مرّت 71 سنة على النكبة. ومنذ تأسست دولة «إسرائيل»، نشأت بقوة وإرادة المجتمع الدولي، أكثر مما نشأت بقدرة ذاتية، وما زالت بعد سبعين عاماً «دولة غير ناضجة. فلا حدود لها، ولا دستور، ولا اتجاهات واضحة، وما زال لا يوجد فيها شيء من الاستقرار»، فأين أصبحت «إسرائيل» بعد 71 عاماً من نشوئها؟ ما هي نقاط ضعفها؟ وهل هي فعلاً دولة كاملة أم نصف دولة، بحسب الصحافي في صحيفة «معاريف» الإسرائيلية شالوم يروشالمي؟لا شك أن بقاء إسرائيل طيلة سبعين عاماً على قيد الحياة في بيئة مضادّة ومقاومة لها، وتاريخ حافل بالحروب مع العرب والانتفاضات الفلسطينية، يعدّ إنجازاً للدولة العبرية، وإن كانت العوامل الخارجية هي الرافعة الأساسية لها، والسبب الأول في صمودها. لكن هذه الدولة المدلّلة دولياً، باتت اليوم أمام مجموعة مخاطر واستحقاقات ترتقي إلى مستوى الخطر الوجودي على «إسرائيل» باعتراف مفكّريها وقادتها وسكانها.
ولعلّ الخطر الأول هو الخطر الديموغرافي في ظلّ ما يُعرف بـ«دولة تل أبيب». فقد حذّرت دراسة بعنوان «دولة تل أبيب تهديد لإسرائيل» قام بها البروفسور في جامعة حيفا أرنون سوفير، من أن «إسرائيل» ستواجه قريباً مخاطر انهيارات داخلية تهدّدها أكثر من القنبلة الإيرانية والجيوش العربية، تتجلّى في فقدانها السيادة على أطرافها في ظل اختزال ذاتها في «دولة تل أبيب» التي تستأثر بالموارد والقدرات المرتبطة بالمال والعمل والتربية والصحافة والثقافة، مقابل ضعف الضواحي. أشارت الدراسة إلى الظاهرة الكونية الراهنة المتمثلة بازدياد حجم المدن الكبرى وتعاظمها ديمغرافياً واقتصادياً على حساب الأطراف، جرّاء الهجرة إليها وتركيز الموارد العامة فيها. ويشير سوفير إلى خصوصية الحالة في «إسرائيل» وخطورتها نظراً إلى كون سكان مركزها - تل أبيب ومحيطها- من اليهود، بينما يتركز فلسطينيو الداخل في أطرافها، موضحاً أن الكيان الإسرائيلي يتقلّص يوماً بعد يوم وينحصر في منطقة تل أبيب، حيث تتركّز الموارد الجوهرية المختلفة ويتزايد عدد اليهود فيها، بينما يستمر ضعف «الأطراف اليهودية» نتيجة التمييز في الخدمات والفرص، والاحتكاك المتواصل مع فلسطينيي 48. وتشير الدراسة أيضاً إلى أن اليهود في فلسطين التاريخية اليوم باتوا يشكّلون 49.2% من السكان فقط، وتتوقّع تراجعهم إلى 41.8% عام 2025، مذكّرة بوجودهم وسط بحر عربي وإسلامي. كذلك يلفت سوفير إلى خطورة عدم تماثل المواطنين العرب سياسياً ووطنياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً مع الدولة، بل يرون فيها عدوّاً سلبَهم حقوقهم وما زال يضطهدهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مشكلة التمييز العرقي والإثني هي مشكلة حاضرة بقوة في الوسط الإسرائيلي نفسه بمعزل عن التمييز ضد العرب. فاليهود الغربيون يتعاملون بفوقية مع اليهود الشرقيين الذين تُترك لهم الوظائف الوضيعة وتقلّ لديهم فرص التعليم والعمل والمعيشة الجيدة. وباعتبار أن الميزان الديمغرافي يسير لصالح العرب لارتفاع نسبة التكاثر الطبيعي لديهم، من المتوقّع أن يبلغ عددهم قريباً إلى ما بين 14 و15 مليوناً، مقابل 6.3 مليون يهودي.
إلى جانب الخطر الديموغرافي، يأتي خطر الهجرة المتزايدة لدى اليهود. فبحسب إحصاء أجراه معهد «داحاف» الإسرائيلي، 52% من الإسرائيليين يرغبون ولا يستبعدون الهجرة إلى دولة أخرى لتأسيس حياة دائمة فيها. كذلك ارتفع عدد المهاجرين الروس الذين غادروا «إسرائيل» عائدين إلى روسيا في السنوات الماضية بنسبة كبيرة. ويتم الحديث في الأوساط الإسرائيلية عن الانقراض اليهودي الناتج من اندماجهم في دول العالم وزواجهم وزواج أبنائهم وبناتهم من غير اليهود في ظلّ تنامي الإثنيات والأيديولوجيات والثقافات الأخرى في المنطقة.
أمّا الخطر الثاني فهو فقدان القيادة الحكيمة والقوية في «إسرائيل»، وغرق رموز الحكم في مستنقعات الفساد والفضائح المالية والجنسية من اختلاس واغتصاب وتزوير. وفي هذا المحل، يتطرّق كتاب «رسالة إلى القائد» للكاتب الإسرائيلي الصهيوني المتطرف يحسكل درور إلى إخفاقات كثيرة تسبّب بها قادة «إسرائيل»، وهذه الإخفاقات ليس بالضرورة أن تكون عسكرية بقدر ما هي اجتماعية ودينية وسياسية وثقافية، انعكست على واقع الشعب اليهودي وتطلّعاته في «إسرائيل». ويعزو الكتاب السبب في هذا الإخفاق إلى التحلّل الديني والتراثي والأخلاقي لدى القيادات اليهودية في «إسرائيل»، والتي شكّل الصراع الذاتي الشخصي الجزء الأكبر منها في ظلّ صراع أيديولوجي مستفحل في المنطقة، الأمر الذي يهدّد «إسرائيل» ككيان في وجودها ومستقبلها.
ويستعرض الكتاب ميول الشبيبة اليهودية في «إسرائيل» والتي تأثّرت بالغرب وحضارته وبات الدين والقومية في «إسرائيل» بالنسبة لها ضرباً من الخيال والأساطير، ما أفقد الجمهور الإسرائيلي الرابطة الأيديولوجية القوية التي كانت أبرز نقاط قوته عند نشوء «إسرائيل».
أما الخطر الثالث والأكثر وضوحاً، فهو التراجع العسكري الإسرائيلي رغم الدعم الأميركي غير المسبوق بالمال والعتاد والسلاح المتطور. فـ«إسرائيل» دولة عسكرية، تشبّه غالباً بـ«الثكنة العسكرية»، ومجتمعها هو مجتمع عسكري يعيش على التأهّب و«حالة الطوارئ» إن صحّ التعبير. لذلك، كان مؤسّس الدولة العبرية دايفيد بن غوريون يقول دائماً: «إن «إسرائيل» تسقط بعد أوّل هزيمة تتلقاها». وباعتراف «إسرائيل»، كانت هزيمة حرب تموز 2006 في لبنان هزيمة قاسية بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، هزّت «إسرائيل» بكلّ من فيها وبكل نُخبها السياسية والعسكرية والثقافية، وأدت إلى تقرير فينوغراد وتدحرج رؤوس سياسية وعسكرية كبيرة، أبرزها رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت ورئيس الأركان السابق دان حالوتس وغيرهما.
حرب تموز تركت «إسرائيل» في حال من الضياع وفقدان الثقة بالنفس، حاولت لاحقاً التخلص منها بشن حرب بلا هوادة على غزة، أثبت فيها الجيش الإسرائيلي أنه قادر على ارتكاب المجازر ضد أهل غزة، لكنه غير قادر على إبادة المقاومة فيها رغم الإمكانات المتواضعة التي بحوزتها.
في الواقع، أبرز تعبير عن حال الخطر والخوف الذي يعيشه الجمهور الإسرائيلي اليوم، هو نتائج الانتخابات الأخيرة التي أوصلت اليمين إلى الحكم. وهذا الخوف مبرّر، فإلى جانب العوامل الداخلية التي ذكرناها، هناك تحولات إقليمية ودولية كبيرة: فمن الخطر الإيراني، إلى تصاعد قوة حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، إلى التقارب العسكري العراقي السوري، إلى تضعضع الجبهة الداخلية الإسرائيلية، إلى العجز الأميركي طيلة سنوات عن فرض حلول تناسب الطرف الإسرائيلي، إلى موجة الغضب العالمي ضد «إسرائيل» إثر ما ارتكبته في عدوانها على غزة، سلسلة من التحولات السلبية بالنسبة إلى «إسرائيل»، والتي قد تنمو وتتطوّر في المستقبل لتحاصر «إسرائيل» من كلّ حدب وصوب.
طبعاً من غير المنطقي التوهم بأن الدعم الأميركي والدولي لـ«إسرائيل» سيزول، وأن «إسرائيل» ستنهار قريباً لا سيما في ظل الوهن والانقسام العربيين. لكن كلّ المؤشرات تدلّ على ضعف وشيخوخة دبّت في ركاب الدولة العبرية التي باتت أمام عدد من الأسئلة المصيرية المخيفة والمرعبة: كيف تستعيد «إسرائيل» شبابها الداخلي وتشدّ عصب مجتمعها؟ كيف تواجه الخطر الإيراني وخطر المقاومات؟ هل يكون الحل بمغامرة عسكرية جديدة غير مضمونة النتائج ضد إيران أو حزب الله أو غزة؟ هل دخلت «إسرائيل» في «سنواتها العجاف» وباتت على طريق الاضمحلال والنهاية؟
حتى الآن، تهرّبت «إسرائيل» من هذه الأسئلة متكئة على الدعم الدولي والأميركي اللامحدود، وعلى «المهدّئات» المؤقتة، وعلى الآمال المستمرة بحلول ممكنة مع كلّ حكومة جديدة. لكن هل يمكن أن تستمرّ الدولة العبرية في تأجيل هذه الاستحقاقات إلى ما لا نهاية؟ قد تتمكّن «إسرائيل» من تحقيق انتصارات عسكرية تعيد لها بعضاً من شبابها، وقد لا تتمكّن. لكن هل تتمكّن من إعادة ضخّ مبادئ «الوطن اليهودي» وأيديولوجية «إسرائيل الكبرى» في كيان بات على شطّ التشتت، ونصفه يفكّر بالهجرة؟
* كاتب وناشر لبناني