يسترعي الانتباه، وسط اللغط والجدال الدائر في لبنان حول مختلف القضايا المالية والنقدية والاقتصادية، الصمت المطبق حيال ما لدى صنّاع القرار من رؤية اقتصادية يُفترض أن تُحدّد الإطار الناظم لسياسة ماكرو-اقتصادية شاملة ومتناسقة الأهداف وموحّدة، لا سيما لجهة حصول تفاهم بشأنها بين السلطتين السياسية والنقدية، وبحيث تجيب على التحديات والهواجس المطروحة كافة.مع أن البلاد أحوج ما تكون لأن يتلمس اللبنانيون يقيناً حصول تفاهم رسمي على رؤية اقتصادية متماسكة ومنطقية نظراً إلى جملة اعتبارات، فهو من شأنه أن يضع حدّاً لحال البلبلة والمخاوف جرّاء التهويل باحتمال حدوث انهيار اقتصادي يطيح بسعر صرف الليرة، والأمر الذي يطمئن الناس والأسواق ويجعلهم أكثر تجاوباً مع السياسات الاقتصادية، وهو السياق الذي يجعل الموازنة والإجراءات العمومية تلقى قبولاً وتأييداً، إذ تُنقل المواقف منها من حال النزاعات وتضارب المصالح بين القطاعات والفئات كافة، إلى توافق كل الأطراف على أهداف مشتركة وجامعة تُرضي الجميع وتجعلهم أكثر استعداداً لتقبّل التنازلات. كذلك إن الرؤية الاقتصادية من شأنها أن تُفصح بوضوح عمّا إذا كانت الحكومة في سعيها لعصر النفقات وزيادة الواردات الضريبية وغيرها تستهدف «التوفير والتحصيل»، كما قد يبدو، خدمةً للديون وتلبية لمتطلبات الدائنين والمقرضين فقط، أم يأتي ذلك وفق خارطة طريق معلومة تنتهي إلى رفد الاقتصاد الوطني بقطاعاته كافة، بمعزل عن تبرير التقشّف بأنه يؤدي إلى استدرار التمويل الدولي الموعود من مؤتمر «سيدر» وغيره، وبأنّه يؤدي إلى تخفيض سعر الفائدة.
ولذلك لا بدّ لأيّ رؤية اقتصادية من أن توضح الالتباس في المشهد الاقتصادي، بحيث تضع الأصبع على مكامن الضعف وحقيقة المخاطر وتضيء على نقاط القوة الكامنة في الاقتصاد. فعلى عكس ما يتمّ تصويره عن حراجة الوضعَين المالي والنقدي، فإن الجانب النقدي من المشهد، تدلّ المعطيات على أنه تحت السيطرة الكاملة، والمصرف المركزي قادر على استيعاب الضغوطات المالية والنقدية وعلى إدارة عجز الموازنة بفعالية عالية. ولكن على الجانب الاقتصادي في القطاعات الحقيقية، فالمشهد مزرٍ وهش ويدعو إلى القلق والحذر من عواقب تفاقمه على المستويات كافة.
إن الملاءة العظمى للمصرف المركزي وتنوّع أدواته تشكّل سدّاً منيعاً يحول دون أي خضّات نقدية ومالية. فالموجودات الخارجية للمركزي تغطّي نحو 80% من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية التي يستحوذ على معظمها كبار دائني الدولة من المتموّلين والمصارف، الأمر الذي يجعل كلّ السيولة النقدية بالليرة لا تهدّد سعر الصرف بشيء يُذكر. إلى جانب أنّ المصارف تملك من السيولة من الدولار ما يوازي نصف ودائعها لتلبية أقصى درجات السحوبات والتحويلات إلى الخارج. علماً أن الاستقرار النقدي لا يخضع لاعتبارات السوق المحض، بل كان ولا يزال نتيجة تفاهم بين الثلاثي مصرف لبنان والمصارف والدولة اللبنانية. وللاعتبارات عينها، فإنّ المالية العامّة وعجز الموازنة وخدمة الدين منها تبقى تحت السيطرة، نظراً إلى أنّ معظم الدين العامّ هو محليّ، ولأن مصرف لبنان آخذ في لعب دور محوري في ترشيدها وتدبيرها. أما بالنسبة إلى اختلال ميزان المدفوعات واستحقاقات اليوروبوند بالدولار، فإن تحسّن التوقعات كفيلٌ بتغطيتهما دون التأثير على احتياط المركزي من العملات الأجنبية، ومن جهة المخاطر السياسية، أثبت تفاهم الثلاثي المذكور قدرته على استيعاب الأحداث السياسية الكبرى كالتي حصلت عامي 2005 و2006.
يُؤخذ على «الهندسة المالية» التي انتهجها المركزي أنها كبّدت الدولة أكلافاً كبيرة ذهبت أرباحاً سهلة للمصارف


في مقابل هذه المتانة النسبية للوضعَين النقدي والمالي، فإنّ الوضع الاقتصادي على مستوى القطاعات الحقيقية وعلى المستوى الاجتماعي والبشري يُنذر بالسوء. ففضلاً عمّا كان قائماً من مشكلات تمثّلت في مؤشرات عدة، أبرزها انحدار النمو إلى مستويات أدنى إلى الصفر، وتراجع الاستثمارات وتحجيم التسليفات للقطاع الخاص، وارتفاع معدّل البطالة إلى مستويات قياسية حرجة، أتت الإجراءات النقدية والمصرفية التي عقمت السيولة بالليرة والدولار، لتزيد في الطين بلة. والشح والعسر النقدي يتبدّى في ظاهرة عدم القدرة على السداد لدى المؤسسات والأفراد، وتأجيل استحقاقات السندات التجارية إلى آماد لم تعهدها الأسواق من قبل، وتراكم ديون لا قدرة على سدادها وبالتالي حجز الدائنين على الرهونات. ويتبدّى ذلك أيضاً في ظاهرة لجوء مؤسسات كبرى إلى تقليص أعمالها وتسريح ما أمكنها من عمّال وأجراء، واقتطاع العطاءات الإضافية من الرواتب والأجور وحتى أنه يُذكر أن ثمة مؤسسات عمدت إلى الاتفاق مع موظفيها على أن يعملوا بنصف دوام مقابل نصف أجر، خشية الإفلاس.
كذلك إن الحاجة لتوافر رؤية اقتصادية موحّدة تنبع من اعتبارات محض منهجية، إذ تجيب على جملة هواجس كانت ولا زالت مطروحة، وتضع الأمور في نصابها الصحيح لجهة ضرورة إيلاء الأهمية للسياسة النقدية كأحد أهم أركان السياسة الماكرو اقتصادية إلى جانب السياسة المالية للدولة، على ما تقرّه النظريات الاقتصادية الحديثة وعلى ما تعمل به معظم الدول. تتمثل الهواجس والمحاذير الاقتصادية في الاعتقاد أن المضي في خطة اقتصادية جديدة تقوم على أساس نفس النموذج المالي-النقدي المنتهج منذ نحو الربع قرن، والمعتمد على ثابتة ربط العملة اللبنانية بالدولار الأميركي، لن يفضي إلّا إلى تكريس حالة الانحياز للقطاعات الريعية على حساب تلك الإنتاجية، مع ما كان لذلك من آثار سلبية تجلّت في تباطؤ النمو وتفاقم المديونية وتفشّي البطالة.
في العلن يرتدي الجدال حول النموذج المالي-النقدي المعتمَد طابع المزايدات السياسية بين رافعي لواء المحافظة على الليرة ومنتقدي النموذج والداعين إلى استبداله. فلا رافعو لواء المحافظة على الليرة يُبدون أيّ اعتراف بمساوئ النموذج، و لا بادر منتقدو النموذج، حتى ممن تولّوا المسؤولية، إلى طرح بدائل.
استند المنتقِدون للسياسة النقدية، القائمة منذ نحو ربع قرن على ربط الليرة بالدولار، إلى جملة أسباب، منها الكلفة العالية لتثبيت سعر الصرف والتي كان لها الوزن الأكبر في تفاقم المديونية العامة، تراجع الصادرات مقابل ارتفاع حجم الاستيراد، انحياز النظام النقدي للقطاعات الريعية على حساب القطاعات الحقيقية.
ولكن تقتضي الجرأة والموضوعية، البحث وإمعان النظر في السياسة النقدية ومراجعة دورها الاقتصادي من زاوية «عامل التضخم» الذي يتمّ إقصاؤه عن البحث، على أهميته القصوى كأداة للتصحيح الاقتصادي ولحفز النمو.
إنّ من أبرز المهام المتقدّمة للبنوك المركزية في العالم إدارة التضخم، أي التحكم به بالاتجاهَين، فتعمل على دفعه صعوداً عند المستويات المتدنية، مثلما تعمل على تخفيضه إذا بلغ مستويات تتجاوز حدّاً معيناً كالعشرة في المئة، بحسب الاقتصاد المعني. والشاهد على ذلك ما تبذله البنوك المركزية في كلّ من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان، منذ سنوات، لدفع التضخّم صعوداً. تلك الدول وغيرها تتّخذ التضخم مؤشراً أساسياً لقياس صحة اقتصاداتها، لأنه يعتبر عند مستويات معيّنة قاطرة للنمو الحقيقي ولتوليد فرص العمل - المؤشر الثاني الأساسي الذي تضطلع البنوك المركزية بمسؤوليته خصوصاً البنك الفيدرالي الأميركي.
بهذا المعنى فإنّ السياسة النقدية لمصرف لبنان القائمة على تثبيت سعر الصرف أدت إلى تعطيل آليات التضخم وكبحه على الدوام، إلّا ما تأتّى عن التضخم بفعل الزيادة في الأكلاف وتراجع القيمة الشرائية للدولار على مدى ربع قرن. فإلى ماذا أدّى تعطيل آليات التضخم وإقصاء دوره كعامل حيوي من العوامل الاقتصادية؟
إن ثقل الأجور على ميزانيات المؤسّسات اللبنانية في مقابل ارتفاع تكاليف المعيشة وارتفاع تكاليف الإنتاج أسفر عن وضع القطاع الخاص بين فكي كماشة، ارتفاع الأكلاف من جهة وكبح لمستوى الأسعار من جهة أخرى، بحيث تكاد تنعدم هوامش الربحية والقيمة المضافة. أمّا على صعيد الأسر فقد اتّسعت الفجوة بين المداخيل ومستوى تكاليف المعيشة. هذا الواقع وثيق الصلة بتعطيل آليات التضخم نتيجة جعل العملة الوطنية حيادية، إذ يتطابق التضخم بالقيم الحقيقية مع التضخم بالقيم الاسمية، وهنا مكمن الخلل.
فكيف، إذن، للقطاع الخاص في الاقتصاد الحقيقي أن ينشط وينمو في ظلّ هذه المعضلة، وهو المعوّل عليه في تعظيم حجم الاقتصاد والناتج المحلي بشكل مستدام، كضرورة لخروج المالية العامة من دوامتها، وتوليد فرص عمل كافية لمعالجة مشكلة البطالة المتفاقمة؟
إنّ الموقف الكلاسيكي والراديكالي السلبي من مسألة التضخّم والمستنِد إلى مناهج نظرية عفا عليها الزمن أو هي لا تنطبق بالمطلق على كل الاقتصادات والأزمان، ولا تميز بين مختلف مستويات التضخم وأنواعه ومصادره وأسبابه، هذا الموقف يجعل من سياسة مكافحة التضخم أمراً يحظى بتأييد شعبي وسياسي، من غير الالتفات إلى مضار تدنّي التضخم دون مستوى معيّن لكل بلد، كأن يكون دون مستوى 2 % في الدول المتقدّمة، أو دون 5 % في الدول ذات الاقتصادات الناشئة، وهكذا، وعلى ألّا يتجاوز سقوفاً محددة.

الملاءة العظمى للمصرف المركزي وتنوّع أدواته تشكّل سدّاً منيعاً يحول دون أيّ خضّات نقدية ومالية


ولقد تذبذب ما تأتى من تضخم في لبنان خلال الربع قرن الماضي ضمن هامش ضيّق يمكن أن يُعبّر عنه بالتضخم المكبوت Disinflation، مسجّلاً حالات تضخّم انكماشي Stagflation حين انخفض معدّل النمو عن معدّل التضخم، على ما شهدت السنوات الأخيرة، وظواهر التضخم السلبي Deflation حين سُجل معدّل تضخّم سلبي ترافق مع تراجع في الطلب خلال السنوات الأخيرة من التسعينيات. يستثنى من ذلك تسجيل التضخم معدّلات بحدود 8 % مترافق مع تسجيل نسب نمو مرتفعة في أواخر سنوات العقد الماضي، ويُعزى ذلك إلى عوامل ظرفية.
ولذلك نفترض أنه لو أطلقت آلية التضخم، فإنّ تضخماً بحتاً طبيعياً عند مستوى 8 % مثلاً، صحيح أنه يؤدي إلى تراجع متباين (بين القيم الحقيقية والقيم الاسمية) للمداخيل، إلّا أنه قد يؤدّي في المقابل إلى تراجع المعدّل العام لحصيلة تركيبة تكاليف الإنتاج وتكاليف المعيشة وللكلفة الحقيقية لأسعار الفائدة، بما يزيد عن معدل انخفاض المداخيل. الأمر الذي من شأنه أن يضيّق الفجوة بين المداخيل الأسرية وتكاليف المعيشة، ويوسّع هامش الربحية والقيمة المضافة بين تكاليف الإنتاج ومستوى الأسعار.
ونلفت إلى أن تحقيق تضخّم بحدود 8 % على سبيل المثال (بفارق تبايني بين القيم الاسمية والقيم الحقيقية بحدود 6 %، ولتزد عندها علاوة الفائدة على الليرة بنفس الحدود)، من شأنه، إلى جانب التفريج عن القطاعات الحقيقية، حفز النمو وبالتالي زيادة حجم الناتج المحلي، الأمر الذي يؤدّي حكماً إلى تراجع منتظم ومُعتبر في نسبة عجز الموازنة إلى الناتج المحلي، بفعل زيادة الاقتطاع الضريبي من جهة وتراجع القيمة الحقيقية لنفقات الدولة (أي تمويل جزئي مطرد لعجز الموازنة بالتضخّم الجزئي).

بقعة ضوء
على الرغم من الواقع المالي والاقتصادي المأزوم، ثمة بقعة ضوء واعدة تتمثّل في القطاع النقدي عامةً وفي القدرة والملاءة العالية لمصرف لبنان خاصةً، كظهير متين للاقتصاد. ولعلّ السمة الأبرز للمرحلة الاقتصادية الحالية هي في ما ظهر من إقدام مصرف لبنان على الإمساك بزمام الوضع المالي برمّته. وهذا ما تجلّى في تنامي دور المركزي في تمويل عجز الموازنة والخزينة بنفسه، عبر اقتراضه من المصارف لآماد طويلة وبفوائد مغرية وإعادة شرائه لسندات الخزينة بفوائد أقل من تلك المعطاة للمصارف، بحيث تراجعت نسبة اكتتاب المصارف في سندات الخزينة من نحو 50% إلى نحو 30 %، فيما ارتفعت نسبة اكتتاب المركزي من نحو 30 % إلى نحو 50 %. أمّا كلفة الفارق بين الفائدة المدينة من المصارف وكلفة الفائدة الدائنة للدولة، فقد جرى التفاهم على إدارتها وتدبرها بين المركزي والدولة.
بالإضافة إلى هذا الدور المستجد لمصرف لبنان، يؤخذ على «الهندسة المالية» التي انتهجها المركزي، أنها كبّدت الدولة أكلافاً كبيرة ذهبت أرباحاً سهلة للمصارف. وهذه الهندسة تقوم على عملية إيداع المصارف الدولار لدى المركزي بالفوائدة الرائجة بالأسواق العالمية، زائد علاوة قدرها نحو 8 %. هذه العلاوة تتأتى عن عملية موازية قوامها إقراض المركزي للمصرف المعني بالعملية الأولى مبلغاً من الليرة يوازي قيمة 125 % من قيمة وديعته بالدولار، على أن يعيد المصرف المعني إعادة إقراض المبلغ إياه للمركزي بفائدة نسبتها نحو 10%.
هذه الهندسة المالية قد تبدو للناظر غير منطقية ومن نوع الخزعبلات ومنحازة لمصلحة المصارف. ولكن تُعتبر جدّ منطقية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنها تضع سقوفاً لأسعار الفائدة بالليرة بما لا يتجاوز نحو 8 % عمّا هي أسعار الفائدة على الدولار، وذلك تجنّباً لرفع الفوائد إلى حدود مفتوحة، كما حدث إبان عام 1995 حين بلغت 39 %. كذلك إنّ هذه الهندسة تخدم في تأجيل استحقاقات الدين إلى آجال طويلة تمتدّ لعشر سنوات، وتؤدي إلى اجتذاب الدولار من الخارج بما يعزّز من ميزان المدفوعات والاحتياط والموجودات الخارجية لدى مصرف لبنان.
ولكن يمكن أيضاً أن يُستشفّ من عملية ربط الدين بالليرة بالدين بالدولار نوع من أنواع إعادة تشكيل الدين العام، حتى إذا ما أراد المركزي السير بنظام صرف مرن، يحفظ حقوق الدائنين والمصارف والنظام النقدي والمصرفي، عندما تستكمل عمليات الهندسة وتحين الظروف المناسبة للهبوط الآمن. حينها يقتضي أن يكون واضحاً أن للمركزي القدرة على التحكّم بسعر الصرف في كلا الاتجاهين، كصانع للسوق Market Maker لا يبارى.
أما إذا كان المصرف المركزي والسلطة السياسية مصّرين على سياسة ماكرو اقتصادية مبنيّة على نفس النموذج إياه، فلا بدّ من أن يملكا خارطة طريق لأهداف جدّ طموحة ترتقي بالمواطن اللبناني إلى مستوى مواطني دول ذات مستوى تكاليف معيشة عالٍ ومداخيل أسرية أعلى.
ختاماً، إنّ وجود سياسة ماكرو اقتصادية واضحة ومتناسقة الأهداف والأدوات، ومبنيّة على رؤية اقتصادية موحّدة بين السلطتين السياسية والنقدية، يشكل الإطار والسياق الضروري الذي من دونه، لا «دراسة ماكينزي» و لا مشاريع «سيدر» ولا مجمل الإجراءات الحكومية، يُنتظر أن تُحدث فرقاً وتُفضي الى إصلاح أو تصحيح اقتصادي مستدام.
* كاتب لبناني