تجربة النظم الاشتراكية في الخمسينيات أثبتت أن التقسيم الاجتماعي للعمل لا يحتاج إلى مناخ تعدّدي، إلا في حدود السماح للمجتمع بالتعبير عن نفسه من خلال حراك الطبقات المختلفة. قبل هذه الحقبة كان ثمّة ليس فقط أحزاب تتصارع وتتنافس، بل أيضاً ديمقراطية إجرائية بالمعنى الليبرالي، ومع ذلك كان غياب الطبقات صاحبة المصلحة في التمثيل السياسي هو العامل الأكثر حضوراً في مرحلة الانتدابات. الديمقراطية هنا كانت تسمح بتمثيل معيَّن للشرائح الاجتماعية، ولكنه لا يتعدّى حدود إضفاء الشرعية على حكم الأعيان والإقطاع السياسي. إبقاء الديمقراطية بدون محتوى اجتماعي هو الذي أفضى إلى اندلاع الثورات الاشتراكية، وهو الذي جعل حكم الحزب الواحد أكثر تمثيلاً بالمعنى الاجتماعي- الاقتصادي من كلّ النظم البرلمانية التي كانت قائمة قبله. وعلى الأرجح أيضاً أن الإطاحة بهذه النظم بعد خروج الانتدابات كانت شرطاً لتعزيز حضور الطبقات في العملية السياسية، بعد معاودة ربط حراكها بشكل التمثيل السياسي. مشروعية حكم الحزب الواحد
بعد الانتهاء من عمليات التأميم وتغيير قوانين الملكية استقرّت إلى حدٍّ كبير النظم السياسية التي تقود المرحلة. ومع استقرارها كان لا بدّ من إيجاد المعادل السياسي لغياب الأحزاب، حيث الأولوية لم تكن للصراع السياسي بحدّ ذاته، بل للحفاظ على وتيرة تنمية متصاعدة بعد الاتجاه إلى التصنيع، والشروع انطلاقاً منه بتقسيم العمل اجتماعياً وفقاً لخريطة القوى المنتجة الفعلية. هكذا، بدأت دسترة التحوُّل الاجتماعي الكبير، ونشأت الصيغة التي تسمح بعدم التعارض بين حراك الطبقات وحصول التحوّل بقيادة المؤسسات التي أفرزتها الثورات، وهي في معظمها لم تكن تضع التعدُّدية السياسية كمعيار للتمثيل، بدليل غياب معظم الأحزاب المعارضة الفعلية عنها. وهو ما كان ليمثِّل مشكلة فعلية- في أيّ نظام سياسي آخر- لولا طبيعة التحوُّل الذي كان حاصلاً، والذي كان تعريف الديمقراطية فيه مختلفاً، بحكم ارتباطه بالبنية الاقتصادية الاجتماعية أكثر منه بالنظام السياسي نفسه، أو لنقل بالنسخة الإجرائية منه كما نعرفها في الديمقراطيات التمثيلية. بهذا المعنى، يصبح مفهوماً لماذا أُعيد إنتاج المؤسّسات التي أفرزتها الثورات، بحيث تصبح أقرب في صياغتها الجديدة إلى «حكم الشعب» منها إلى الصيغة المعتمدة في الديمقراطيات الليبرالية. إذ ليس ثمّة حضور مباشر للطبقات والشرائح الاجتماعية في المؤسّسات الليبرالية، حيث يحصل التمثيل بالنيابة عن الشعب عبر وكلائه أو ممثليه فيها، وهو ما يفسِّر شيوع تسميتي «النيابة» و«النواب» في هذا النوع من المؤسّسات. ويترافق ذلك أيضاً مع فصل فعلي بين الديمقراطيتين السياسية والاجتماعية، حيث يقتصر التمثيل السياسي هنا على البعد الإجرائي الشكلي، ولا تكون الديمقراطية فعلياً إلا في خدمة الأقلّية التي تجري عملية التراكم لمصلحتها. إدراك قادة المرحلة لهذه المعادلة قادهم إلى تبنّي ليس فقط الخيار الاشتراكي، بل أيضاً نموذج الحزب الواحد الذي تحوَّل في ما بعد في جلّ هذه التجارب إلى ائتلاف يضمّ معظم النقابات والمنظمات الشعبية التي ساهمت في إضعاف حكم الإقطاع، ولاحقاً انضمّت إليه الأحزاب التي تتبنّى التوجّهات ذاتها، بعد تذليل العقبات التي كانت تحول دون إشراكها في الحكم. التجربة تعثّرت بعد وفاة جمال عبد الناصر، وخصوصاً في سوريا والعراق وليبيا، ولكنها حافظت طيلة فترة حكم الرجل على مشروعيتها السياسية، بدليل بروز دور الطبقات الاجتماعية كعامل أساسي في قيادة التنمية في هذه المرحلة تحديداً، وفي ظلّ حكم لا يضع التعدّدية السياسية كمعيار لنجاحه. الأمر الذي فشلت فيه معظم النظم التي سبقته، والتي كانت بخلافه، تعتبِر الديمقراطية التمثيلية معياراً لحكمها، ومع ذلك كانت الأقلّ تمثيلاً بالمعنى الشعبي، والأكثر عرقلة بحكم طابعها الأقلّوي لطبيعة التحوّلات الاجتماعية الحاصلة، والتي كانت التنمية بالمعنى الاشتراكي هي المدخل لفهمها والتعامل معها بدلاً من ديمقراطية الأقلّية الخاصّة بنظم الاستقلال.

حضور الديمقراطية الاجتماعية
بشكل أو بآخر كانت الدمقرطة على المستوى الاجتماعي هي المحدِّد الرئيسي لفهم المنحى العامّ لهذه الحقبة. بهذا المعنى، لم يمثّل بروز الحزب الواحد ودوره في قيادة العملية السياسية عائقاً أمام استمرار توسيع القاعدة الاجتماعية للاشتراكيات العربية، حيث برزت بعد تثوير علاقات الإنتاج في القطّاع الزراعي مسألة التصنيع بوصفها استكمالاً ليس فقط لدمقرطة علاقات الإنتاج وتوسيعها، بل أيضاً لجعل حراك الطبقات بعد شموله العمّال والطبقة الوسطى المضمون الفعلي للاشتراكية العربية. التمثيل السياسي هنا لا يعكس بالضرورة واقع الحراك الاجتماعي الاقتصادي الحاصل، فسرعة التحوُّل الاجتماعي كانت تسبق قدرة أيّ حزب أو قيادة سياسية على تأطير الحراك سياسياً وحتى لو كان الحزب الواحد هو الذي ينظِّم الأمر بفعل بنيته الشمولية وإمساكه بمفاصل الحياة السياسية فإن الدمقرطة كانت تتجاوزه دائماً، ليس لأنها فوضوية أو غير مؤطّرة سياسياً كما يجب، بل لأنّ الطابع الاجتماعي-القاعدي لها كان ثورياً إلى حدّ يجعلها عصية على التصنيف أو التأطير الأيديولوجي. كان الأمر أشبه بعملية تحوُّل تاريخي تحصل في غضون سنوات فقط، وتترك تأثيرها ليس على عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فقط، بل على بنية الدولة والمجتمع لعقود مقبلة، وهو ما عجزت عنه معظم التجارب التي سبقت النظم الاشتراكية. الطبقات الاجتماعية كما نعرفها اليوم لم تأخذ شكلها الفعلي إلا من خلال هذا التجاوز لفكرة تقنين الديمقراطية، وجعلِها في متناول فئات محدّدة.
الطبقات الاجتماعية كما نعرفها اليوم لم تأخذ شكلها الفعلي إلا من خلال هذا التجاوز لفكرة تقنين الديمقراطية

لم يكن ذلك توسيعاً للهامش الديمقراطي المتاح أمام الفئات الاجتماعية فحسب بل كان أيضاً بمثابة تغيير لمفهوم التمثيل نفسه بحيث يصبح مرتبطاً بصعود الطبقات أكثر منه بتأمين حصّة الفئات المحظية من الثروة والسلطة. هذا التغيير كان قد بدأ منذ تطبيق قانوني الإصلاح الزراعي والتأميم، ولكنه لم يصل إلى حدوده القصوى إلا حينما بدأت الطبقة الوسطى في التوسّع الكبير لتصبح بعد بلوغ هذه المجتمعات نقطة التوازن القاعدة الفعلية للنظم الجديدة. لا يحصل ذلك عادةً إلا غداة ثورات جذرية تعيد تعريف ليس فقط العلاقة بين السلطة والطبقة، بل أيضاً مفهوم الديمقراطية نفسه، بحيث لا يكون فقط فعلاً إجرائياً لتسويغ النهب، وإضفاء الشرعية عليه عبر المقاربة الليبرالية لمفهوم التمثيل. الاشتراكية أتت لتصحيح هذا الخلل، ولكنها لم تتحوّل في التجربة العربية إلى نظامّ مستقر إلا حين سمحت للطبقات بالتعبير عن نفسها في إطار من التعدّدية الاجتماعية، وهو ما كانت تفتقر إليه تجربة النظم الليبرالية غداة الاستقلال، على الرغم من سماحها بالتعدّدية السياسية واعتمادها على التمثيل البرلماني كمصدر للشرعية.

الديمقراطية كممارسة طبقية
الديمقراطية هنا لا تتجاوز مفهوم التمثيل فقط، بل تغادر أيضاً الحيِّز الخاص بممارستها ضمن إطار طبقة معيّنة. قبل تجربة الثورات الاشتراكية كانت الديمقراطية كحيِّز للتعددية السياسية الشكلية هي الإطار لإدارة النظام السياسي الذي يستثني الأكثرية. الدستور والنظام البرلماني والحكومات والانتخابات كانت كلُّها بمثابة أدوات لجعل التمثيل يحصل ضمن إطار يمكن اعتباره مقبولاً بالنسبة إلى الأقلّية، وهو ما سمح باستمرار عمل هذا النظام لسنوات طويلة قبل الانتدابات وبعدها. وفي المرّات التي كان يصل فيها النظام إلى انسداد ويبدأ الوضع بالانفجار (ثورة 1919 في مصر، الثورة السورية الكبرى في عام 1925، ثورة العشرين في العراق) يتم اللجوء إلى سياسة مزدوجة قوامُها احتواء التمرُّد سياسياً بعد القضاء عليه عسكرياً. وهو ما كان يسمح بالإضافة إلى توسيع هامش التمثيل بحصول تطوُّر في العملية السياسية الانتدابية، بحيث تصبح الديمقراطية التي كانت في خدمة الأقلية حصراً في متناول فئات أوسع من الشعب. من هنا بدأت عملية الفرز التي توسَّعت لاحقاً، وقادت إلى إبرام معاهدات الاستقلال والجلاء الواحدة تلو الأخرى، والتي على إثرها بدأت الديمقراطية كإطار لإدارة عملية النهب بالانحسار لمصلحة مشاركة أوسع للفئات الاجتماعية الوسطى والفقيرة. لم تتبلور هذه العملية التاريخية وتكتمل إلا مع وصول الثورات إلى الحكم بعد تبنّيها للاشتراكية كإطار أوسع لمزاولة الديمقراطية. مع الاشتراكية أصبحت الديمقراطية تُعرَّف بالسماح للطبقات «بالتعبير عن نفسها»، حيث يُعطى الفلاح حقّه بامتلاك الأرض، ويُسمح للعامل بالانضمام إلى نقابة للدفاع عن حقوقه، ويترسّخ على إثر هذا الحراك الأفقي وجود الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها معظم موظّفي الدولة وكوادرها باعتبارها قاطرة التنمية الفعلية. الأحزاب لم تكن حينها جزءاً من هذا الحراك ليس لأنها هُمِّشت أو لأنها تعارض حصوله من دون حضورها فيه، بل لأن وجودها كأحزاب كان مرتبطاً بإطار التمثيل الليبرالي الذي لم يكن يسمح بحضور الطبقات في العملية السياسية. حتى الأحزاب الشيوعية العربية التي كانت تتبنّى الصراع الطبقي كمنهج في العمل السياسي لم تكن تفهم أهمية التحوُّل الذي يحصل، بدليل معارضتها له وبقائها خارج الأطر التي اعتُمدت لقيادة المرحلة سياسياً. المعارَضة هنا كانت معارَضة للديمقراطية الاجتماعية التي أتت بها الثورات أكثرَ منها للنظم العسكرية التي أتت إلى السلطة، وهو ما جعل التحوُّل يحدث في معظم الحالات بدون إطار نظري، على اعتبار أن الأحزاب الثورية هي التي تضع التصوُّر النظري، وبعد ذلك يحصل التحوّل، ويتم تنظيمه وضبطه على ضوء هذا التصوّر. لكن ذلك لم يحدّ من الدمقرطة التي كانت قد بدأت بالتوسّع أفقياً على نحو كبير، وخصوصاً في مصر، التي استطاع عبد الناصر أن يجعلها نموذجاً للديمقراطية الاجتماعية حين تخرج من نطاق خدمة الأحزاب- حتى الشيوعية منها- للأقلّية.

كاتب سوري