عندما قرر حزب الله خوض المعركة بوجه الفساد القائم في الدولة اللبنانية، كان يدرك جيداً، وهو الخبير في إدارة المعارك والصراعات؛ عدداً من المسائل والعقبات التي سيواجهها، وقرّر، بناءً على التقدير الاستراتيجي الذي يعمل وفقه بشكل دائم، الولوج في هذه المعركة والحصول على المكتسبات التي يريدها والتي تصبّ في المصلحة العامة.إلا أن ما يغفل عنه البعض هو أن لحزب الله الكثير من الاعتبارات الجوهرية التي تدعوه بإلحاح الى خوض هذه المعركة في هذا التوقيت بالتحديد؛ ليس ردة فعل أو بحثاً عن مكتسبات آنية وضيقة، فالعقل العسكري الاستراتيجي الذي يسيطر على الخلفية الفكرية للحزب والأسس الأيديولوجية التي ينطلق منها لا تجعله يقوم بخطوات اعتباطية ولا إجراءات غير مدروسة بدقّة، بل يقوم بما يجده مسؤوليةً وواجباً ملقىً عليه عبر وضع خطة مبنية على تقدير موقف مدروس ومناقش على أكثر من مستوى داخل الحزب ومع الحلفاء، آخذاً بعين الاعتبار الظروف المحلية والإقليمية والدولية، بعيداً عن الألعاب الصبيانية التي يتصف بها معظم اللاعبين على الساحة اللبنانية من لعبة الزواريب والأزقة.
وبذلك عندما يتحدث الأمين العام لحزب الله عن معركة وجودية توازي المعركة بوجه المحتل، فهو يدرك جيداً أن الإنجازات والانتصارات التي حققتها المقاومة خلال العقود الثلاثة الماضية بوجه الظلم المتمثل بالاحتلال الإسرائيلي والهجوم التكفيري على المنطقة سوف تمحى آثارها وتضيع الدماء التي بذلت والتضحيات التي حصلت فيما لو استمر هذا الفساد المؤدّي إلى انهيار الاقتصاد الوطني والعودة بالبلد إلى زمن المحاور الصغيرة وعودة الأيادي المتآمرة بشتى أنواعها إلى العبث بالداخل اللبناني، الأمر الذي يؤدي إلى انهيار اجتماعي تندثر معه تجربة المقاومة وإنجازاتها على الصعد كافة، ومنها العزة والاستقلال اللذان أهدتهما إلى الشعب اللبناني.
إبان الحرب السورية، طالب كثيرون حزب الله بمحاربة الفساد وتحصين الجبهة الداخلية التي سينفرط عقدها لو استمر الأمر على ما هو عليه، وحينها فنّد السيد نصر الله ما يقوم به الحزب وتقوم به المقاومة، وقال أنا أتحمّل كل هذا العبء، فليتحمل الباقي الآخرون الموجودون العاملون على الساحة اللبنانية.
لكن من جهة؛ «الباقون» الذين تحدّث عنهم السيد نصر الله لم يتمكّنوا من فعل الكثير، ومن جهة أخرى انتهت الحرب السورية وخفّ الضغط العملاني على قيادة حزب الله، فأتت الفرصة لتنفيذ البرامج المقررة مسبقاً. وفي هذا الإطار، يعي حزب الله أن الفاسد كالمحتلّ، كلاهما ظالم ويفتقر إلى أدنى مستويات الأخلاق في المواجهة، والفاسد قد يكون أكثر خبثاً ودناءة. وكما في الحرب العسكرية، فإن أي معركة لن تخلو من إصابات وضحايا، سيكون من بينهم الأبرياء الذين تنالهم شظايا القصف العبثي القادم من شتّى الاتجاهات.
وفي هذا السياق، بدأ المتضررون من هذه المعركة اختيار محورين للمواجهة، المحور الأول هو محور حلفاء حزب الله المتهمين أيضاً بقضايا فساد، وتحميل الحزب مسؤولية تكوين غطاء لهم دون ملاحقتهم في الوقت الذي يستهدف فيه الطرف المقابل. وحزب الله ليس غافلاً عن هذه النقطة، فالملفات التي جمعها طوال السنوات الماضية تحمل الكثير من المعلومات التي تشير إلى احتمال تورط البعض من الحلفاء المنخرطين في منظومة الإدارة اللبنانية في قضايا الفساد، ولكن الأمر على خلاف ما يتم تصويره.
حزب الله لا يستهدف الفاسدين في هذه المرحلة، فقد قرر أن يختار الملفات الكبيرة التي تعود بالفائدة على الشعب اللبناني والتي يحقق فيها ضربة نوعية يعيد فيها الثقة ويستعيد الممكن من الأموال المنهوبة ويخيف عبرها الصغار الذين تصبح ملاحقتهم تضييعاً للجهود، وهو ما ينافي أصلاً جوهرياً في أصول الحرب وهو «تركيز القوى» الذي يعرفه الاستراتيجيون جيداً. ولما كان الحزب لا ينوي استهداف الفاسدين بنفسه، واختار الطريق الصحيح وهو القضاء؛ فليتّهم القضاء من يجده مجرماً ولا غطاء على أي شخص ولو كان من أهل البيت الداخلي.
ثانياً، يحدد حزب الله مواضيع تتعلق بالوحدة الداخلية والتماسك المجتمعي والتحالفات ذات الفوائد الاستراتيجية التي تفوق فائدتها استهداف رمز فاسد هنا وهناك، لذلك وبعد دراسة معمقة، اختار الطريق الذي يحتوي على أقل نسبة من الألغام التي قد تنفجر في وجهه في أي لحظة، وبدأ بملف الأحد عشر ملياراً. ولو أن الرئيس السنيورة لم يقدم على المؤتمر الصحافي الذي أجراه، لما كانت الاصطفافات التي حصلت لتحصل. لكنه أراد قطع الطريق أمام أي استمرار في ملف مكافحة الفساد لإدراكه بشكل جيد أن هذه خطوة سوف تستتبع بخطوات لاحقة لا تقل أهمية عن البداية.
المحور الآخر الذي بدأه هؤلاء في صد الهجوم هو استهداف مكامن الفساد الموجودة في البيئة الداخلية والبيئة المحيطة بالحزب. بداية، من اتهام أحد الكوادر في البقاع بملفات فساد، وصولاً إلى اختيار موضوع القضاة الشرعيين والمجلس الشيعي الأعلى، الخاصرة الرخوة التي أمكنهم الدخول من خلالها لضرب صدقية الحزب في معركته. وقد أعلن الأمين العام لحزب الله في خطابه الأخير في «الذكرى الثلاثين لهيئة دعم المقاومة الإسلامية» أن من وجد زجاجاً في بيتنا، فليرمِ زجاجنا بحجر. على أن السيد نصر الله لم يقصد أن حزب الله وبيئته ومحيطه معصومون عن الخطأ، لكن قصد أنه لا يوجد قرار بالفساد ولا غطاء للفساد، وليس هناك فساد بالمعنى الكبير الذي يؤدي إلى انهيار الدولة وضرب الأسس الاجتماعية. إنما حالات فردية لها تأثيرات على حالات فردية لا ترتقي إلى اعتبارها ظاهرة أو ذات تأثير جماعي واسع.

استهداف القضاء
بصرف النظر عن صحة الادعاءات أو كذبها بشأن القضاة الشرعيين، من الواضح أن اختيار توقيت استهدافهم ليس بريئاً وأن طريقة استهدافهم ليست صحيحة أيضاً، إذ لا يجوز وتحت أي عنوان استهداف الركن الذي يلجأ إليه الناس لرد المظالم واستحقاق الحقوق بالشكل الذي يحصل؛ لما في الأمر من ضرر قد لا يمكن معالجته في القريب العاجل، وإنه وإن كان القضاء يحتاج إلى قضاء، كما عبّر الرئيس نبيه بري، فلا يجوز استهدافه في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي لأن ذلك يؤدي إلى حصول فوضى مجتمعية وانهيار الثقة بالقضاء والبحث عن البدائل لتحصيل الحقوق؛ ومنها اللجوء إلى القوة الفردية التي تنشأ نتيجةً لها عصابات تحت عنوان تحصيل الحقوق وتنهار المنظومة العدلية في المجتمع، وتنهار معها كل فكرة محاربة الفساد التي ترتكز في ديمومتها ونجاحها على وجود القضاء. وبالتالي، على القضاء الشرعي ملاحقة كل الذين تجرّأوا على القضاة عبر السبل القانونية، أسوةً بدول متقدمة مثل إنكلترا وفرنسا.
أخيراً، تدرك الأطراف كافة أن هذه المعركة، ومن جملة أهدافها، هي مواجهة الاستهداف الاقتصادي الذي يتعرض له حزب الله من قبل الولايات المتحدة وحلفائها والتي سمّاها «معركة التجويع» وهي معركة لا تستهدف فقط الحزب، بل الشعب اللبناني بأجمعه. من هنا، تظهر أهمية معركة مكافحة الفساد كمعركة وجودية، فهي ضرب للأدوات التي يستخدمها الأميركي لمحاصرة الشعب اللبناني، ويريد بذلك التعويض عن هزائمه المتتالية في المنطقة. وعلى المعنيين وأصحاب الرأي والدراسات الالتفات إلى أن معركة الولايات المتحدة هي معركة المهزوم بوجه المنتصر وليس العكس، وأن هذه الجولة ستضاف إلى الجولات السابقة التي خرج فيها الأميركي يجرّ أذيال الخيبة والهزيمة.
*كاتب لبناني