سقوط حكم العصابات وتفكيك اقتصاد الباروناتسقطت «العصابة» وتهاوت أعمدتها وكُشف الحجاب عن نجاسة فعلها الذي يشمل النسيج الاقتصادي المرتبط كليّاً بالتركيبة البيروقراطية للدولة، التي تحتمل الإدارة والجهاز السياسي التنفيذي والتشريعي والقضائي المتشعّب في الحقل الإعلامي والثقافي وفي المعارضة الشكلية (التوثيقية).
إن العلاقة الحركية بين هذه المؤسّسات تمثّل ما يصفه الجميع بالنظام أو ما أجمع الجزائريون على حتمية إعادة تشييده، بعدما علم الجميع إلزامية دحره بالنظر إلى درجة تسوّس أطره وعمق فساد عرّابيه ودرجة خطورة حساباته.
هذه «العصابة» التي باتت تشكّل قلب النظام الذي كان يتحكم في السلطة، وهذه السلطة التي كانت تتحكم في كامل أذرع الدولة وترسم خطوط السياسة الاقتصادية والاجتماعية والدولية، بما لا يتناسب مع مصالح الجماهير الشعبية وبما يتنافى مع العقل الاستراتيجي الوطني. منذ خمس سنوات على الأقلّ بدت واضحة نيّة وبوادر تفكيك الدولة القومية الاجتماعية بكل الوسائل المتاحة، كما بدت جليّة ملامح استقواء الطابور الخامس بتواطؤ من كبار «الكوادر الليبرالية» المنفردة بالصلاحيات الرسمية وباستعمال النفوذ. سمح هذا الأمر بتحويل المال العام وتبديده بالتحكّم الخاص في المشاريع والسوق الوطنية، ما هيّأ تخصيص جهاز الدولة وتملّك الرساميل السيادية والمرافق العمومية لإشباع لهف العصابات المخرّبة التي حاولت مراراً إخضاع القوى المنتِجة لقانون الربح الجائر ومنطق «الرّق المعاصر». لكن الجماهير الشغّيلة قاومت بصبر وحكمة طوال سنوات خلت على كل الجبهات ووقفت سدّاً منيعاً أمام هجمات همجية منطق السوق السلعية والهيمنة المالية.
جرم الاقتصاد- السياسي مع سبق الإصرار يبدو واضحاً عندما نلتفت لدرجة تدمير القطاع العام المنتج (بيع العقار الصناعي، الخصخصة، المحاباة التجارية، المحسوبية...)، صرامة تطبيق وصفات «صندوق النقد الدولي» المضادة للجماهير، والذي اشتهر الوزير الأول السابق صاحب المهمات القذرة المكروه شعبياً و المتابَع قضائياً، بتعلّقه المتعصب بها. كما تم إضعاف التحصين على قطاعات حساسة مثل الصناعة المنجية بتخفيف الضوابط البيئية الوقائية، وأخرى حيوية كالموارد المائية المسيّرة عشوائياً وقطاع الفلاحة والتغذية، أين غرست جذور التبعية للسوق العالمية عميقاً بعد اتّباع برامج «البنك الدولي» وإثراء عصابات النهب على ظهر الشعب الجاهد وبأمواله.
يمثّل الحضور الدائم للراية الفلسطينية رمزاً للتشبّث بالقضية المركزية وبالمبادئ الراسخة في دعم القضايا العادلة


إذا نظرنا إلى النشاط المصرفي المسيّر من الدولة، التي تمكّنت العصابات المندسّة في أجهزتها عن طريق البنك المركزي من منح مبالغ خيالية على شكل قروض تم تهريب أكثرها إلى ملاذات الجباية الأجنبية، ولم يتم تسديد سوى جزء ضئيل منها لحد الساعة. كما فوجئنا باكتشاف نظام ماليّ موازٍ تقوده بنوك عربية وخبرات غربية ونخب إدارية محلية في سبيل التصحير الممنهج للمخزون الوطني ودفع الأوضاع نحو التأزم وربما البلقنة والفوضى الخلّاقة. لكن الشعب تفطّن وتيقّن. أمّا الجباية فلاحظنا أن العامل يدفع ضريبة دخله العام من منبع راتبه الهزيل، وأن أغلب كبار المتعاملين الاقتصاديين استفادوا من امتيازات خيالية وعلى ظهورهم مستحقات بمليارات الدولارات تنتظر التسديد، هنا نتساءل عن العدالة الضريبية ونترقّب محاكمة الاقتصاد السياسي ذي المنهج الليبرالي الجديد في الجزائر. المذهب الذي ميّز حقبة الفساد والدمار الشامل للمجتمع الإنساني، لقواعده وقيمه، لشروط قيامه وللبيئة التي تضمن تنظيمه واستمراره في هذا العالم القديم العاجز، الذي يغرق في تناقضاته وفي دماء الأبرياء، وينهار تحت ثقل مقاومة الشعوب من أجل واجب العدالة والحق المشروع في الحياة الكريمة.

الشعب في قلب الميزان السياسي
لعلّ الظاهرة الأهم التي يبثّها الحراك الثوري الشامل في الجزائر هو توضيح مفهوم جوهري، متداول، وغامض عبر الأزمنة في علوم الإنسان وفنون السياسية، وهو مفهوم «الشعب»، وكان اصطلاحا نظرياً بالغت في التغنّي به و تجميله التيارات الرومانسية، ثم أفرطت في تمجيده وتعظيم خصوصياته الراسخة القوميات التوسعية الإقصائية، كما طعنت في واقعيته العملياتية المادية التاريخية باستعمال تفسيرات عدة، أشهرها منهج فلسفة التاريخ الحديثة التي رسّخت مبدأ الطبقات، وموازاتها وصراعها المستدام على حلبة المجتمع البشري، وبالتالي استنتاج «ضعف علمية» و«خيالية» فرضية الكائن الاجتماعي «الأسطوري» المكنّى شعباً. هذا حتى ظهرت للعين المجردة صور الشوارع الجزائرية المكتظّة بالحشود البشرية من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، في هذا البلد المترامي الأطراف والموحّد في الطموح والمطاف. ما لمع حدس ابن خلدون في إثبات مركزية ملكة «العصبية» في حسم الصراع الاجتماعي السائد في العمران البشري ورسّخ فكرة ماركس في «الحزب التاريخي» الذي يمثل «الحركة الذاتية للجماهير الكادحة في سبيل انعتاقها».
بيّنت الحركة الجماهيرية الراهنة في الجزائر وعي المصير المشترك وحسّ التاريخ الجماعي وإرادة التشييد التعاضدي لغد أفضل في ظل رحمة الاختلاف والتنوّع الحركي الثقافي والفكري، ما أسس لهوية وطنية حية تنمو وتتطور لتحصين أمّة ناشئة من شر الفتنة والتقسيم. فكانت فطنة سياسية ترجع إلى الأساس لاستكمال التمتين، كما كان ارتفاع سقف الوعي بالخبرة النضالية المتراكمة بمثابة خير تكوين. فخلال أسابيع عدة تسارعت فيها الأحداث وساد سلوك تجنّب المخاطر الخارجية بسلمية الدبلوماسية الشعبية، كما أنتج الفهم الحسي بتعقيد السياق ذكاء عفوياً حذراً شلّ تربصات كل أطراف الكمائن.
هكذا كان الأمس الثوري قائماً على يد جيل الغد، والذاكرة المجاهدة حاضرة في درب المستقبل العادل للكلّ بتضافر عمل الجميع لاستكمال بناء أمجاد الأجداد ووفاء لدماء شهداء كل الكفاحات؛ كما يمثل الحضور الدائم للراية الفلسطينية رمزاً للتشبث بالقضية المركزية وبالمبادئ الراسخة في دعم القضايا العادلة، ابتداء بذوي القربة في الريف المكبّل وفي الصحراء الغربية وفي السودان واليمن الصامد ولبنان المقاومة وفي فنزويلا وكوريا الوحدة... ضد جور وغطرسة الاستعمار وقوى الدمار الخارقة للأوطان.

الدفاع الجماهيري عن الدولة الاجتماعية
ظاهرة أخرى تستحق التوقف عندها، هي التعلق الشعبي بالملكية الاجتماعية وبالمرافق العمومية، ما تجلّى في حرص الجماهير الكبير على الحفاظ على الأملاك العامة وحتى الخاصة. برهن هذا السلوك الكلي والدائم، اليقين السياسي الدقيق والإدراك العميق لمعنى الدولة الاجتماعية المرسخ في بيان الفاتح نوفمبر، وعلى الإحساس بالمسؤولية التاريخية في الدفاع عن مكسب الاستقلال، والحرص على السيادة الوطنية واسترداد سيادة الشعب على مقوماته بممارسة الحق الجماعي المشروع في التسيير التشاوري التشاركي، وكذا الرقابة الشعبية الدائمة.
شاعت مظاهر التكافل والتضامن الشعبي في الاعتصامات والإضرابات والمظاهرات، وشوهدت في كامل التراب الوطني وفي كل القطاعات ولعلّ جذورها تعود إلى مكتسبات العقلية الجماعية الأصيلة، وإلى مبادئ الإسلام الحنيف المعتدل المنتشر في بلادنا وإلى ما عاشه الشعب الجزائري من قيم اشتراكية مناهضة للاستعمار والإمبريالية. أثبتت الحركة الشعبية الحاشدة في الجزائر المسيّرة ذاتياً، وعياً سياسياً حضارياً وإنسانياً، مبتعداً عن كل أشكال الإقصاء والتمييز.
كما أكّدت قدرة الجماهير الشعبية على قلب موازين القوى الاجتماعية وإخضاع قوى المال الفاسد المرتبطة عضوياً بالدوائر الخارجية المهيمنة على النظام العالمي الرأسمالي. فعندما يقول الجمهور الثائر سلمياً بوجوب إسقاط عصابة البطش والنهب التي باتت تسطو على مقدراته وثرواته وتدمر طاقاته وتحارب حتى مبادئه وتاريخه، وعندما يليه الجيش الشعبي الوطني باتهام العصابة بالتآمر على الشعب ودولته بهدر أمواله وبإضعاف مؤسساتها، فهنا ينتهي النظام الفاسد وتدخل السلطة في أزمة خانقة إذ لم يعد في إمكان من في أعلى الهرم استكمال تسيير الأمور حسب النهج المُعتمد. وعندما ترفض الطبقات السفلى والمتوسطة كل رموز الحكم وتطالب بمحاسبتها وعندما تصطف المؤسسة الوحيدة التي تمتلك شرعية وظيفتها وراء مطالب الثورة الشعبية، فإن الموازين قُلبت والخطوة الأولى قطعت.
فالمفهوم هو حتمية حلف استراتيجي وجودي بين الأقطاب القومية الشعبية تحت لواء الجماهير الشعبية المتحرّكة وطموحاته الشرعية في حماية مكاسب الاستقلال وتعميق محصلة النضالات الاجتماعية من خلال الاستجابة للحاجة الشعبية بإعادة التشييد المؤسساتي السليم وتكريس مبدأ التخطيط التنموي تحت ظل الدولة الاجتماعية وسقف المساواة المدنية.
* كاتب وباحث جزائري