ما قاله الأسمر بما قاله جنبلاط قبل سنوات. وبعض انتقادات جنبلاط لصفير عبر السنوات كانت أصحّ وأحقّ من مدائحه المتأخرة؛ ففي عام ١٩٩٤، يوم اعترض البطريرك على تجنيس مسلمين لأنهم «لم يتشبّعوا من روح» لبنان, ردّ عليه جنبلاط بالقول: «إن هؤلاء (المجنّسين) أوباش لا يحسنون استعمال الشوكة والسكين، هؤلاء لا يتكلّمون اللبنانيّة…يجب أن يمرّوا على مختبر (لفحص الدم في بكركي) و…الكسليك» («النهار»، ٢١ تمّوز، ١٩٩٤). والذي أطلق وصف «الحويك الصغير» على صفير كان وليد جنبلاط. أما نبيه برّي فقال عن صفير «إن مارونيّته تتقدّم على لبنانيّته» (أنطوان سعد، «السادس والسبعون», جزء ١، ص.١٦٤). وقال جنبلاط عن صفير إنه «كان مع الطائف ثم انقضَّ عليه وهو لا يدري ماذا يريد» («الحياة»، ١٨ كانون الأول / ديسمبر، ١٩٩٢). أما عن الجيش السوري في لبنان فقد كان جنبلاط من أشدّ المتعصّبين لوجوده الأبدي، وردّ على البطريرك في هذا الشأن قائلاً: «لماذا لا تبدر كلمة جيش إسرائيلي أو أنه يحدد فقط الجيش السوري؟ يريد أن ينسحب الجيش السوري، فماذا سيحصل لنا»؟… لو عادت لي، لأنشأتُ وزارة إصلاح زراعي في لبنان وأمّمتُ كل أملاك الكنيسة ووزعتها على الفقراء من المسيحيّين» («السفير»، ١٣ كانون الأول / ديسمبر، ١٩٩٣). ولم يكن البطريرك يكنّ الكثير من الودّ لجنبلاط الذي قال عنه إنه «متقلّب في آرائه وقادر على اتخاذ الموقف ونقيضه في غضون ساعات» (أنطوان سعد، «السادس والسبعون: مار نصر الله بطرس صفير»، الجزء الثاني، ص. ٣٠١). كم تكون الحياة السياسيّة مسليّة أكثر لو أن الساسة ورجال الدين يتحدّثون في العلن كما يتحدّثون في السرّ.

البطاركة والتاريخ السياسي المعاصر
لعب البطاركة أدواراً سياسيّة متباينة في التاريخ السياسي المعاصر للبنان. كانت الدولة الفرنسيّة ترعى البطريركيّة وتتعامل معها كوسيط بينها وبين المجتمع الذي كانت تتوجّه له بالمخاطبة، وحده دون الطوائف الأخرى الهامشيّة يومها. قال البطريرك عريضة في فرنسا: «الفرنسيّون كانوا ولا يزالون أصحابنا وقد خدموا لبنان خدمات جليلة ونفعونا نفعا جزيلاً» («المعرض»، تشرين الثاني، ١٩٣٢). والبطريرك لم يكن مُنتخباً دوماً (كانت الفاتيكان تعيّن، وكانت تاريخيّاً ترسل مبعوثين للتأكّد من مسيحيّة الموارنة، كما فعلت في عام ١٥٦٧، عندما عهدت إلى وفد (بعد أن طلب البطريرك الجديد، مخايل ابن الرز، درع التثبيت) لأن الريبة راودت الفاتيكان من «إيمان البطريرك». وفي حقب أخرى كانت تشاع في الفاتيكان أخبار عن أن «الموارنة حادوا عن الإيمان» (ميشال عويط، «الموارنة»، ص.١٠١ و١٠٣).
ولم يكن الفصل بين رجل السياسة والبطريرك سهلاً في مراحل معيّنة. البطريرك المعوشي، مثلاً، كان يدخل ويتدخّل في تفاصيل الحياة السياسيّة وفي التعيينات (ورأى فيه المبعوث الأميركي، روبرت ميرفي، في عام ١٩٥٨ أنه رجل سياسة). ولأن حقبة المعوشي جعلت من البطريرك زعيماً سياسيّاً يُحسب له حساب ولا يتورّع عن مصادمة زعيم ماروني استدارت من أجله سيّدة حريصا، فإن خلفه، البطريرك خريش، (الذي لم يعد هناك مَن يتذكّره بالخير مع أنه كان من القلائل الذين تبصّروا مبكّراً في الأزمة اللبنانيّة وحذّر أيضاً، مثل ريمون إدة،من صراعات زعماء الموارنة) أُريد له أن يكون النقيض، أي أن يبتعد عن السياسة.
زعماء الموارنة الانعزاليّون، من الكتائب والأحرار الى الرهبانيّات المارونيّة، الذين دشّنوا العلاقات مع العدو الاسرائيلي وخزّنوا في أديرتهم السلاح لميليشيات اليمين، هؤلاء كرهوا البطريرك خريش. هم كرهوه من البداية لأنه عمل في فلسطين قبل احتلالها وشهد على جرائم الصهيونيّة، وتعرّض لإطلاق نار من قبل العصابات الصهيونيّة. البطريرك الذي عمل في جنوب لبنان وفلسطين ترأسَ لجنة بابويّة لرعاية وإغاثة اللاجئين الفلسطينيّين بعد النكبة، كما أنه عمل على رعاية النازحين الفلسطينيّين مرّة ثانية بعد حرب ١٩٦٧ وشارك مع موسى الصدر في تشكيل «هيئة نصرة الجنوب». لكن اليمين الانعزالي حكمَ ضدّه مبكّراً وشكّك في نيّاته. كان سليمان فرنجيّة يقول عنه: «حتى رشيد كرامي لا يقول «إخوتنا الفلسطينيين» فيما خريش لا يشير إليهم إلا بـ«إخوتنا الفلسطينيين» (أنطوان سعد، «السادس والسبعون»، ص. ٦٣). لكن جريمته الكبرى أنه في لقاء شهير عشيّة الحرب، رفض تسخير الموارد الماليّة للكنيسة من أجل تسليح الميليشيات التي أدارها زعماء الموارنة المصمّمين على شنّ الحرب الأهليّة، ورفض الانجرار لمباركة حروبهم (أنطوان سعد، جزء ١، ص. ١٥). هذا ما أخرجه عن سلطة بكركي وأصبح خريش مغرّداً خارج سربه.
لم يكن البطريرك صفير مرشحاً جديّاً للبطريركيّة. على العكس، فإن عمليّة «انتخاب» البطريرك في نيسان ١٩٨٦ كانت عرضة لتدخّلات داخليّة وخارجيّة جمّة. لم يختر الفاتيكان البطريرك، إذ علم أن الكنيسة اللبنانيّة ستعارض ذلك (وهي كانت قد اختارت البطريرك المعوشي في عام ١٩٥٥ من دون انتخاب) لكنها روّجت للمطران إبراهيم الحلو (وهو كان قريباً من خريش) فيما أيّدت الرهبانيّات المارونيّة و«القوّات اللبنانيّة» المطران يوسف الخوري. وحتى مخابرات الجيش الذي كان يديره الرئيس أمين الجميّل، تدخّلت في عمليّة الانتخاب والتأثير على الأساقفة. لكن توالي الدورات الانتخابيّة من قبل الأساقفة الموارنة من دون حصول أي من الحلو أو الخوري على أكثريّة ثلثيْ المجمع، جعلت النائب البطريركي، صفير، مرشح تسوية، وهكذا كان.
لا شكَّ في أن صفير كان زعيماً سياسيّاً متحالفاً على الغالب مع الخطّ العام لفريق «القوّات». لكن المفارقة أن كاتب سيرة صفير، أنطوان سعد، يقول إن جعجع وصفير لم ينسجما على الصعيد الشخصي لغياب الكيمياء بينهما (من ينسجم على الصعيد الشخصي مع سمير جعجع، ومن يشعر بتطابق الكيمياء مع الرجل؟). وأصبح صفير زعيماً سياسيّاً، خصوصاً أن الانقسام المسيحي في عهد الجميّل وما تلاه، وفي عهد ما بعد الطائف نتيجة نفي وإبعاد وقمع قيادات وأحزاب مسيحيّة، عزّز حكماً من موقعه ومن نفوذه. تولّى صفير دوراً شبيهاً بدور المرجع العراقي علي السيستاني: إعلان الزهد في السلطة يناقضه التدخّل في أدقّ التفاصيل السياسيّة. وقد خالف صفير قانون الانتخاب النيابي في عام 2009 عندما أصدر بياناً فريداً من نوعه في التحريض الطائفي، وذلك بطلب من سمير فرنجيّة ودوري شمعون (طبعاً، لم يعترض وزير الداخليّة، زياد بارود، على البيان قبل ساعات من الانتخاب، بسبب قربه الرعوي الشديد من البطريرك).

خلافاً لمعظم طاقم 14 آذار، لم يقم علاقات مع المخابرات السوريّة في لبنان، ولم يهادن النظام الذي أطاعه كثيرون


لا شكَّ في أن هناك صفات يمكن للمعجبين بصفير أن يشدَّدوا عليها، أنه ثبتَ على مواقفه ولم يغيَّر، وأنه، خلافاً لمعظم طاقم 14 آذار، لم يقم علاقات مع المخابرات السوريّة في لبنان، ولم يهادن النظام الذي أطاعه كثيرون. لكن موقفه من النظام السوري لا يمكن ان يُقاس في فراغ، بل في سياق موقفه من السيادة والحريّة. إن مفهوم صفير للسيادة والحريّة هو مفهوم الانعزاليّة اللبنانيّة المنقوص، إذ إنه يئنُّ من خرق السيادة من قبل سوريا ولا يعترض إلا نادراً وبأخفت الأصوات على خرق السيادة الأكبر في تاريخ لبنان من قبل العدوّ الاسرائيلي. وهذا الموقف لصفير قرَّبه إلى ميليشيات إسرائيل وورثتها في السياسة اللبنانيّة.
والكلام عن أن صفير احترم المقاومة قبل انسحاب الجيش الاسرائيلي من معظم جنوب لبنان غير صحيح البتّة. وفي عقود الاحتلال الاسرائيلي الطويلة، كان البطريرك في مجالسه (والتي ترد بعض محاضرها في كتاب أنطوان سعد) يبدو أكثر انزعاجاً من المقاومة منه من احتلال إسرائيل وعدوانها. وفي واحد من اللقاءات الأولى مع وفد من «حزب الله» في عام 1993، اعترض صفير على المقاومة، وتساءل عن فائدتها قائلاً: «إذا كانت الخسارة تفوق الربح بأضعاف، فما الفائدة؟» (أنطوان سعد، جزء ٢، ص. ١٢٤). وفي لقائه مع رونالد ريغان في 1988، قال السفير البابوي الذي رافق البطريرك إن لبنان «تحتلّه أربع قوى، السوريون والإسرائيليّون والفلسطينيّون والإيرانيّون»، لكن البطريرك في حديثه الوارد في كتاب سعد لم يسمّ من «المحتلّين» إلا طرفاً واحداً، قائلاً: «الإيرانيّون يريدون أن يقيموا دولة إسلاميّة في لبنان» (سعد، جزء ١، ص 140).
شدّدت مراثي البطريرك على أنه كان حريصا على «العيش المشترك»، وتكرّرت هذه الجملة في الكثير من العظات والتصريحات. لكن صفير هو صاحب شعار «فلينتخب المسلمون النوّاب المسلمين ولينتخب المسيحيّون النوّاب المسيحيّين»، وله آراء استشراقيّة في وضع المرأة في الإسلام، كما أنه تذمَّر علناً من نسبة الولادة المرتفعة عند المسلمين. وهو الذي يصرّ دوماً على الدائرة الانتخابيّة الصغيرة جدّاً، بحجّة أن اللبناني لا يمكن أن يعرف الساسة البعيدين عن مناطقهم. وهذا المنطق هو منطق تقسيمي طائفي، وليس منطق العيش المشترك. والأحاديث بين البطريرك وبين الحريري (والتي أورد سعد بعضاً من محاضرها) تتضمّن الكثير من الشكاوى عن بيع أراضٍ للمسلمين وعن تعيينات لمسلمين في إدارات الدولة، وفي الحالتيْن كان الحريري يردّ باتهام الشيعة بفعل ذلك.
إن موضوع العلمانيّة بات مادة سجاليّة بين الطائفيّين المسلمين والمسيحيّين. المسلمون يذكّرون بامتيازات الكنيسة، فيما يزايد البعض على المسلمين بالقول إن الإسلام لا يسمح بفصل الدين عن الدولة. لكن اعتراضات الكنيسة الرسميّة على أفلام وكتب وعلى تصريحات ونكات لا تعجبها تسخر من زعم قبول الكنيسة ودعاتها بفصل الدين عن الدولة. على العكس، إن مناسبة الحداد على البطريرك صفير تشير إلى موقع البطريرك السياسي لو أراد. إن القيادات الدينيّة الإسلاميّة الرسميّة معروضة في أكثرها للبيع والإيجار، وهي خاضعة للأحزاب المدنيّة أو الشخصيّات المدنيّة أو لبلاد خارجيّة تموّلها. ليس هناك من زعيم في الطرف الإسلامي يتبع لمرجع ديني، وهذا حسن. إن قدرة لبنان على التخلّص من سطوة رجال الدين السياسيّة هي خطوة على طريق الفصل بين الدين والحكم. أما صفير، فقد كان فوق السياسيّين المسيحيّين أنفسهم. ترى الكثير من المثقّفين المسيحيّين (المولد والإيمان) يزورون البطريرك للتبرّك، خصوصاً إذا كانت لديهم طموحات سياسيّة. والبطريرك بدأ منذ ١٩٨٨ بتقديم قوائم ترشيحات رئاسيّة، وامتعض في ١٩٨٨ لأن قائمته لم يُؤخّذ بها. هل يمكن أن يقرّر الشيخ عبد الأمير قبلان شخصيّة رئيس مجلس النوّاب أو أن يقرّر المفتي عبد اللطيف دريان شخصيّة رئيس الحكومة؟ حتماً لا، لكن هذا لا يعني أن الواقع الإسلامي منفصل عن الدولة، خصوصاً أن رجال الدين ورؤساءهم يتلقّون رواتب من الدولة وتستفيد محاكمهم الدينيّة ماديّاً من عدم وجود محاكم مدنيّة في لبنان. لكن البطريركيّة المارونيّة ودورها السائد تدحض القول إن الواقع المسيحي متقدّم في العلمانية عن الواقع الإسلامي.
لا، لم يكن تكريم صفير وتعظيمه محلّ إجماع، ولن يكون (حتى لو بدأ البحث حثيثاً من الآن لتحديد خوارق ومعجزات ثلاث). يتذكر الكثير من اللبنانيّين مواقفه المهادنة للعدوّ الاسرائيلي، ويتذكّرون أيضاً أن الحريص على السيادة عاد في حمأة حرب تمّوز على متن طوّافة عسكريّة أميركيّة، وطمأن اللبنانيّين إلى أن المحافظين الجدد الذين التقاهم في واشنطن حريصون على لبنان ولا يريدون وقفاً للنار قبل التأكد من مضمونه وفق شروطهم (التي وصفها بأنها «معقولة ومقبولة»، أي شرط نزع سلاح حزب الله، الذي كان مرادهم). ويتذكّر اللبنانيّون تاريخاً غير مكتوب بعد من التواطؤ والتعاون والتحالف بين البطريركيّة المارونيّة والحركة الصهيونيّة قبل تأسيس دولة العدو وبعده. ومسموح أن يُكتب عن ذلك وعن الاتفاقيّة المُوقّعة بين «الوكالة اليهوديّة» (الدولة قبل إنشائها) وبين البطريركيّة في عام ١٩٤٦، لكنه ممنوع علينا الحديث عن ذلك. وهو أبَّن رسميّاً مجرم الحرب العريق، عقل هاشم، وقال عنه بلسان ممثّله المطران مارون صادر: «إن غبطة سيدنا البطريرك كلفني أن أنوب عنه وأن أترأس هذه الحفلة الجنائزيّة، وأن أقدّم لعائلته ولجميع المفجوعين به تعازيه الأبويّة، وأن أعرب لكم في هذا الظرف الصعب عن عواطفه وعن محبته وتضامنه معكم. أتوقّف عند حياة الفقيد الفاضل، لقد عرفته كما عرفناه رجل إيمان وأباً عطوفاً حنوناً وإنساناً محباً للجميع، لقد غسل بدمائه تراب هذه المنطقة». وكان المجرم هذا يحمل الجنسيّة الاسرائيليّة.
لم تغفر الكنيسة لبشارة الأسمر نكتة، وهل من المطلوب أن نغفر نحن، خصوصاً أهل الجنوب اللبناني الذي عرف حقّ المعرفة جرائم العدوّ وجرائم أدواته عبر العقود، تبنّي البطريرك صفير لمجرم الحرب عقل هاشم؟ حتماً، لا. والغفران شأن ديني أساساً.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)