(كلمة ألقيت في ندوة «المواطنة والدولة المدنية»، دار الندوة، بيروت في 5 نيسان)من المسلّم به، لدى الحقوقيين والمشرّعين وأهل القانون أنّ المواطنة هي منظومة حقوق وواجبات في علاقة الفرد مع الدولة، وأنّ الدولة المدنية التي تطرحها قوى سياسية ومدنية وأوساط ديمقراطية هي التجسيد الدستوري والسياسي والقانوني لرابطة المواطنة.
السؤال الذي يفرض نفسه هو : هل المواطنة مجرد حقوق وواجبات وحسب؟ وما مقومات الدولة المدنية التي تُعَدّ بديلاً من النظام السياسي القائم في لبنان أو من أنظمة دول الهلال السوري الخصيب وفي سائر دول العالم العربي؟ هل الدولة المدنية دولة علمانية؟ أم هي دولة تقع هويتها ودستورها في الوسط بين الدولة الدينية والدولة العلمانية؟ ثمة التباس دستوري في تصنيف هوية الدولة المدنية وتحديدها. من منطلق الفكر القومي الاجتماعي لباعث النهضة ومؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة، أتناول المفاهيم التي أرساها في ما يتصل بمفهوم الدولة والمواطنة.
بداية أشير إلى إشكالية في تحديد هوية النظام الدستوري القائم في لبنان وطبيعة هذا النظام. هناك رأي وازن لبعض الحقوقيين والمشرعين يرى أنّ الدولة في لبنان دولة علمانية، مدنية، تحترم كل الأديان، لأنها لا تنص على دين للدولة، ولا لرئيس الدولة أو أية مناصب أخرى. ويذهب أصحاب هذا الرأي كالدكتور إدمون رباط أو المحامي إبراهيم طرابلسي وغيرهما إلى اعتبار أنّ الدولة في لبنان علمانية في هويتها، وأنّ المواد التي تنص على الطائفية كما ورد في المادة 95 من الدستور إنما هي ذات طبيعة مؤقتة، استناداً إلى المادة 9 من دستور 1926 التي تنص بوضوح على أنّ «حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام، وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية».
المفارقة أنّ المؤقت استحال في الممارسة السياسية منذ 1926 وحتى يومنا القاعدة الدستورية الواقعية التي تحكمت بالحياة السياسية والعامة في لبنان. إذا كانت بنية الطائفية مؤقتة في النظام، فهل يؤمل عبر الدستور النافذ أن ينتقل لبنان إلى دولة علمانية فعلاً لا قولاً، واقعاً لا شعاراً، حقيقةً لا وهماً حلماً لا سراباً؟ ذلك أنّ المسار لواقع الدولة في ظل هذا الدستور «المفخخ» أثبت صعوبة أن يحصل تطور باتجاه قيام الدولة العلمانية المتوخاة.
في ظل دستور 1926 وصيغة نظام 1943 كما صيغة اتفاق الطائف في 1989، انتقلنا من النظام الطائفي إلى النظام المذهبي، وازداد الشرخ داخل الدولة وفي المجتمع. ونجد أنّ الدولة بكامل أجهزتها ومؤسساتها تحولت إلى شرطي وخادم لدويلات الطوائف والمذاهب التي تمكنها من امتلاك جماعاتها الطائفية امتلاكاً كاملاً من المهد إلى اللحد، فكما الإقطاعيون ملاك الأرض، كذلك أصبح أمراء الطوائف مالكي الدولة والمجتمع.
وإني أعزو هذا التطور التراجعي إلى بنية الدستور النافذ بشكل أساسي وإلى الممارسات السياسية لأهل الحكم والنظام فقط، بل أجد أنّ في بنية الدستور ما يعقّد عملية التطور الديمقراطي باتجاه دولة علمانية تصون حرية المعتقد وتوفر ذات الحقوق والواجبات لمواطنيها.
جاء في المادة 19 من الدستور وفي صلب صلاحيات المجلس الدستوري النص الآتي: «ينشأ مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين والبتّ في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية. يعود حق مراجعة هذا المجلس في ما يتعلق بمراقبة دستورية القوانين إلى كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، أو إلى عشرة أعضاء من مجلس النواب وإلى رؤساء الطوائف المعترف بها قانوناً في ما يتعلق حصراً بالأحوال الشخصية، وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية، وحرية التعليم الديني».
هنا الإشكالية الكبرى في الدستور اللبناني، إذ كيف يمكن أن تكون الدولة علمانية تقوم على مبدأ يؤكد حرية الاعتقاد المطلق ويكرّس في الوقت عينه قوانين أحوال شخصية خاضعة للمحاكم الروحية الطائفية والمذهبية، و يخلو التشريع من أي قانون مدني موحَّد للأحوال الشخصية، سواء أكان قانوناً واحداً إلزامياً أم اختيارياً؟ نحن متخلفون في التشريع أربعة آلاف سنة عن الملك سرجون الأكادي الذي أصدر عام 2343 قبل الميلاد مرسوماً ملكياً ألغى فيه جميع المحاكم الدينية واستبدل بها محاكم مدنية لتقويض سلطة الكهنة. هل جرى التمعن في قراءة شريعة حمورابي أول شريعة في التاريخ وارتكازها في أكثر من بند على الحقوق والواجبات والزواج والإرث والوصية وحقوق الفرد كاملة غير منقوصة دون أي تمييز؟ لماذا يستهول رجال الدين في بلادنا من وضع قانون مدني للأحوال الشخصية؟ لماذا ترهبون الناس من أي محاولة إصلاحية؟
هذا ما حصل عندما تقدم رئيس الجمهورية الراحل الياس الهراوي بمشروع قانون زواج مدني اختياري 1997 وصوّت عليه أكثر من ثلثي مجلس الوزراء ووضعه رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في الدرج بدلاً من أن يرفعه إلى مجلس النواب ليقره. لماذا ترهيب موقف وزيرة الداخلية ريا الحسن وتخوينه لمجرّد طرحها فكرة إجراء نقاش حول قانون مدني للأحوال الشخصية؟ لماذا يجري التصدي في كل مرة حاول فيها الحزب السوري القومي الاجتماعي أو دولة الرئيس نبيه بري وغيرهما تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية التي نصّ عليها اتفاق الطائف؟ لماذا يرسم رجال الدين خطوطاً حمراء أمام أية خطوة إصلاحية حمايةً لأيّ شخص أو مسؤول هدر المال العام أو شاب سلوكه السياسي شوائب ونكوص في الالتزام الوطني والقومي؟ من منظور المفهوم القومي الاجتماعي للدولة، نعتقد أنّ مبادئ الإصلاح التي طرحها باعث النهضة أنطون سعادة منذ تأسيس حزبه عام 1932 هي المبادئ الوحيدة التي تؤسس بناء دولة علمانية ديمقراطية لا إلتباس ولا لبس في تشريعاتها وقوانينها، وتقوم على:
مبدأ فصل الدين عن الدولة.
مبدأ منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين.
مبدأ إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب.
هذه المبادئ الثلاثة هي أقنوم واحد متكامل.
إنّ مبدأ فصل الدين عن الدولة هو كما يقول سعادة «أعظم معارك التاريخ الكبرى، وأقتبس: «إنّ معارك التحرر البشري الكبرى كانت تلك التي قامت بين مصالح الأمم ومصالح المؤسسات الدينية...»، ويضيف: «في الدولة لا فصل بينها وبين الدين نجد أنّ الحكم هو نيابة عن الله لا عن الشعب وحيث خفّ نفوذ الدين في الدولة عن هذا الغلو. نجد السلطات الدينية تحاول دائماً أن تظل سلطات مدنية ضمن الدولة». وفي مكان آخر يحسم سعادة: «إنّ الإصلاح يجب ألّا يقتصر على الوجهة السياسية، بل يجب أن يتناول الوجهة الحقوقية – القضائية أيضاً»، ذلك أنّ الأحوال القومية المدنية والحقوقية العامة لا يمكن أن تستقيم حيث القضاء متعدد أو متضارب ومقسّم على المذاهب الدينية، الأمر الذي يمنع وحدة الشرائع الضرورية لوحدة النظام. لا بدّ، للدولة القومية الاجتماعية، من وحدة قضائية، وحدة شرعية. وهذه الوحدة، التي تجعل جميع أعضاء الدولة يحسون أنهم متساوون أمام القانون الواحد، هي أمر لا غنى عنه. «ولا يمكن أن تكون لنا عقلية واحدة ونعمل بمفاهيم مختلفة متنافية مع وحدة المجتمع».
إنّ الوحدة المجتمعية الحقيقية والمواطنة الحقة الحضارية والديمقراطية الصحيحة هي بإزالة الطائفية من كل النصوص. ووضع تشريع يرسخ وحدة القضاء. وليس من سبيل لإنتاج مواطنة كاملة إلّا بإزالة كل الحواجز من أي نوع كان بين مختلف الطوائف والمذاهب. فلا يجوز أن يستمر التمويه والخداع في موضوع مفهوم الدولة المدنية بحيث إنّ فريقاً من اللبنانيين يرسي بناءها على إلغاء الطائفية السياسية فقط. ويبقى القضاء في الأحوال الشخصية قضاءً وقدراً بيد المرجعيات الدينية بحيث تصاب المواطنة في الصميم وتفقد الدولة جوهرها باعتبارها دولة المواطنين، دولة المتحد الاجتماعي، دولة الشعب الواحد. فالإصلاح لا يتجزأ، وكلما جرت المساومة على مبادئ الإصلاح الحقيقية، زادت مساحة المتاهة والضياع وبقيت مكامن العلل قائمة وعناصر التفجير جاهزة. إنّ الدولة المدنية المرتجاة إن لم تكن دولة بوصلتها علمنة الدولة، فماذا تكون، انطلاقاً من هذه القناعات الفكرية والثقافية والحضارية وفي ضوء ما مرّ من زلازل وبراكين وحروب وويلات؟
نعيد التأكيد أنّ الحل الوحيد نموذج جديد لمفهوم الهوية والانتماء والحقوق والدولة، وهو ما تضمنه برنامج الإصلاح الذي طرحه أنطون سعادة منذ عام 1947 ومع أول انتخابات نيابية جرت في لبنان في هذا البرنامج دعا إلى تمثيل نيابي وطني لا طائفي أي إلغاء الطائفية من قانون الانتخابات وأكّد أنّ النائب يمثل الأمة جمعاء خارج القيد الطائفي والمناطقي، ودعا إلى وحدة التشريع القضائي ليتحقق مجتمعياً الاختلاط والتفاعل وإنتاج وحدة حياة في المجتمع الواحد ورفض صيغة التعايش الكاذب والمخادع. إن التحرر من فكرة الأقلية والأكثرية الطائفية تقوم على مبدأ المواطنة الصافية وعلى التساوي في الحقوق و الواجبات دون أي مساومة على الولاء الوطني والقومي الجامع لوحدة الشعب وانتمائه الواحد. إن وثيقة «الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» التي صدرت عن الفاتيكان والأزهر في لقاء جمعهما في أبو ظبي في 4 شباط 2019 أكدت «أنّ الحرية حق لكل إنسان وأنّ مفهوم المواطنة يقوم بالمساواة بين الحقوق والواجبات. وأنه يجب العمل على ترسيخ المواطنة الكاملة في مجتمعاتنا والتخلي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح الأقليات وغيرها»، و هو ما أسس له في فكره الاجتماعي و الإصلاحي أنطون سعادة، وكان أول من رفض معادلة الأقليات والأكثريات وقال عام 1937: «إنّ فكرة الحكم على أساس المذهب ليكون الكل سوريين قوميين لا أكثرية إسلامية ولا أقلية مسيحية». على هذا النهج الفكري والعقائدي أكمل الحزب السوري القومي الاجتماعي دوره النهضوي والإصلاحي.
في عام 1953 وضع نائب الحزب عصام المحايري دراسة حول الدستور في الجمهورية العربية السورية طالب فيها بفصل الدين عن الدولة وعدم ذكر أي نص على دين الدولة في الدستور. وفي عام 1959 دعا نائب الحزب أسد الأشقر في المجلس النيابي اللبناني إلى إلغاء الطائفية السياسية من الدستور وإلى إعلان حرية الأحوال الشخصية وإقامة نظام مدني في البلاد. كذلك كان لرئيس الحزب الراحل إنعام رعد دور أساسي في صياغة برنامج الإصلاح السياسي للحركة الوطنية بقيادة قائد الحركة الوطنية الشهيد كمال جنبلاط. وفي عام 1997 قدّمت الكتلة القومية النيابية في مجلس النواب مشروع قانون اختياري للأحوال الشخصية، وتقدّمت أيضاً بمشروع قانون انتخابي جديد يقوم أساساً على مبدأ إلغاء الطائفية واعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة واعتماد النظام النسبي.
وفي الاتجاه عينه، تنشط كتلة نواب الحزب في مجلس الشعب السوري لإقرار تعديلات على قانون الأحوال الشخصية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 59/ لعام 1953 بالرغم مما تواجهها من صعوبات واعتراضات.
لا أجد في نهاية هذه الكلمة إلّا أن أختمها بهذا المفهوم الراقي لباعث النهضة ورائدها في المشرق أنطون سعادة، حيث كتب: «إنّ جميع السوريين القوميين الاجتماعيين يؤمنون بأنهم أبناء أمة واحدة... فهم جميعهم يريدون الجميع أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات، ويرفضون أن يكون بعض الأمة عبيداً لبعض أو عالةً على بعض، أو على رحمة تساهل البعض. إنهم يخجلون من أن يروا أحداً من أبناء أمتهم غير حر متمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية التي لهم في الدولة». إننا دعاة بناء دولة قومية علمانية حضارية، وهي سبيل التحرر السياسي والاجتماعي وتحصين وحدة المجتمع والدولة الحديثة، في لبنان وفي سائر دول الهلال السوري الخصيب، وخاصةً في الشام والعراق...
ألا يشكل الدستور الفديرالي في العراق الذي وضع تحت حراب الاحتلال الأميركي انتكاسة، وتطييفاً للدولة وفرزاً للمجتمع طائفياً وعرقياً؟
ألا تتصدى الدولة السورية لمخططات فرض دستور طوائفي على النمط العراقي أو اللبناني لإسقاط وحدة الدولة وتشويه معنى المواطنة... وخردقة الهوية السورية الجامعة تحقيقاً لمخطط الشرق الأوسط والدويلات المذهبية والعنصرية؟
دولة المواطنة الحقة ليست حاجة «لبنانية» وحسب، هي حاجة قومية في كل دوّل الهلال السوري الخصيب، وحاجة عربية في سائر بلدان العالم العربي، وهي السبيل الذي يزاوج بين حق المواطنة في الدولة المدنية الديموقراطية واحترام الدِّين ومكانته. و إن الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة لا تعني الانفصال عن الدين في شؤون الحياة والمجتمع و الأفراد.
* عضو المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الإجتماعي