كان عبد الرحمن الراشد، رئيس تحرير مجلة «المجلة» السعودية، على موعد، لإجراء مقابلة صحافية مع الرئيس المصري حسني مبارك (1). وتصادف أن كان موعد ذلك اللقاء، في قصر «الاتحادية»، غداة انقلاب 30 يونيو/ حزيران 1989، الذي أعلنه عمر حسن البشير في السودان. ووجد الصحافي السعودي الرئيس المصري، وقد اعتراه «جو غير عادي من البهجة التي لم يستطع إخفاءها»، بحسب وصف الراشد نفسه. فقد كانت أحداث السودان، واستيلاء العسكر على زمام الحكم، وإقصاء الصادق المهدي الذي اعتبره النظام المصري خصماً له، «نهايةً لمتاعب الرئيس مبارك» - والتحليل لأخينا الراشد دائماً. بدا واضحاً جداً، يومذاك، أن حسني مبارك غافل عن حقيقة الانقلاب السوداني غفلة كاملة. ولعل ضباط جهاز المخابرات المصرية، لم يفطنوا إلى الخديعة التي دبّرها حسن الترابي في الخرطوم إلا بعد أشهر كاملة. فلقد وصل المكر بالترابي حدّاً جعله يأمر أتباعه بأن يحبسوه في سجن «كوبر» ليموّه على الناس، ويصرفهم عن طبيعة انقلابه وحقيقة القائمين عليه. وفعلاً، نجحت حيلة الترابي إلى الحد الذي جعل الرئيس مبارك، وهو رجل معاد للإسلاميين، يستبشر بانقلاب البشير، ويفرح به، ويترجى الخير منه. بل إنّ مبارك ابتلع الطعم كاملاً، فقد ظنّ أن الانقلابيين السودانيين أصدقاء له، فأخذ يروّج لهم، ويتوسط عند الملك فهد ليساعدهم. وما زاد انخداع مبارك أنّ عمر البشير ورفاقه، بعد أن استولوا على المقرات السيادية في الخرطوم، وقبل أن يعلنوا خبر انقلابهم على حكومة الصادق المهدي، بادروا إلى إعلام السفارة المصرية بما فعلوه. وفرح المصريون بالانقلاب في السودان إلى درجة دفعت وكالة الأنباء المصرية الرسمية إلى أن تعلن للعالم ولادة «ثورة الإنقاذ الوطني»، قبل أن يعلن عنها البشير نفسه، بنصف ساعة! ولشدة جهل المصريين بحقيقة ما يجري في السودان، فقد حسبوا الانقلابيين زمرة من القوميين العرب. بل إنّ حسني مبارك قال لعبد الرحمن الراشد: «إن البشير وأصحابه مجموعة وطنية وقومية ليست لها أغراض». إلى هذا الحد وصل الجهل بمبارك! نعم، ولقد برهن، هو وجهاز مخابراته، بذلك عن ضياعهم الكامل في ما يتصل بشؤون جيرانهم الجنوبيين، وهم يظنون أنهم أحسن العارفين بأحوال السودان، وأخبر الناس بخباياه ومجاهله!
«فتح السودان»
لم يكن جهل الساسة المصريين بشؤون السودان أمراً جديداً، بل إنه قديم وراسخ. وهو جهل، للحقيقة، لم يطرأ في زمان مبارك خاصة، بل إنه كان سمة في المصريين، منذ أيام محمد علي باشا. ولقد اعتقد والي مصر أنه سيعثر في السودان على مناجم ضخمة من الذهب والألماس، إن هو «فتح» تلك البلاد الشاسعة. وفضلاً عن الذهب الذي دغدغ خيال محمد علي، فإن شيطانه أوعز إليه بأنّ السودان مورد لا ينضب من العبيد. وإنه يستطيع أن يجعل من أولئك السودانيين جنوداً طيّعين في جيشه، فيعوّض بهم المصريين الذين رأى أن لا حول ولا قوة لهم في الحرب، وأنهم لا يُحسنون إلا أن يكونوا فلاحين. ولقد مضى محمد علي فعلاً في مشروع «فتح» السودان أشواطاً. فبعث ابنه إسماعيل، في تموز / يوليو 1820، على رأس جيش يتألف من أربعة آلاف جندي أغلبهم من الأتراك والألبان. ولم تكن موازين القوة متكافئة بين جيش محمد علي النظامي المدجج بالأسلحة النارية، وبين مقاتلي القبائل الذين يستعملون السيوف والرماح، ليقاوموا بها غزاة اجتاحوا مواطنهم في النوبة، وكردفان، وشندي، وسنّار، ودارفور... ولعل تلك الحملة الغاشمة التي شنها والي مصر على السودانيين، من أجل احتلال بلادهم، كانت أول ضغينة في العلاقة بين الطرفين. ولم يكتفِ جنود محمد علي باستجلاب آلاف السودانيين إلى مصر ليكونوا عبيداً. ولم يكتفوا بالإسراف في البطش والفتك، بل إنهم سنّوا في بلاد السودان بدعاً لم يسبقهم إليها غيرهم. وعلى سبيل المثال، فإنّ الأمير إسماعيل بن محمد علي، قائد الحملة على السودان، أمر جنوده بعد أن انتصروا على قبائل الشايقية، في معركة كورتي، بأن يقطعوا آذان الأعداء.
«وما نرتضي أن تقدّ القناة/ ويُفصل عن مصرَ سودانُها فمصرُ الرياضُ، وسودانُها/ عيونُ الرياض، وخلجانُها

ووعد الأمير أن يمنح لكل جندي يأتيه بأذنَي سوداني مكافأة قدرها خمسون قرشاً (2). فطفق الجنود يحزّون آذان الناس لا يميّزون في صنيعهم بين ميت وحيّ، وبين محارب ومسالم، وبين رجل وأنثى، وبين كبير وصغير. ولقد أدت هذه الشنائع والقبائح بالسودانيين لكي يثوروا، فقد فُرِضَ عليهم، إضافة إلى القتل والتشويه، أن يدفعوا ضرائب باهظة على أبقارهم، وأغنامهم، وحميرهم... لا، ولم يكتفِ ابن محمد علي بذلك، بل أمر بأن يدفع السودانيون أبناءهم ليكونوا رقيقاً. وحين احتج الملك نمر، ملك الجعليين بشندي، على هذا الإجحاف، لم يتورع الباشا عن صفعه بغليونه العثماني الطويل. يومها، تظاهر نمر بأنه يقبل شروط إسماعيل، ولم يكن ذلك إلا خديعة. فما إن خيم الليل حتى وضع الجعليون القصب الجاف حول خيام الباشا وضباطه، ثم أشعلوا النيران، ووقفوا بسيوفهم يقضون على من يخترق اللهب. فقضى ابن محمد علي ومماليكه حرقاً. ولم يلبث انتقام الغزاة، فحلّ بالسودانيين بشكل وحشي. وأبيد ثلاثون ألفاً من السودانيين في عمليات ثأر واسعة النطاق(3). كان الدرس قاسياً للجميع: علم الغازي أن السوداني على طيبته ذو بأس وأنفة وحميّة، وأنه ما كان قط عبداً لأحد. وفهم أهل البلاد أن النيل لا يجلب إليهم الخير دائماً، وإنما قد يجلب لهم شرور شذّاذ الآفاق أيضاً!

كولن بونت باشا
الحق إنّ المصريين أبرياء من تلك الشنائع التي ارتُكبت بحق إخوانهم السودانيين. تلك حقيقة لا يجوز التغافل عنها. ولم يكن في جيوش محمد علي التي غزت السودان جنود مصريون أصلاً، وإنما الجند كانوا من الترك، والألبان، والبوشناق، وبعض البدو... وإنّ السودانيين أنفسهم سمّوا حملة محمد علي ضدهم «الحملة التركية». غير أنّ الرجل لمّا كان حاكم مصر وسيدها، فإن حملته، وكل ما جرى فيها من فظائع وجدت من ينسبها إلى المصريين، بغير وجه حق! ثم إنّ ظلال ذلك التاريخ الكريه ظلت ماثلة في الذاكرة الجماعية لا تمحى. وللأسف، فقد زادتها طباع التكبر والتعالي و«التشاوف» من بعض القوم ترسيخاً وإثباتاً. وأراد بعض ملوك مصر، في سكرة أمانيهم، أن يتشبهوا بملوك أوروبا في ألقابهم، وأزيائهم، ومساكنهم، وأنماط عيشهم. ومثلما أن ملوك أوروبا استولوا على مناطق شاسعة في أفريقيا، وجعلوها ملكيات خاصة لهم، فلا بأس أن يصنع ملوك مصر صنيعهم. وخطط الخديوي إسماعيل لأن يجعل من السودان مستعمرة تدرّ عليه أموالاً يباري بها ويجاري ما لدى أقرانه ملوك بلجيكا وفرنسا وإنكلترا... وبرغم أنّ السودانيين لم يكونوا أغنياء، إلا أنّ الخديوي وزبانيته جعلوا يحلبونهم حلباً! صحيح، أنّ الخديوي إسماعيل لم يصل أبداً إلى الدرك المتوحش الذي بلغه ليوبولد الثاني في الكونغو، ولكن السودانيين، لا شك، عانوا من ملك مصر وأتباعه شر المعاناة. كانت قساوة الجباة شديدة، وبعض ما يقترفه الجنود محزناً، وأمّا غطرسة حكام الأقاليم الذين استجلبهم الخديوي إلى السودان ليستنزفوا موارده، فقد كانت مقيتة إلى درجة لا تُحتمل. ومن المفارقات العجيبة أن خديوي مصر لم يجد من يستخدمهم لحكم أقاليم السودان سوى بعض المرتزقة الأوروبيين الذين أنعم على كثير منهم برتبة الباشوية، من أمثال هكس باشا، وبيكر باشا، وهوتسنر باشا، وكولن بونت باشا... وهذا الأخير لم يكن إلا ضابطاً أميركياً حارب في جيش الجنوب أثناء الحرب الأهلية في الولايات المتحدة. ثم هجر الرجل بلاده بعد أن كره الإقامة فيها، إثر خسارة الجنوبيين حربهم ضد قضية تحرير السود. وساق القدر مستر بونت إلى مصر، فاستقبله حاكمها، واستعمله ليشرف على تدريب ضباطه. ثم لم يجد الخديوي إسماعيل - يا للعجب!- من يرسله إلى السودانيين حاكماً باسمه في بعض أقاليمهم، إلا هذا الرجل الحاقد على السود، كولن بونت باشا!

«يراني دونَه، وأراه دوني»
لا عجب إذاً إن أظهر بعض السودانيين ضيقاً وريبة وتبرماً ممّن ادعوا أنهم «ملوك مصر والسودان»، فلم يجلب أولئك الملوك لهم إلا كل أفّاق أشر. ثم إنهم هم الذين أدخلوا إلى السودان الاستعمار البريطاني. ولم يدخل البريطانيون إلى السودان إلا متسترين بما خوّله لهم التاج المصري. ثم لم يلبث البريطانيون كثيراً حتى استبدوا بأمور السودان وحدهم، وأخرجوا منه، منذ عشرينيات القرن الماضي، كل نفوذ مصري، ولم يبقوا لملك مصر والسودان إلا اللقب الصوري، ليتلهى به. ومن الغرائب أن بعض باشوات مصر لم يستسيغوا أن يتفاوض السودانيون مع الإنكليز لنيل استقلال بلادهم. ولقد كان عبد الرحمن المهدي، وهو زعيم حزب الأمة، وإمام طائفة الأنصار، وأحد المنادين باستقلال السودان يرد على هذه الانتقادات ساخراً، فيقول: «عجيب أمر المصريين، يقبلون أن يفاوضوا الإنكليز، ولا يقبلون منا أن نفعل مثلهم! وإنهم يتناسون كيف جاء الإنكليزي إلينا؟ لقد جاء الإنكليزي في عربة يسوقها المصري، وتجرّها الخيول المصرية. فهل يحسن بنا أن نفاوض السائس، أم يجدر بنا أن نفاوض الخيول، أم الأفضل لنا أن نتحدث مع السيد الإنكليزي؟!». على أنّ بعض السودانيين أبدوا صراحة أكثر في التعبير عما يجيش في صدورهم. مثلاً إن رئيس وزراء السودان الأسبق محمد أحمد المحجوب، وهو من أشد الداعين إلى استقلال السودان عن مصر، كثيراً ما كان يغمز من قناة العلاقة بين المصريين والسودانيين، ويردّد أبياتاً قديمة للشاعر الجاهلي المثقّب العبدي، يقول فيها:
«لَعَمرُكَ إنّني وأَبا رِياحٍ / على طولِ التَّهاجُرِ منذ حينِ
لَيُبغِضُني وأُبغِضُهُ، وأَيضاً/ يَراني دونَهُ، وأَراهُ دوني
فَلَو أَنّا على حَجَرٍ ذُبِحنا/ جَرى الدَّمَيانِ بالخَبَرِ اليَقينِ».

رقصة صلاح سالم
ظلّ بعض المصريين يمنّون أنفسهم بأنّ السودان لهم، وأنّ السودانيين لن يقبلوا إلا بالاتحاد معهم. ولقد استمرت تلك الأوهام، حتى بعد أن أُطرِدَ الجنود المصريون من السودان في أعقاب الإنذار البريطاني لحكومة سعد زغلول، في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1924، بعد مقتل السير لي ستاك الحاكم البريطاني العام للسودان، في القاهرة. ولم تفتر أماني ملوك مصر في استعادة السودان إلى مملكتهم، طيلة النصف الأول من القرن العشرين. ولأنّ تلك المطالب لم تكن تمّت إلى الوقائع بصلة، فإنها لم تجد إلّا الألقاب تتمسح بها، أو الشعارات تتوسل بها، أو الأشعار تترنم بواسطتها. وعلى سبيل المثال، فقد دأبت إذاعة القاهرة، في أربعينيات القرن الماضي، على بث أغنية كتب كلماتها أحمد شوقي، وغنتها أم كلثوم، وتقول أبياتها:
«وما نرتضي أن تقدّ القناة/ ويُفصل عن مصرَ سودانُها
فمصرُ الرياضُ، وسودانُها/ عيونُ الرياض، وخلجانُها
وما هو ماءٌ، ولكنه/ وريد الحياة، وشريانها».
ورغم جمال كلمات شوقي، وروعة أداء أم كلثوم، وصدق معاني بعض أبيات القصيدة، فإنّ الحقيقة المؤسفة هي أنّ مصر والسودان كانا يمضيان إلى انفصال، وليس إلى اتحاد. ولقد بقي بعض المصريين متشبثين بـ «حقوقهم التاريخية» في السودان حتى بعد أن أسقطت الملكية في مصر ذاتها. وحينما بدأت المفاوضات، في 22 تشرين الأول / أكتوبر 1952، بين الجانبَين المصري والبريطاني حول المسألة السودانية، وجد الوفد المصري الذي ترأسه اللواء محمد نجيب أن مطالبه بوحدة وادي النيل تستلزم منه أن يقبل الطرف الثاني (أي السودان) بتلك الوحدة مختاراً وراغباً. وهكذا توافق الجانبان المصري والبريطاني على أن يُستفتى السودانيون في مسألة تقرير مصيرهم. وظنّ بعض الضباط المصريين أنّ بإمكانهم أن يغروا السودانيين بقبول الوحدة مع مصر. وتوهم آخرون أن محمد نجيب نفسه سيكون رجلاً مقبولاً لحكم السودان لأن أمه سودانية! وتصور أحد الضباط، وهو صلاح سالم، أنّ بإمكانه أن يكسب تأييد قبائل الدنكا في جنوب السودان، إن هو التقى بهم، ورقص في احتفالاتهم. وكذلك فعل الرجل بالضبط، إذ نشرت له الصحف صوراً، وهو يرقص شبه عار، مع رجال القبائل الزنوج! واعتقد مصريون آخرون أن بإمكانهم أن يوحّدوا صفوف أنصار مصر من السودانيين عبر بذل المال لهم، وتشكيل حزب اتحادي جديد يجمع شتاتهم. وفعلاً تشكل ذلك الحزب الذي قاده إسماعيل الأزهري، ورعاه علي المرغني زعيم الطريقة الختمية، وصرفت الحكومة المصرية على بعض السياسيين السودانين ملايين الجنيهات، وهي مبالغ ضخمة بمعايير ذلك الزمن. غير أن كل الأماني وأحلامها، والرقصات وشطحاتها، والنقود ورنينها... لم يكن لها كلها أن تصمد كثيراً يوم الامتحان، ورغم أن الاتحاديين بقيادة الأزهري هم الذين فازوا في أول انتخابات نيابية في السودان، جرت في ديسمبر/ كانون الأول 1953، إلا أن الأزهري نفسه لم يستطع أن يقاوم التطلعات الوطنية إلى الاستقلال التام، بعد أن انتُخب رئيساً للوزراء في بلاده. وفعلاً تقدم الأزهري نفسه باقتراح إعلان استقلال السودان، فحصل على إجماع أعضاء البرلمان، في الخرطوم. وفي الأول من كانون الثاني/ يناير 1956 رفع إسماعيل الأزهري، ومعه محمد أحمد المحجوب زعيم المعارضة (الذي ترنم بأبيات المثقب العبدي، أعلاه) علم الاستقلال المكوّن من الألوان الأخضر والأصفر والأزرق. وبذلك قُضي الأمر الذي كان فيه السودان ومصر يستفتيان. ولم يبق للمصريين من يعوّلون عليه في السودان سوى انقلابيي العسكر. وكان أولئك الرهط من الضباط صنفاً عجيباً من الناس يستحقون أن تُروى أخبارهم في مقالة أخرى.
*كاتب عربي

مراجع:
(1) انظر مقابلة حسني مبارك مع مجلة «المجلة» السعودية (العدد 492، بتاريخ 12 تموز/ يوليو 1989)
(2) Andrew James McGregor, A Military History of Modern Egypt: From the Ottoman Conquest to the Ramadan War, (Greenwood Publishing Group, 2006) p.72
(3) Henry Dodwell, The Founder of Modern Egypt: A Study of Muhammad 'Ali, (Cambridge University Press, Jun 9, 1931) p.52