معين الرفاعي (أبو عماد)رغم التأجيل المستمرّ لإعلان خطّة الإدارة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية، المعروفة إعلامياً باسم «صفقة القرن»، إلّا أنّ خطوطها العامّة باتت واضحة، وتمّ ترويجها بما يسمح بامتصاص أية ردود فعل غاضبة كبيرة أو حقيقية لحظة الإعلان عنها. وفي حين تحظى قضايا مثل القدس وفكّ الحصار عن غزة وحلّ الدولتين والمستوطنات والحدود باهتمام المتابعين، فإنّ القضية التي لا تقلّ أهمية لا تحظى بما تستحقه من اهتمام سياسيّ، بما في ذلك لدى الأطراف الفلسطينية نفسها والداعمة لها والمؤيّدة لقضية الشعب الفلسطيني، وهي قضية اللاجئين.
جوهر القضية الفلسطينية هو قضية اللاجئين والعودة في الأساس. إنّها قضية شعب أخرجته العصابات الصهيونية بالسلاح والإرهاب من أرضه وبيوته، واستولت على وطنه. يسطّر النضال الفلسطيني قصة شعب يريد استرجاع وطنه والعودة إلى أرضه وأرض آبائه وأجداده التي أُخرج منها.
وبغضّ النظر عن الملامح النهائية لما سيرسو عليه البازار المفتوح المسمّى «صفقة القرن»، فإنّ تصريحات إدارة دونالد ترامب ومواقفها العملية تثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّها تستهدف قضية اللاجئين بالدرجة الأولى، بدءاً من تخفيض حصّة الولايات المتحدّة في ميزانية وكالة الأونروا، المؤسسة الدولية الشاهد على نكبة شعب بأكمله بما لديها من وثائق وأرشيف، والتهديد بإلغاء تفويض الوكالة، مروراً بإقرار الكونغرس الأميركي قانوناً يُطالب بإعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني تحديداً، واعتبار أنّه يشمل فقط الذين ولدوا داخل فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليس انتهاء بالضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية على الدول المستضيفة، وبالأخصّ الأردن ولبنان، للقبول بتوطين اللاجئين الفلسطينيين ولو بأساليب مبطّنة.
تدرك الإدارة الأميركية، ومن قبلها الكيان الإسرائيلي، أن قضية اللاجئين هي العقبة الأساس أمام فرض التسوية التي يريدون تسويقها. فلا قيمة استراتيجية وعمليّة لإعلان الإدارة الأميركية القدس عاصمة للكيان، ولا لضمّ الجولان؛ فتلك وقائع مرهونة بميزان القوى الفعلي، ولا سيّما أن معظم دول العالم ترفض هاتين الخطوتين. الخطر الحقيقي الذي يهدّد الكيان الصهيوني هو استمرار الشعب الفلسطيني بالمطالبة بالعودة إلى أرضه، ورفض كلّ أشكال توطينه خارج وطنه. فهذه النقطة بالتحديد هي الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى مستقبل الكيان الصهيوني، لأنها تمنح المقاومة شرعيّة استمرارها بكلّ الوسائل داخل الأرض المحتلة وخارجها.
تدرك الإدارة الأميركية، ومن قبلها الكيان الإسرائيلي، أن قضية اللاجئين هي العقبة الأساس أمام فرض التسوية


وعلى خلاف مسألتَي القدس والجولان، لا يبدو أن الدول الغربية بمجملها تمانع تصفية قضية اللاجئين. صحيح أنّها تتمسّك باستمرار وكالة الأونروا، إلا أنّ ذلك يأتي بسبب الخشية من أن يتسبّب إلغاؤها بانعدام الاستقرار، لا تمسّكاً بعودة اللاجئين إلى أرضهم.
في مقابل ذلك، لا يبدو أنّ مسألة اللاجئين تحظى بالاهتمام السياسي والإعلامي الكافي. تكاد قضية اللاجئين تغيب عن التصريحات والبيانات والمواقف لحساب قضايا أخرى مثل القدس، والمستوطنات، والتهدئة في غزة، والجولان، وغيرها. ذلك مع العلم أنّ قضية اللاجئين تمثّل السلاح الاستراتيجي الأقوى فيما لو تمّ استخدامه استخداماً حقيقياً خارج التوظيف الآني والتكتيكي.
عندما أعلن ترامب في 14 أيار الماضي نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، بعد الاعتراف الأحادي بها عاصمة للكيان، خرجت جحافل اللاجئين الفلسطينيين إلى الطوق الأمني الذي يحاصر غزة ما أرعب الكيان الإسرائيلي، الذي استخدم ما يصفه المجتمع الدولي تخفيفاً واستخفافاً بأنّه «استخدام مفرط للقوة». يدرك العدو الصهيوني ما تحمله مسيرات العودة من قوّة هائلة وطاقة كامنة تهدّد كيانه: فكرة أن يزحف اللاجئون إلى أرضهم وبيوتهم أمام العالم أجمع. فقضية اللاجئين تملك القدرة على إعادة النبض المقاوم إلى الشارع الفلسطيني وإشراكه في المواجهة الميدانية واليومية ضدّ عدوه ومحتلّ أرضه. سعى العدو إلى إجهاض المسيرات وحرفها عن هدفها الأساس في العودة بشتّى السبل والوسائل، واشترط وقف المسيرات والتخفيف منها مقابل تخفيف بعض من حصاره. يهدف العدو إلى إفقاد المسيرات زخمها الجماهيري، وتحويلها إلى عمل روتيني مملّ يصل إلى لحظة تفقد فيها هذه الورقة قوّتها، ويفقد معها الشعب الفلسطيني اليد العليا وقوّة المبادرة.
في الأردن، بات واضحاً أنّ الأرق الحقيقي لا يتعلق بتوطين ملايين الفلسطينيين، بل في فقدان الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس. هذا يعني أنّ الضغط الاقتصادي والسياسي مستمر على الحكومة الأردنية للقبول بمقايضة الاحتفاظ بالوصاية بالتوطين، مع الخشية الدائمة من فكرة الوطن البديل التي يروّج لها القادة الصهاينة. بات واضحاً أن الأزمة المالية والمعيشية في الأردن هي أزمة مُفتعَلة، هدفها الدفع باتجاه القبول بما يترتب على الأردن بموجب صفقة القرن، وهو ما ينبغي التنبّه إليه جداً.
وفي لبنان، تعيش المخيمات الفلسطينية في أسوأ أوضاع معيشية واقتصادية يمكن أن يتخيّلها أحد. يشعر أهلنا في المخيمات أنّهم متروكون عمداً وقصداً فريسة لكلّ المآسي والأوجاع. والهدف واضح: كسر صمود اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ورفضهم المستمر لمشاريع التوطين المقنّعة وغير المقنّعة. فمواجهة التوطين تتطلّب تعزيز صمود أهلنا في المخيمات، وتسهيل حياتهم اليومية والمعيشية، وليس ممارسة الضغط الأمني عليهم، ولا تسهيل تشتيتهم وتهجيرهم عبر إشاعة أجواء من القلق الأمني، وتشجيع الناس على الهجرة، بدلاً من أن يتحمّل الجميع مسؤولياته في تعزيز صمود المخيمات باعتبارها قلاعاً وطنية تحمي قضية فلسطين وشعبها من التصفية لصالح تثبيت الكيان الصهيوني.
وهنا يأتي السؤال الأهم: ما هي المصلحة في تهميش قضية اللاجئين إلى هذا الحد غير المفهوم؟! ألا يمكن فعلاً وضع استراتيجية حقيقية لمواجهة مخطّط ترامب الذي يخوض حرباً شعواء وعدواناً سافراً ضد الشعب الفلسطيني وكل قوى المقاومة وفي مقدمتها الجمهورية الإسلامية في إيران؟ ألا يحق لنا أن نستخدم كلّ ما في أيدينا من أوراق قوى، في وقت تستخدم فيه الولايات المتحدة كلّ ما في يديها من أوراق قوى لحصار المقاومة وإجهاض تطلعات الشعب الفلسطيني؟!
المطلوب من جميع القوى، وعلى رأسها قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية، اتخاذ ما يلزم من تدابير من أجل وضع قضية اللاجئين حيث تستحق أن تكون، والاستفادة من تجربة مسيرات العودة في غزة.
آن الأوان للخروج من الجمود القاتل الذي وقع فيه المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وذلك لن يكون إلا باستعادة الإمساك بنقاط القوى الاستراتيجية، وعلى رأسها قضية اللاجئين الفلسطينيين التي هي بداية القضية الفلسطينية، بل وبداية أزمات منطقتنا، ومنتهاها.
إن مواجهة «صفقة القرن» تتطلّب، من بين ما تتطلب، عدم السماح للعدو الصهيوني بتحييد غزة وإخراجها من دائرة الصراع، وإعادة تفعيل المقاومة في الضفة والقدس المحتلتين، وبالتأكيد الحفاظ على قضية اللاجئين وحماية حقهم في العودة إلى بيوتهم وأراضيهم.
*سياسي فلسطيني