«الجامعة تدمير للذات، حان الوقت لترك هذا النظام الفاشل»، هذا ما كتبته على ورقة امتحان «النظرية العامة للعقد» (المسؤولية المدنية)، وقمت بتسليم الكرّاس لأُنهي مرحلة دامت خمس سنوات من التخبّط في اللاجدوى. لم أستطع اجتياز الجامعة، كانت علاقتي بها تزداد تعقيدًا حتى انتهت بي إنساناً مهشّمًا فاقدًا للملامح. سرتُ لسنوات دون هدف، لم أقدر على الانخراط في المنظومة الجامعية القائمة وكل توابعها. كنت أواجه من خلال عالمي الدفين العالم الخارجي.في المرحلة المدرسية، النظام المسيطر هو التلقين ثم الحفظ، يليه إفراغ المعلومات على ورقة الامتحان للحصول على المعدّل المطلوب لاجتياز الصف... هكذا يمرّ اثنا عشر عاماً من عمر الإنسان في المدرسة بحدّ أدنى من الفائدة المعرفية الحقيقية. النظام التعليمي ذو الهدف التوجيهي أيضاً ــــ أو هكذا يُفترض ــــ لا يعمل خلال كل تلك السنوات على اكتشاف مكنونات الفرد ومهاراته لمساعدته على معرفة قدراته الفعلية والمجالات التي يبرع فيها، تمهيداً للمرحلة الجامعية والمهنية من بعدها، وحتى لا يقع الفرد مع بداية المرحلة الجامعية بحفرة قد تكون دون نهاية والصعود منها شبه محال. نظامنا التعليمي هو مصنع تعليب لا تعليم.
بالوصول الى المرحلة الجامعية، يعيش أغلب الشباب والشابّات مع سؤال: «ماذا نختار؟». السؤال الذي يطرحونه، بالعادة، على كلّ من حولهم من أهل وأقارب وحتى مدرّسين، هم لا يعرفون إجابته بأنفسهم لأنهم لا يعرفون ذاتهم. قلّة قليلة من الطلّاب تقيم حواراً أو مساءلة مع ذاتها وتطرح أسئلة تمكّنها من اكتشاف ميولها. أغلبنا يختار ما يقترحه الآخرون من حوله عليه أو ما يراه «سهلاً» وتبدأ المشاكل بالتراكم بعد الخيار غير الموفّق، في أغلب الأحيان. هذا الضياع الذي يصيب الفرد في هذه المرحلة تعود جذوره الى عدم معرفته بذاته وفقدان هويته. فـ«الوجود سابق على الماهية» بحسب قول جان بول سارتر، ومع تقدّم الفرد بالعمر عليه إيجاد معنى لوجوده وخلق هذا المعنى يترتب رسم مسار فيه أهداف لتحقيقها... معرفة الفرد لهويته شيء لا يمكننا تجاهله، إنها الحجر الأساس في كيان الإنسان، هويته تحمل جميع سماته وأفكاره وخط سيره... عدم معرفتنا لهويتنا يسقطنا بأزمات وجودية ودوامات تخلق المهالك. عدم إدراكنا لهويتنا هو ما نعاني منه اليوم كجيل جامعي شاب.
في بداية المرحلة الجامعية، بدأت أعي الكثير من الأمور، أولها اكتشاف معنى الوجود وكيفية تعاطي الفرد مع هذا المحيط من خلال صناعة كيان فريد متين قادر على شق الطريق بكل ما تتخلله من عقبات. بدأت المواجهات مع المنظومة الجامعية منذ اليوم الأول. مكان ضخم جداً، مرعب، متهالك، خاوي، أعمدته متآكلة، لكنه شرس في فرض تعاليمه وقواعده. نقطة البداية لم تكن، من الأساس، ذات انطلاقة موفقة، تقدّمت بطلب الى كلية الحقوق وأنا لا أدري ماذا يدور في هذا الاختصاص. تقدّمت للدخول الى الصرح الجامعي الوطني لأنها «مرحلة تطورية» من حياة الفرد. هذا ما تلقنته منذ الصغر، الجامعة هي إحدى مراحل النمو. هذا فقط ما رُسِم في ذهني، لا طموح ولا تكوين لمكانة تعكس شخصية صاحبها، لا شيء يمتّ فعلاً الى «النمو».
وقع الاختيار على دراسة الحقوق بتشجيع من أهلي وبعض المقرّبين. السنة الأولى، بما فيها من عقبات ومواجهات، استطعت اجتيازها بصعوبة. كانت هذه السنة تمهيداً فقط، ففي السنة الثانية، بدأت الأمور تنكشف أكثر فأكثر لتبيّن بشكل جليّ كم أن القوانين اللبنانية قديمة، وهي مجرد نسخ عن القانون الفرنسي مليئة بالثغرات بسبب الترجمة غير الدقيقة. في بعض الأمور، ما زالت مجلة الأحكام العدلية التي تعود للفترة العثمانية هي المرجع! نظريات مثالية وحلول لقضايا بالحق والعدل تنصف أصحاب الدعاوى الافتراضيين، لكن الواقع بعيد كل البعد عن منهجية التعليم خلال المراحل الخمس والتي سترافق طالب الحقوق إلى الأبد.
لم تكن الجامعة حاضنة للفرد، هي امتداد للسلطة الأبوية فقط. فهنا أيضاً، من غير الممكن المطالبة بحق تملكه لأن صاحب السلطة لا يسمع ولا يكترث. مثلاً، يمتلك الطالب حق إعادة فتح مسابقته ومراجعتها مع أستاذ المادة، لكن العلامة لا تتغير بوجود خطأ ما. أذكر أن أحد الأساتذة كان يقول بحدّية: «أُعيد فتح المسابقة لمن يريد، ولكن إذا لم أجد خطأ بالعلامة فسأعمد الى خفضها»، منطق العلامة والتسلّط وإقفال باب النقاش في كلية يفترض أن يقوم صلب منهجها على تعلّم أصول المراجعات وطرق ممارستها. إضافة الى التسلّط، هناك حبّ التعجيز لدى بعض الأساتذة، وعدم الاكتراث والمجاهرة بالإهمال طالما «المعاش يصلني آخر الشهر»، كما يقول البعض علناً...
خلاصة المرحلة الجامعية هي بالنسبة إليّ، مسار سيقع خلاله الطالب بتخبّط أبدي داخل صرح لا خلاص منه سيدفعه إما إلى الهروب بحثاً عن هوية مفقودة أو لإيجاد آليات دفاعية ــــ ركوب دبابة مضادة للقذائف ربما ــــ تمكّنه من اجتياز تلك الرقعة بأقل الخسائر الممكنة.