غالباً ما يستحضر الفلاسفةُ الأعمالَ الأدبية والفنية في نصوصهم النقدية كأداة مساعدة لعملهم النقدي وليس كمجرد زينة تزخرف النص من الناحية الجمالية. حضور اللوحات الفنية في أعمال الفلاسفة ضئيل بالمقارنة مع استخدام النصوص الأدبية، وهذا هو حال أعمال الفيلسوفين ماركس وإنجلز، فالنصوص الأدبية حاضرة بكثافة واضحة في أعمالهما، بينما لا نلمس إلا حالة حضور واحدة لعمل فني ويتمثل بلوحة «معركة الهون» لفيلهلم فون كولباخ Wilhelm von Kaulbach، لذلك نودُّ هنا، أن نؤكد على أهمية هذا الحضور اليتيم ودلالاته الفكرية.تجسد لوحة «معركة الهون» معركة شالون عام /451م/ بين الرومان بقيادة الجنرال الروماني فلافيوس أيتيوس وملك القوط الغربيين تيودوريك من جهة، وقبائل الهون وتوابعهم بقيادة ملكهم أتيلا من جهة أخرى. وتقول الروايات إنها كانت معركة طاحنة خلّفت الكثير من القتلى، وانتهت بانتصار الرومان، ولذلك عدّها الباحثون الأوروبيون معركة مهمّة وفاصلة في التاريخ، إذ أنقذت أوروبا من غزو قبائل الهون وحلفائهم.
«معركة الهون» Battle of the Huns لفيلهلم فون كولباخ

لذلك كان تصور كولباخ لها تصوراً فنياً أسطورياً، فشراسة المعركة دفعته إلى تصوّر أرواح المحاربين القتلى تتصاعد من أرض المعركة وترتقي إلى السماء وهي تواصل القتال بكامل العتاد الحربي، لنكون أمام لوحة تجسد معركتين: واحدة على الأرض وأخرى في السماء، الثانية انعكاس للأولى ونتيجة لها. هذا التجسيد الفني للمعركة بوصفها منقسمة إلى معركتين، وهمية وواقعية، هو الذي أثار انتباه ماركس وإنجلز، وبالتالي دفعهما إلى استخدام اللوحة في معرض نقدهما لتيار فلسفي عُرف باسم «اليسار الهيغلي» أو «الهيغليين الشباب»؛ وذلك في كتابهما المشترك «الأيديولوجية الألمانية»، وهو كتاب يأتي في سياق تصفية الحساب الفكرية مع اليسار الهيغلي، وكان في الوقت نفسه يمثل بداية تشكّل وعرض الفهم المادي للتاريخ بشكل متزامن مع معالجة نقدية للإرث الهيغلي.
حقيقية المعركة الوهمية التي تجري في السماء في لوحة كولباخ تكمن في المعركة الأرضية


يكتب ماركس (وإنجلز): «إن المعركة ضد الهون التي يعطي كولباخ صورة نبوئية عنها تجري فعلياً في المجلد الثالث من مجلة ويغان الفصلية في عام 1845».(1) هناك معركة تدور على صفحات مجلة الهيغليين الشباب «ويغان الفصلية» وطبيعة هذه المعركة الفكرية هي ما جعل ماركس (وإنجلز) يصفانها على أنها تشبه لوحة معركة الهون في جانبها الأعلى، أي معركة السماء المتخيلة، لذلك يضيف ماركس: «إن أرواح الأبطال القتلى الذين لم تهدأ ثائرتهم حتى بعد الموت تثير في الهواء ضجيجاً تتردد أصداؤه مثل رعود المعارك، وصيحات الحرب، وصليل السيوف، وطقطقة الدروع والعربات الحديدية. لكن المعركة لا تدور رحاها بصدد الأمور الأرضية».(2) بمعنى أن الهيغليين الشباب لم يهتموا بالواقع الفعلي ومشكلاته، إنما كان اهتمامهم بالأفكار المفارقة وبصراع المفاهيم، لذلك يضيف ماركس أيضاً: «أن الحرب المقدسة لم تندلع حول تعرفات الحماية، والدستور، وآفة البطالة، والنظام المصرفي، والسكك الحديدية، بل باسم أقدس مصالح الروح، باسم «الجوهر»، و«الوعي الذاتي»، و«النقد»، و«الأوحد»، و«الإنسان الحقيقي».(3)
لنفهم أكثر دلالة حضور لوحة معركة الهون الفكرية النقدية، لا بد من عرض مقتضب لرؤية اثنين من أهم فلاسفة اليسار الهيغلي: برونو بوير وماكس شترنر، والنقد الماركسي المؤسس لها.

برونو بوير
يستبدل بوير استبدالاً شكلياً الرؤية التاريخية الهيغلية القائمة على أن التاريخ هو نتيجة لتطور الفكرة المطلقة الجدلي الموضوعي، برؤيته للتاريخ القائمة على أن التاريخ هو تطور الوعي الذاتي الإنساني، يكتب ماركس: «إن هيغل يعطي عن النزاعات الفعلية تعبيراً مجرداً وسديمياً يشوهها به حين يضعها في السماء، وهذا المفكر النقدي (يقصد بوير) يأخذ ذلك التعبير على أنه النزاع الفعلي. فبرونو يرضى بالتناقض التأملي ويدافع عن أحد حدّيه ضد الحدّ الآخر. وعنده أن العبارة، الصياغة الفلسفية للمسألة الفعلية هي المسألة الفعلية بالذات».(4) فبوير يقع في وهم أن التعبير النظري عن الواقع هو ذاته الواقع الفعلي، فهنا يأخذ جانباً من التصور الهيغلي ويؤسس عليه رؤيته، فالوعي الإنساني الذي هو أحد تجليات الروح المطلق الهيغلي، يتحول عند بوير إلى الأساس والمنطلق في رؤيته الفلسفية، لذلك يضيف ماركس: «وبنتيجة ذلك، فإن لديه من جهة واحدة، بدلاً من الناس الواقعيين ووعيهم عن علاقاتهم الاجتماعية التي تجابههم في الظاهر على أنها أمر مستقل، عبارة مجردة خالصة، الوعي الذاتي، بالضبط كما أن لديه، بدلاً من الإنتاج الواقعي، الفعالية المؤقنمة لهذا الوعي الذاتي».(5) هذا هو حال الوعي الأيديولوجي يرى أن التعبير الفكري عن الواقع هو أساس وحقيقة هذا الواقع. من هنا، نجد أن برونو بوير كما هو حال جميع اليسار الهيغلي يعتقد أن الدين هو المشكلة وبنقده نستطيع التخلص من المشكلة الواقعية المتمثلة بالتأخر الألماني، فعلّة هذا التأخر تكمن في المسيحية التي تمثل عائقاً في طريق تطور الوعي الذاتي الإنساني، فهو يعدّ الوعي الديني المسيحي نتاجاً للوعي الذاتي للإنسانية في مرحلة تاريخية ماضية محددة، لكن هذا الوعي الذاتي للإنسانية هو وعي كلي ومتطور عبر التاريخ، وأي توقف لهذا التطور يخلق التخلف والانحطاط، والسلاح المناسب للوقوف بوجه أي إعاقة لتطور الوعي هو النقد. وأيضاً الأمر ذاته كان قد تكرر عندما عالج المسألة اليهودية، فقد ذهب في تشخيصه إلى أن العلة هي في الوعي الديني اليهودي، وبالتالي الحل يتمثل بنقد هذا الوعي الديني، فردّ ماركس عليه بالقول: «لا نبحثن عن سر اليهودي في دينه، بل لنبحث عن سر الدين في اليهودي الواقعي».(6) فحقيقية المعركة الوهمية التي تجري في السماء في لوحة كولباخ تكمن في المعركة الأرضية.

ماكس شترنر
قسم شترنر التاريخ الإنساني بمحاكاة شكلية لفلسفة هيغل إلى مراحل ثلاث: العصر القديم هو طور الطفولة البشرية حيث الواقعية الحسية، وهنا يكون البشر في حالة خضوع للطبيعة؛ والعصر الوسيط، الذي يمتد بين العصر القديم والعالم الحديث، يمثل شباب البشرية، حيث تسود الحالة الفكرية المثالية الروحية التي تحررت من سيطرة الطبيعة، وخير ممثل لهذه المرحلة هي المسيحية؛ وأخيراً الطور الثالث (العصر الحديث) وهو طور الأنانية، حيث على الإنسان أن يتحرر في آن معاً من هيمنة الطبيعة والروح، ويخضعهما لإرادته، فيصير عندها فرداً أنانياً لا يطيع سوى غاياته.(7) وهنا من هذا الطور الأخير الذي يطمح إليه شترنر يعلن الثورة على الدولة والكنيسة بوصفهما يشكلان إعاقة للأنا في تحقيق حريتها، ولكنه يبقى يؤمن بالملكية الخاصة وضرورة استمرارها كحق للفرد الأناني. من هنا، تدخل ماركس وإنجلز لتوضيح زيف أطروحاته بخصوص محاربة الدولة والكنيسة، والزيف يكمن في أنه بوجود الملكية الخاصة واستمرارها استمرارٌ لوجود الدولة والكنيسة بشكلهما القمعي. فالملكية الخاصة من منظور الفهم الماركسي هي العائق الأساس في وجه تحقيق حرية الإنسان وانعتاقه. بالإضافة إلى ذلك وبطريقة تقسيمه للتاريخ ذاتها، يرى شترنر أن الفرد يمر بثلاث مراحل: المرحلة الواقعية وهي مرحلة الطفل، والمرحلة المثالية وهي مرحلة الشاب، ومرحلة الأنانية وهي المرحلة الأعلى والأرقى فهي تناسب مرحلة الرجل. وهذه المراحل المتباينة هي مجرد «اكتشافات ذاتية» للفرد (8)، فالوعي عند شترنر هو تمفصل داخل حياة الفرد الذاتية، فواقعية الطفل ومثالية المراهق وأنانية الرجل كلها نتاج لتخارج ذاتي فردي. فعند شترنر لا دور للواقع وللتغييرات الاجتماعية في تشكل الوعي، لذلك فهو يغرق في التأمل وبدلاً من حركة الواقع الفعلي يضع حركة الفكر بشكل تجريدي مفارق. وهكذا تكون المعركة التي يدعو إليها شترنر معركة وهمية شبيهة بمعركة السماء في لوحة كولباخ.
وبالنتيجة، فإن اليسار الهيغلي انطلق مما يقوله البشر ويتوهمونه ويتصورونه، أي من معركة السماء إلى معركة الأرض (لوحة كولباخ مقلوبة)، بينما ماركس وإنجلز انطلقا من البشر وواقعهم الفعلي، كما انطلق كولباخ في لوحته من معركة الأرض إلى معركة السماء، يكتب ماركس وإنجلز: «وعلى النقيض من الفلسفة الألمانية التي تهبط من السماء إلى الأرض، فإن الصعود يتم هنا من الأرض إلى السماء».(9)
* كاتب سوري

مراجع
1- ماركس، كارل؛ إنجلز، فريدريك، الأيديولوجية الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق، دمشق، ص 89.
2- المرجع السابق، ص 89.
3- المرجع السابق، ص 89.
4- المرجع السابق، ص 93.
5- المرجع السابق، ص 93.
6- بوير؛ ماركس، حول المسألة اليهودية، ترجمة الياس مرقص، دار الحقيقة، بيروت، ص 200.
7- انظر: كورنو، أوغست، ماركس وإنجلز – حياتهما وأعمالهما، ج 4، ترجمة: الياس مرقص، دار الحقيقة، بيروت، ص 51.
8- انظر: ماركس؛ إنجلز، الأيديولوجية الألمانية، ص 124.
9- المرجع السابق، ص 30.