في لحظةٍ ما، حين تراقب ما يجري في العالم الأوسع، ونُذر الصراعات وسحب التغيير، قد تنسى نفسك للحظة وتصيبك الحماسة وأنت تنتبه الى أنّنا دخلنا، من غير شكٍّ، في «أزمنةٍ مثيرة» سنعيش فيها ما تبقّى من حياتنا، بحسب التعبير الصيني الشهير (قرأت عن عبارة «عسى أن تعيش في أزمنة مثيرة» أنّها تستخدم كدعوة لشخصٍ تحبّه، وقرأت في مكانٍ آخر أنّها تطلق كلعنة). بالمعنى الفكري على الأقل، فإنّ المراحل التي يتفكك فيها الإجماع، وتظهر التناقضات، وتبدأ الشروخ بالظهور في العالم، هي ذاتها المراحل التي تشهد انتعاشاً للفكر السياسي والطروحات الجديدة، ويتمّ فيها نقض «البديهيات» التي لم تعد صالحة لتفسير ما يجري. من هذه الزاوية، فإنّ أسوأ الحقب قطّ بالنسبة الى الجدل السياسي والحيوية الفكريّة هي تحديداً مرحلة «الهيمنة المطلقة» التي عرفناها لثلاثين عاماً أو يزيد، وولد أكثرنا خلالها ولم يعرف غيرها. ولكنّك سرعان ما تنتبه الى أنّك - بالمعنى الشخصي والمباشر - موقعك هو في قلب الميدان الذي قد يشهد انفجار هذه «الأحداث» وتحوّلها الى عنفٍ وحروب، إذ إنّك تقطن بالتحديد بين حجرَي الرّحى.
الصين
ما كاد الناس يستوعبون فكرة أنّ هواتف «هواوي» الصينيّة سوف تُعزل عن برامج «غوغل» وتطبيقاتها حتّى رشح أنّ نطاق العقوبات الأميركية ضدّ الشركة الصينيّة أكبر وأوسع. الشركات الأميركية التي تزوّد «هواوي» بمعالجاتها ومعدّات أخرى بالغة الأهمية - لا فقط للهواتف، بل ايضاً لشبكات الاتصال التي تبنيها «هواوي» حول العالم - سوف تُمنع من التعامل مع الصينيّين. المسألة بالنسبة الى «هواوي» ليست هيّنة: حتّى لو خرجت بنظام تشغيل خاصٍّ بك ومستقلّ عن «اندرويد» (و«هواوي»، كما ذكرنا سابقاً، تعمل على برنامجٍ بديلٍ من هذا النوع - اسمه «هونغمِغ» - تحسّباً لهذا اليوم منذ عام 2012، السنة التي مُنعت فيها من دخول السوق الأميركي)، فأنت لن تقنع الناس بسهولة، وبخاصّة خارج الصين، بالتخلّي عن كامل تقديمات «غوغل» وتطبيقاتها (من «غوغل بلاي» الى البريد الالكتروني الذي يعتمده أكثر الناس حالياً). منع الشركة الصينية من الحصول على قطعٍ أساسية لتصنيع هواتفها وشبكاتها - كالمعالجات - يخرّب كامل سلسلة الانتاج.
على الهامش: لو أرادت إدارة دونالد ترامب أن تمضي الى النهاية في خطّة «العزل التكنولوجي» للصّين، فإنّ المسألة ستزداد تعقيداً ولن تكون هناك بدائل سهلة، بل اشتباك تجاري وقانوني يشبه ما يجري منذ سنواتٍ مع إيران. على سبيل المثال، شركة «هواوي» تنتج ايضاً معالجات لحسابها حتّى لا تعتمد حصريأً على مزوّدين أميركيين مثل «كوالكوم» و«برودكوم»، ولكن هذه الشرائح - كما تنبّه «ذا ايكونوميست» - يتمّ صنعها أساساً عبر شركة تايوانيّة، من السهل أن يطالها الحظر الأميركي. شبكات الانتاج في هذه المجالات التقنية معقّدة وفيها أكثر من «عنق زجاجة»، إلى درجةٍ تجعل أي حرب عقوباتٍ كارثيّة وبالغة الكلفة على كامل القطاع. كمثالٍ آخر، حتّى لو أرادت الصين الاستثمار في بناء معامل صينيّة تنتج الشرائح الدقيقة والمعالجات المتقدّمة لحسابها، فإنّ هناك شركةً واحدة في العالم بأسره، هي هولنديّة، تصنع وتورّد الى هذه المعامل معدّات «الحفر» (etching) البالغة التعقيد، وهي تنحت شرائح السيليكون على مستوى ميكروسكوبي ضمن أنماط معيّنة. وهناك شركتان فحسب، والاثنتان في أميركا، تنتجان الماكينات التي «تصبّ» المعادن في هذه النتوءات، ليتحوّل لوح السيليكون الى شبكة من مليارات الترانزيستورات. سيكون على الجميع أن يختار مكانه في هذا العالم الجديد، والتكيّف مع واقع الحرب التجاريّة والعوائق التكنولوجية سيكون طويلاً ومكلفاً. على المقلب الآخر، يجب أن لا ننسى أن الشركات الأميركيّة التي سيُمنع عليها التعامل مع الصين لا تريد مثل هذه الاجراءات، وبعضها - مثل «نيوفوتونيكس»، التي تصدّر معدّات دقيقة لبثّ الاشارات في شبكات الارسال - تعتمد بشكلٍ كليّ على الزبون الصيني، وقد تواجه الإفلاس من دونه.
ولكنّ المسألة تتجاوز «هواوي» وسوق الهواتف؛ فترامب قد أعلن بوضوح - وقراراته الرئاسية الأخيرة لم تكن سوى بناءً على تراكم - نهاية الرأسمالية المعولمة كما نعرفها، وبداية حربٍ طويلة مع الصّين. وما يجري الآن هو مجرّد مقدّمة وبداية (الصينيّون التقطوا الرسالة، إذ تخبّر الوكالات أن التلفزيون الرسمي في الصّين - حين تعرقلت المفاوضات حول الجمارك وأخذ الأميركيون موقفاً تهديدياً - غيّر جدول برامجه وبثّ أربعة أفلام «معادية لأميركا» خلال فترةٍ قصيرة. وهذا كلّه قبل قرارات «هواوي»). النشرات الاقتصادية التقليدية (مثل «بلومبرغ» و«فاينانشال تايمز» و«ذا ايكونوميست» وغيرها) لا تملك بعد «اللغة» لمناقشة ما يجري وتفسيره، وهي قد منّت النفس مطوّلاً بأن تكون كل هذه الخطوات هي محض مناوراتٍ قبيل توقيع اتفاق تجاري جديد وعودة الأمور الى طبيعتها - والمسألة تزداد صعوبةً حين تكون الصين هي من يريد اللعب وفق قوانين التجارة والتبادل الحرّ، فيما أميركا هي من يفرض الحمائية والمقاطعة تحت حجج الأمن القومي.
كما يقول ستيف بانون في خطاباته مؤخّراً، فإنّ ترامب يريد «تصحيح» جملةٍ من الافتراضات الخاطئة قامت عليها السياسة الأميركية تجاه الصين منذ عقود، ولم يعد في الوسع تجاهلها بعد أن أصبح «الصعود الصيني» تهديداً ماثلاً وحقيقياً (وهذا الاعتقاد يتشارك فيه، اليوم، الجمهوريون والديمقراطيون). أحد هذه الافتراضات هو فكرة أنّ النظام الصيني «سيتغيّر» تبعاً لتحرير الاقتصاد والازدهار والنموّ (المعنى هنا ليس «التحوّل الديمقراطي»، بل أساساً أن يتمّ التخلّي عن القطاع العام، وتترك الدولة «القمم الحاكمة» في الاقتصاد للبرجوازية المحلية، وتحرّر القطاع المالي والمصرفي والعملة لتندمج الصين بشكلٍ حقيقي، وغير قابل للتحكّم فيه، في المنظومة المالية المعولمة). ومنها أيضاً افتراض أنّ الصّين - لأنها انطلقت من حالة فقر وتخلّف - سوف تنمو في البداية، ولكنّها ستصطدم سريعاً بسقفٍ ويتباطأ نموّها، ولن تعبر الى مجال التقنيات العالية، ولن تشكّل منافساً للاقتصادات المتقدّمة (بل إنّ التوسّع النسبي في السوق الصيني سيجعله زبوناً مربحاً للشركات الغربية الكبرى).
الخسارة الحقيقية عند الايرانيين هي ليست في أن تحصل الحرب، بل في أن يستمرّ الوضع القائم


من هنا، عام 1978 أو في التسعينيات أو في 2001 - السنة التي وافقت فيها أميركا على دخول الصين الى منظمة التجارة العالميّة - كان من المفهوم أن ترى واشنطن في الانفتاح على الصّين غنماً، وأن تكون هي من يدفع الصين الى استقبال الشركات الأميركية وفتح سوقها لأمثال «غوغل»؛ ولكنّ الآية قد انقلبت بشكلٍ كاملٍ اليوم، وهذا يتطلّب تخلّي اميركا عن خطاب «التجارة الحرّة» وفتح الأسواق وأهمية القواعد والقوانين الدولية. حتّى نفهم مستوى التحدّي الصيني، تخيّلوا أنّ «هواوي» في ربع السنة الأخير (مع أنّها معزولة فعلياً عن السوق الأميركي الهائل والمربح) قد انتزعت مجدّداً الموقع الثاني في عدد الهواتف الذكية المبيعة عالمياً من «آبل» الأميركية. ومبيعات «هواوي» ارتفعت بأكثر من 50% في حين انخفضت مبيعات «آبل» بمقدارٍ الثلث. أكثر من ذلك، فإنّه عدا عن «آبل» و«سامسونغ» الكوريّة، نجد أن كلّ الشركات التي تحظى بحصة معتبرة من السوق العالمي هي الأخرى صينيّة. بالمناسبة، أنا أفهم أن يفضّل الناس في أوروبا وغيرها أجهزة «هواوي» و«اوبو» و«فيفو» الصينيّة، وهي أكثر تقدّماً من «آبل» وأقلّ ثمناً. والصّين أصبحت تنتج التكنولوجيا للهواتف وشبكات الاتصال وغيرها من السلع العالية القيمة محلياً وبشكل أكثر رخصاً وكفاءة من المنافس الغربي. لو أنني قرّرت شراء هاتفٍ ذكيّ اليوم، لاخترت جهاز «هواوي» P30، فهو يملك عدسة تقريبٍ لن تجد مثيلاً لها في أي هاتفٍ غربيّ، أي إن في وسعك أن تستخدم شاشة الهاتف كمنظارٍ كفوء يقرّب أي شيءٍ على بعد كيلومترات (ولكني لن أدفع ألف دولارٍ ثمناً لهاتف، ولو كان يقود الصين ماو تسي تونغ نفسه).
بتعابير أخرى، لأنّ الصّين لم «تقع» من تلقاء نفسها، وتأخذ مكاناً «مريحاً» للامبراطورية ضمن النظام العالمي، فإنّ الادارة الأميركية تريد أن تأخذ زمام الأمور بنفسها. حصل شيءٌ مشابهٌ مع اليابان في أواخر الثمانينيات، حين فرضت واشنطن على الحكومة اليابانية أن ترفع من قيمة عملتها وتخرّب اقتصادها لسدّ الفجوة في الميزان التجاري بينها وبين الأميركيين. ولكن، إن كان هذا هو الهدف من المفاوضات التجاريّة مع بيجينغ، فترامب قد فهم أنّه لن يحصل من الصين على ما قدّمه اليابانيّون، فلا توجد قوات أميركية وقواعد للمارينز في بيجينغ وشينجِن، والحكومة الصينية - هي الأخرى - تتحسّب لهذا اليوم وتنوي المقاومة.

إيران
كما قال الكثير من المحلّلين، ليس من المرجّح أن تقوم حرب فجائية بين أميركا وإيران. هذا لا يعود فقط الى طباع ترامب ووعوده الانتخابيّة، بل أساساً الى أنّ أميركا لا تخوض الحروب على هذا النحو. كلّ حروب أميركا في العقود الماضية، بما فيها حرب أفغانستان، كانت «حروباً اختياريّة»، يتمّ تقريرها والتوافق عليها قبل فترةٍ طويلة، ويجري الإعداد والتمهيد لها بشكلٍ تصاعديّ لأشهر (بعد هجمات 11 ايلول وحرب أفغانستان بأشهر قليلة، أخبرنا الأكاديمي مايكل هدسون أن خيار غزو العراق قد تمّ اتخاذه وأصبح واقعاً، ونحن ما زلنا في منتصف 2002). هذه الشروط ليست متوافرة بعد في حالة إيران.
ولكنّ الغزو ليس الشكل الوحيد للحرب. الخسارة الحقيقية عند الايرانيين هي ليست في أن تحصل الحرب، بل في أن يستمرّ الوضع القائم، أي عودة العقوبات بشكلٍ فعليّ، كما كان الحال عليه قبل 2015 وأكثر، مع التزام طهران بالاتفاق النووي. أمامنا، منطقياً، ثلاثة امكانات للمستقبل القريب في الاقليم: إمّا أن تصل إيران وواشنطن الى اتفاق جديد يعيد الاستقرار الى «قواعد اللعبة»، أو أن تتصعّد الأمور تدريجياً الى مواجهة عسكريّة، أو حالة وسطى، يزداد فيها التوتّر والوجود العسكري الأميركي في المنطقة، وتشتعل أزمات ومواجهات «جانبية»، ولكن من دون حربٍ شاملة. أحداث الأسبوع الماضي في الخليج، من تخريب الناقلات الى قصف اليمنيين لمحطات الضخ في السعودية، كانت تذكيراً و«عرضاً» لهشاشة البنية التحتية للنفط، وأنّه يكفي أن تضرب هدفاً صغيراً، في مكانٍ معزول، حتّى توقف تصدير ملايين البراميل، أيّ إن أيّ حربٍ في الخليج لن تكون سهلة ومحدودة الأثر.
حتى نفهم الاطار الفعلي للمواجهة، وهي مستمرّة بين أميركا وإيران منذ عام 1979، يجب أن نعود الى الأساس. كما مع الصين، لا ينفع كثيراً أن تستمع الى ما يقوله الأميركيون في خطابهم الرسمي من دون النظر الى الظروف «البنيوية» التي حتّمت المواجهة. في دنيا العرب، كلٌّ يرى الأحداث من زاويته الخاصّة، وعبر قضيّته الصغرى، وعبر عقده وأحقاده (والناس في بلادنا، وأوّلهم النخب، يحملون كمّاً من العقد - عنصريّة وطائفية واثنية وثقافيّة، ولدى الجيل القديم، حزبيّة - تسمح ببناء سرديّات عداوة حول أيّ موضوع، وتضمن أن يظلّوا مشرذمين، باطنيّين، يصعب لمّهم في خطابٍ جامع على أي مستوى). ولكن، في صراعٍ من هذا النوع، ما يهمّ هو ليس سرديّتك الصغرى - هي قد تكون أهمّ شيءٍ في العالم بالنسبة اليك، ولكنها لا تساعد على فهم ما يجري وأسبابه وأبعاده.
بدايةً، الامبراطورية الأميركية لا تهمّها الطائفة والثقافة وشكل نظام الحكم، وليس هذا ما يقرّر موقفها من الدول. لو أنّك نظرت الى الحلف الأميركي الواسع اليوم، الى الامبراطورية وهي في قمّة نفوذها، لوجدتها شيئاً يشبه الامبراطورية الرومانية في تعدّد الأديان والأعراق والآلهة التي تُعبد تحت سقف الهيمنة (أنظمة ديمقراطية ليبرالية، أخرى ملكيّة مطلقة، ديكتاتوريات عسكريّة، حركات غيبيّة، وكلّها مدمجة في المنظومة الأميركية في سلامٍ وتسامح). الامبراطورية الأميركية تشبه، بمعنى ما، مفعول الرأسمالية كما يشرحه جيجك: ان الرأسمالية لا يهمها أن تكون علمانياً أو متديّناً، ذكورياً أو نسويّاً، أو حتى يمينياً أو يساريّاً، فهي قادرة على اختراق كلّ هذه التشكيلات وتطويعها من غير أن تفرض عليها هويّة محدّدة.
من السهل الكلام على «الهيمنة الأميركية» و«الامبريالية» ومصالح الدول الكبرى وكأنها شيءٌ مجرّد، ولكن هذا لا معنى له إن لم نفهم كيف تترجم هذه الأمور على الأرض، وكيف تتحوّل الى سياسات وحروبٍ وصراعات. «اللعبة» في الشرق الأوسط هي على النفط، هذا صحيح، ولكنّها لا تقوم على «سرقة» عوائد النفط كما يفترض البعض، والعلاقة «المربحة» مع أنظمة نفطية تابعة ليست الا جزءاً من الصّورة. يبسّط الكاتب البريطاني توم ستيفنسون (في مقالٍ أخير في «لندن ريفيو اوف بوكس») حقيقة المعادلة: هناك نفطٌ وفير في أقاليم أخرى في العالم، وأميركا نفسها لا تحتاج بشكلٍ ماسّ الى نفط الخليج، ولكنّ دولاً أخرى كبيرة (على رأسها الصين وآسيا وأوروبا) تحتاج اليه بشكلٍ ماس. وهذا النفط (على عكس نفط كندا أو فنزويلا أو روسيا) ليس تحت سيطرة قوّةٍ عظمى أو في المجال المباشر لهيمنتها. فهو إذاً مدار منافسة، يمكن أن يصل اليه الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، أو أن تسعى الصّين الى الحضور في المنطقة اليوم. بكلمات أخرى، الهدف الأساسي لأميركا هو ليس - فحسب - التحكّم في نفط الخليج أو عوائده، بل في منع أيّ قوّةٍ أخرى من الاقتراب منه والإبقاء على واشنطن باعتبارها «الضامن» الوحيد للموارد الحيوية التي تشغّل اقتصاد آسيا وأوروبا (يسمّي ستيفنسون هذا النمط من العلاقة «خوّة حماية»).
لهذه الأسباب، ومنذ اكتشاف النفط في إقليمنا، كان الهدف الأساسي لبريطانيا (وبعدها أميركا) هو أن لا يتحكّم أحدٌ - غيرها - في هذا المورد أو يتولّى حمايته، بمن في ذلك شعوب المنطقة نفسها. هذا ما جعل انقلاب مصدّق عام 1953 يستوجب ردّاً صاعقاً، ولهذا كانت ثورة 1958 في العراق مصدر قلقٍ وعداوة، وهو ما جعل أميركا تضرب العراق حين جرّب «تعديل الحدود» عام 1990، وهذا لبّ المواجهة بين أميركا والجمهورية الاسلامية في إيران، ما دامت عصيّة على الانصياع للشروط الأميركية، وليس أيّ شيءٍ آخر. أي إنّ إيران، لو قبلت بالدخول في «باكس أميريكانا» القائم (ومن شروطه أن تصادق على وجود إسرائيل، وأن تسلّم سياستك الاقتصادية والخارجية للأميركيين، وأن تصبح جزءاً من المنظومة، وتوافق على أبديّة الحدود المرسومة والانظمة القائمة) لما كان لدى الأميركيين مشكلة في أن يكون الايرانيون اسلاميين شيعة، أو أن يعتمدوا نظام ولاية الفقيه، أو أن يحوزوا برنامجاً نووياً، وصواريخ متقدّمة (ولكان الجيش الإيراني يخوض دورياً حروباً في الدول المجاورة، في العراق وأفغانستان وغيرها، بمباركة أميركية).
استطراداً، هناك خطابٌ منتشرٌ في الثقافة السياسية العربية، هو نتاج عقودٍ من التراجع والهزائم والفشل، يُرجّع الهيمنة الأجنبية والاختراق الغربي واستمرار إسرائيل الى ضعفنا وتخلّفنا وتفكّكنا (على طريقة «تسلّلوا كالنمل من عيوبنا»، ومقولات أخرى كثيرة تخدم المعنى ذاته). النقد الذاتي هنا صحيحٌ ومهمّ، ولكنّه يجب أن لا يتحوّل الى عكسه، أي احتقار النفس ولومها على ما فيها وما ليس فيها. المقصد هنا هو أنّ السببيّة قد تكون معكوسة ايضاً، أي إنّ كم الرهانات الدوليّة التي تتركّز حول منطقة الشرق الأوسط بسبب أهميته العالمية، وحجم المقدرات التي تُسخّر بهدف السيطرة عليه - واسرائيل هنا ليست التحدّي الأكبر - من الطبيعي أن يولّدا الضعف والعجز والفشل المتكرّر - وبخاصّة في وجه كيانات يافعة، هشّة، لا تملك (باستثناء تركيا وإيران ومصر) الحدّ الادنى من المقوّمات لبناء مشروعٍ مستقلٍّ يقدر على المقاومة. العيوب الذاتيّة موجودة من غير شكّ؛ ما نريد قوله هو أنّه لو سلّط المقدار ذاته من الطاقات والعنف وإرادة السيطرة على أيّ اقليمٍ آخرٍ في العالم، وسط أوروبا مثلاً أو أميركا اللاتينية أو شرق آسيا، لما كان المشهد جميلاً هناك أيضاً.

خاتمة
هذه الحروب ليست منفصلة بالكامل بعضها عن بعض، وجزءٌ أساسي منها يدور فوق الأرض العربيّة. أنت، كعربيٍّ يقف وسط هذه الدوامات، لن تقدر على حسم اتّجاه العالم، أو إسقاط الامبراطوريّة، أقصى ما يمكنك فعله هو الصمود في انتظار أن تتغيّر الظروف وتظهر قوىً جديدة وترتخي القبضة الأميركية (وبخاصّةٍ إن كان ثمن الرضوخ لا يحتمل، وهو كذلك بالنسبة الى فئات واسعة من شعبنا: الاحتلال، الحياة تحت أنظمة الذلّ والنهب، حكمٌ أبديّ بالفقر، أو حتّى الموت). الحرب القائمة بين اميركا والصين سوف تعصف بالاقتصاد العالمي، ولكنها، كما تحكم «ذا ايكونوميست»، مؤشّرٌ على نهاية عالم القطب الأوحد، وهذا حدثٌ لا يمكن توصيف أهميته ومغزاه.
وفيما تحاول أميركا خنق إيران، في وسعك أن «تنأى بنفسك» عن الأمر، وتعتبر أنه لا يعنيك (كأن النتائج لن تطالنا جميعاً)، أو حتى أن تراهن - لأسبابك الخاصة - على ضربةٍ لإيران. هذا السلوك يذكّر بنصٍّ كتبه أنطونيو نيغري، قبل أشهر، يعدّد فيه عيوب اليسار المعاصر. أبرز هذه العيوب، يقول نيغري، هو ما يسمّيه منهج «الاستعمالية» (instrumentalization) في نظرة اليساريين الى الأحداث، ومعناه أن اليساريين - بدلاً من بناء خطةٍ حقيقية - يراهنون باستمرارٍ على فعلٍ ما لا يتحكمون فيه، يأتي من طرفٍ خارجي، وأنّهم سيحسنون «استغلاله» و«تحويره» لصالحهم (هذا لا يتوقّف على السياسات الداخلية. في بلادنا، راهنت نخبٌ عربية على كلّ غزوٍ خارجي وحربٍ أهلية تحت مسميات وآمالٍ مشابهة).
حين تحتدم الأحداث، أسوأ سلوكٍ ممكن هو ما يسمّيه أحد الأصدقاء منطق «التذاكي» هذا: أنّك «لن تتورّط» وتتحمّس، وستترك غيرك يقاتل وأنت تخرج سالماً، وأنّك ستحفظ نفسك عبر الجبن وطأطأة الرأس وعدم تحدّي الرياح، وأنّ كلّ من يقول لا هو صدّام حسين وسيلاقي المصير نفسه. نوعٌ من العقلانية الزائفة أصبح راسخاً في خطابنا السياسي. المحزن في الأمر هو حين يأتي هذا السلوك من عربيّ لبنانيّ أو مصريّ أو عراقيّ، دمّرت بلاده وأحواله ألعاب الكبار؛ حين يعتقد أنّه «يلعب اللعبة» ويتذاكى، فيما اللعبة، في الحقيقة، تدور عليه.