نجد في النقاشات التي تثور دوريّاً في لبنان، حول تاريخ الحرب الأهلية وشخصياتها ورموزها، أكثر من مفارقة. من جهةٍ، على الرغم من الدور المركزي للحرب في تأسيس الواقع القائم في لبنان، ورغم مرور عقودٍ على اختتامها، فإنّ الذاكرة حول الحرب في البلد لا تزال ضبابيّة، مثقوبة، تعتمد على «روايات شعبية» و«قناعات» الأفرقاء الذين شاركوا فيها وهم اليوم يدافعون عن ماضيهم. هذا على الرغم من أنّ هذا التاريخ ليس بعيداً، وهناك كمٌّ هائلٌ من الوثائق والتوثيق والشهادات التي يمكن جمعها (من أصعب الأمور أن تقنع امرَأً أنّ روايته عن الحرب كما اختبرها هو، أو شهادة أقربائه والرواية العائلية عن الأحداث، ليست حجّةً في التأريخ، وبخاصّةٍ حين تتعارض مع مصادر متعددة ووقائع موثّقة). مع ذلك كلّه، يندر أن تجد كتاباً تحليليّاً، شمولياً، ذا قيمة صدر عن الحرب الأهلية في السنوات الماضية؛ وأغلب الكتب التي تُنشر هي من نمط المذكّرات أو الرواية الصحافية السردية، أو تلك التي تعتمد على أرشيفات وأوراق شخصيات قيادية، وتروي الأحداث من وجهة نظرهم.
«حرب أهلية» على الماضي
من جهةٍ أخرى، فإنّ «الجدال» الداخلي، على مستوى كتابة الذاكرة، يكاد يكون من جانبٍ واحد؛ وبخاصّةٍ مع تواتر المذكرات والسرديات التي تروي الحرب من وجهة نظر اليمين اللبناني، وتأخذ راحتها في التلاعب بالتاريخ والحقائق (كتاب مارون مشعلاني - الذي صدر مؤخراً - مثالاً). في المقابل، لا توجد تقريباً «رواية مخالفة» في ظلّ استنكاف أكثر مثقّفي الحركة الوطنية وقياداتها عن الدفاع عن موقفهم في الحرب، وبعضهم يفضّل أن يواجه سرديّة اليمين عبر الاعتذاريات والنقد الذاتي، والبعض قد انتقل، أصلاً، إلى «الجانب الآخر»، لو حصلت الحرب اليوم لوقف مع الكتائب. ولولا ملاحقة أسعد أبوخليل لهذه الأدبيات، لما كان هناك من يمحّص خلفها وينقدها. على الهامش، بالحديث عن قيادات الحركة الوطنيّة الذين «انتفضوا» على ماضيهم: (أنا لا مشكلة لديّ في أن يتحوّل قيادي يساري إلى سياسي يميني، أو إلى مثقّفٍ يتموّل من الغرب والخليج، فهذا خياره الفردي وهذه حياته، وأغلب هؤلاء لا يقدّم في الأحداث اليوم ولا يؤخّر. الأمر الوحيد الذي يزعجني هو أنّه في سياقٍ ما، في زمنٍ ما، كان هناك شبابٌ صادقون وفقراء، أخذوا هؤلاء الناس على محمل الجدّ، وحملوا السلاح وساروا خلفهم حتّى الموت. ماذا سيقولون لهم لو أنّهم عادوا إلى عالمنا وواجهوهم اليوم؟ هذا هو الأمر الوحيد الذي يخطر في بالي حين يمرّ ذكرهم، ولو كان لي أحبّة وأقرباء قُتلوا تحت قيادة هؤلاء، لفعلت ضدّهم ما هو أكثر من الكتابة).
ثالثاً، إنّ هذا الجدال عن الذاكرة والحرب، وإن كان لا يزال يثير العواطف والخلاف بين أولئك الذين عاصروا الحرب وشاركوا فيها وما زالوا في حالاتٍ كثيرة، وهذا طبيعي، يعيشون فيها، فإنّ هناك أكثريّةً في لبنان لا تنظر إلى الماضي بهذه الحدّة ولم ترِث أحقاد الحرب ومنطقها. الحرب انتهت في حالتي، مثلاً، قبل السنّ التي كان الشباب فيها يبدأ بحمل السلاح (وهذا أمرٌ سيّئ بالمناسبة: أن تحتلّ الحرب كامل طفولتك ثم يتصالح الجميع، مباشرةً، قبل السنّ التي يصبح للحرب فيها رونقٌ ما)؛ وأغلب من في جيلي أو أصغر ينظر إلى الحرب بين «الحركة الوطنية» و«الجبهة اللبنانية» كتاريخٍ قديم، وليس كقضية حيّة تنبض بالعداوة والثارات. هذا مردّه، بالطّبع، إلى تغيّر الأزمنة، فاليمين اللبناني لم يعد كما كان في السبعينيات، ولم يعد «مخيفاً»، ولا هو «خطرٌ» بالمعنى الذي كان عليه في الماضي. حتّى اليميني المتعصّب الذي لا زال يعيش هواجس الحرب وأحقادها، حين يستعمل اللغة «الحربية» اليوم ويستحضر الماضي ويتوعّدك ويهدّدك ويكلّمك بعنصريّة، فأنت لا تشعر بخوفٍ منه بل بإشفاقٍ عليه، وبرغبةٍ بأن تضع ذراعاً حوله وتهدّئ من روعه وتقول له «حسنٌ، كما تريد؛ ولكن اهدأ الآن قبل أن تفعل شيئاً وتؤذي نفسك».
هذا لا ينفي، بالطبع، احتمال أن تقوم قيادات على مثال سمير جعجع بـ«استعادة ماضيها» والتهوّر بشكلٍ يؤدّي إلى مآسٍ جديدة (من العادل أن نحترز من إنسانٍ فعل شيئاً أن يكرّره، وجعجع خصوصاً قد اقترب من هذه الحافة أكثر من مرّة في السنوات الماضية). وهذا يأخذنا إلى موضوعنا التالي، وهو عن دور «الذاكرة المثقوبة» في غياب المحاسبة، وضرورتها لذلك. أنا لا أقصد هنا المحاسبة الجنائية وحقوق الضحايا، فهذه قد أُغلق الباب عليها، بل المحاسبة بالمعنى السياسي البسيط، في حقّ قياداتٍ ساقت جمهورها إلى هزائم وتنازلات وتراجعاتٍ على مستوى تاريخي، ورهانات خاطئة كارثية، وهي لا تزال مبجّلةً في دفّة القيادة.

التّاريخ كأقصوصة
بالمثل، فإنّ اليسار اللبناني اليوم، حين يفسّر وضعه الحالي ويشرح ماضيه، فأنت تسمع «تفسيرات» كثيرة، بعضها أشبه بنظريات المؤامرة، ولكن قلّةً من النّاس تناقش الأسباب الجوهريّة لمسار التاريخ. كما يشرح أسعد أبو خليل في مقالٍ عن مذكّرات القيادي الشيوعي جورج البطل («الأخبار» في 26 كانون الثاني 2019)، فإنّ الحزب الشيوعي، وأكثر اليسار اللبناني، لم يكن متجهّزاً ومتحضّراً لخوض الحرب الأهلية، وأكثر الجهد العسكري تولّته الفصائل الفلسطينية. هذا له سببٌ طبقيّ، للمفارقة، وهو - يضيف أبو خليل - أنّ اليسار اللبناني لم يكن «حركةً شعبية» بالمعنى الذي كانته حركات يسارية أخرى حول العالم، أو الأحزاب الإسلامية التي أخذت مواقع اليسار فيما بعد. هذه كانت، أساساً، أحزابٌ يقودها أساتذة ومثقفون وموظفون، أي «بورجوازية صغيرة» بالتعبير الماركسي. من هنا كانت سياسة «اليسار الرسمي» اللبناني، بحسب أبو خليل، تشبهه: ليبراليّة، و«إصلاحية»، تريد النفاذ إلى النظام وحجز مكانٍ فيه، وليس قلبَه أو تثويره. من هنا «تفاجأ» الكثير من هذه التنظيمات بنشوب الحرب، وهي - بطبيعتها وبتكوينها - لم تكن قادرةً على تأسيس وقيادة «جيشٍ شعبي» وإن أرادت ذلك.
الأمر المثير هنا هو أنّه، على المقلب الآخر، كان اليمين اللبناني - «المسيحي» - يبني، وبشكلٍ تصاعديّ مع تقدّم سنوات الحرب، ما هو أقرب إلى «الحركة الشعبية»، وينجح بشكلٍ كبيرٍ في تحشيد وتنظيم وتسييس جمهوره - وتسليحه. حتّى نبسّط: حين اندلعت الحرب، بدلاً من أن تجد عائلات شمعون والجميّل وغيرهما (ومعها العائلات التي تسيطر على الاقتصاد والبنوك) نفسها وحيدةً أمام عصيانٍ عسكريّ، فقد وجدت «الحركة الوطنية» أمامها جمهوراً معبّأً ومسلّحاً ومن المستحيل اختراقه. الحركة الشعبية، التي تتجذّر في المجتمع وتمتلك مكاناً في الذاكرة الشعبية وتحوز غالبية ضمن كتلة تاريخية... إلخ. الحركة الشعبية الحقيقية لا يمكن أن «تُسرق»، ولا هي «تختفي» فجأةً (حتّى وإن ألمّت بها هزائم)، وهي لا يمكن أن تخسر - مثلاً - مواقعها في طول البلد وعرضه بمجرّد خروج حركة «فتح» من المعادلة.
من هنا، هناك تفسيرٌ لا يكفّ زياد الرحباني عن ترداده لتفسير ضمور اليسار وانحساره. يقول الرحباني ما معناه أنّ الجمهور الشعبي ينفر ولديه «نقزة» من تعابيرٍ مثل «الشيوعيّة» و«اليسار»، وأنّه يوازي بينها وبين الإلحاد، وهو ما يحول بين اليسار والنّاس. أي إنّك تحتاج إلى تغيير العنوان و«التغليف»، حتّى تلتفّ على هذه «العقدة» الشعبية ويصبح اليسار جماهيرياً. أنا لن أقول إن هذا الكلام تبسيطي وفوقي ويلخّص الكثير عن نظرة اليسار العربي إلى شعبه، بل سأقول إنّه من الغريب فعلاً أنّ هذه الجماهير ذاتها، حين كانت أكثر فقراً وحرماناً وجهلاً، لم تكن لديها «نقزة»، وكان شبابها ينضمّ بأعدادٍ كبيرة إلى أحزاب اليسار، وكان مستعدّاً لتحدّي أهله وتقاليده، بل ودينه. من جهةٍ أخرى، من الغريب أكثر أن نقفز إلى تفاسير استشراقية وثقافويّة ولا نضع في الاعتبار أموراً «مادية» مباشرة: الخيارات والرهانات والقرارات الحقيقية التي سار عليها اليسار، والهزائم التي نتجت عنها، أو حتّى أن نسمع مراجعةً للتحالف الذيلي مع عرفات كسببٍ من هذه الأسباب (بعد كلّ ما جرى، وبعد كلّ ما تسبب به ياسر عرفات في حقّ فلسطين ولبنان - ما زال تعبير «اليسار» كلمة سيئة في أجزاء واسعة من لبنان بتأثير تلك المرحلة - لا ينفكّ الكثير من اليساريين اللبنانيين عن التعبير عن حبّهم لأبي عمّار، كأنّه رمزٌ يخصّهم، وعن «حنينهم» لمرحلته؛ تماماً على طريقة العرب الذين يحبّون صدّام حسين). المشكلة هي أنّ من لا يفهم تاريخه ويتصالح معه، بصدقٍ وشفافيّة ومن غير عقد، لا يمكن أن يبني شيئاً للمستقبل.

ذاكرة المقاومة
في دراسةٍ أكاديمية عن «الربيع العربي» (أعتقد أنّها لباتريك هيغنز) يتمّ عرض منهجيّةٍ مثيرة لقراءة التاريخ السياسي في حالة «دول ما بعد الاستعمار». الفكرة هي أنّك حين تقوم بـ«جردةٍ» لتاريخ الدولة الوطنية والعقود الماضية التي مرّت على بلادنا، فإنّ الناتج هو ليس فقط النّظام السياسي وبطانته الفاسدة وكلّ المشاكل والتحديات التي نغوص فيها. سواء في الجزائر أو في ليبيا أو سورية أو غيرها، إنّ التّاريخ يختزن أيضاً «مكاسب» تمّ تحقيقها لصالح الشعوب في هذه المرحلة الماضية: الاستقلال، السيادة، تعليم مجّاني، مؤسسات عامّة، دعم الغذاء... إلخ. مهما كانت هذه «المكاسب» هزيلة وقليلة وناقصة، فهي الموجود؛ وأنت لا يمكن أن تنطلق، بالمعنى التاريخي، من صفحةٍ بيضاء. فوق ذلك، فإنّ هذه «المكاسب»، كلّها، قد جاءت ثماراً لنضالٍ شعبيّ حصل في الماضي، وتضحياتٍ وقتالٍ خاضه الفقراء، قبل أن تنقلب الأنظمة على جماهيرها أو تتكلّس. من هنا، فإنّه لا يمكن رمي التاريخ بأكمله من النافذة و«أن نبدأ من جديد»، كما يتصوّر البعض. من المفترض أن يكون هدف أي حركة ثوريّة هو صيانة هذه المكاسب ومضاعفتها والبناء عليها. و«الثّورة» التي تريد محو هذه المكتسبات، أو تضحّي بها رخيصةً في سبيل إسقاط النظام، فهي لا تضيّع تاريخ شعبها ونضالاته فحسب، بل هي أقرب إلى ثورة مضادّة.
في لبنان، نحن لم نراكم منذ الاستقلال كثيراً من «المكاسب»، وهذا يعود أساساً إلى ضعف الحركات الشعبية والثورية في لبنان، البلد الأكثر رجعيّة خارج الخليج، لم تمسّه فعلياً دورة اليسار ولا دورة الانقلابات ولا حتّى «إصلاح» حقيقي منذ الخمسينيات. حتى المؤسسات القليلة التي تمّ بناؤها للشعب، مثل التعليم الرسمي والجامعة الوطنية، جرى تجويفها وإفسادها وتحطيم مستواها منذ نهاية الحرب، بدلاً من الاستثمار فيها. الأمر العجيب هنا هو أنّنا قد نجحنا، في الآن ذاته، بمراكمة دينٍ عامٍ هائل - من دون توزيعٍ أو استثمار أو بناء مؤسسات (في تصديقٍ لمقولة أنّه، في غياب اشتراكية للفقراء، فإن النظام سينحو صوب «اشتراكية للأغنياء»، توزّع الدخل من تحت إلى فوق).
التحرير والمقاومة هما «المكسب الوحيد» الذي حصّلناه بالمعنى التاريخي في هذا الوطن. هو التجربة اليتيمة التي تنظّم فيها لبنانيون، وعملوا جماعياً، وحققوا نجاحاً وإنجازاً يحقّ لهم أن يفخروا به، وهم يرون نتائجه حولهم في كلّ يوم. حصيلة تراكمٍ وتضحيات دامت لأكثر من جيلين. المسألة هنا ليست «نظريّة»، هناك أرضٌ تحرّرت، أهلها عادوا إليها، وقوّةٌ تحميهم في وجه العدوّ وتمدّهم بالثقة وبأسباب الحريّة. مرّ أكثر من عقدٍ منذ الحرب الأخيرة، وهي أطول فترة استقرارٍ متّصلٍ عرفها جنوب لبنان منذ أكثر من نصف قرن. في هذه الأثناء بُنيت بيوت كثيرة، وعادت قرى إلى الحياة، ونشأ جيلٌ كاملٌ وشبّ، يتنظّم أيضاً ويتدرّب للدفاع عن أرضه حين تحين السّاعة، ومن يعش على الحدود ليست لديه أوهام. هو يرى عدوّه في كلّ يوم. النّاس هناك يعرفون أنّ الحرب قادمة، وأنها ستكون مكلفةً وقد يضطرون إلى إعادة البناء من جديد. ولكنّهم - في ما يشبه الإجماع - مستعدّون لدفع ثمن الصمود حين يستحقّ، لأنّهم يعرفون جيّداً ما هو البديل وقد اختبروا مرارته طويلاً. هذا التّراث، بالطّبع، هو ملكٌ لأي لبناني يريد أن يتشارك فيه، ولكني تعلّمت أنّه ليس في وسعك أن تأخذ أحداً بالجبر، ولو إلى الجنّة (ما عليك فعله هو أن تضمن أن لا يمنعك أنت من دخولها). لهذه الأسباب، لا يجب أن يستغرب الإعلامي أو السياسي أن لا يكون النّاس لطفاء معه حين يستهدف هذه المقاومة وهذا التراث تحديداً، من بين كلّ ما هو خطأ وظالم في لبنان.
بالطّبع، لو كانت هناك وجاهةٌ ما في سرديّة أعداء المقاومة منذ عام 2005، أي أنّه يكفي أن نسمح بضرب المقاومة وتجريدها من سلاحها حتّى تقوم «14 آذار» بإصلاح البلد وإنهاء الفساد وبناء «دولة القانون»، لكان في المسألة نظر. ولكننا نعرف جميعاً ماذا يحصل حين تصل هذه العائلات إلى سدّة الحكم والسّلطة. والبديل «الشبابي والحداثي» الذي يخرج من صفوف المنظّمات والطبقة الوسطى و«النخبة الثقافية» - والكثير منهم من مجايليّ وأعرفه جيّداً - أثبت، على حدّ قول جمال غصن، في السنوات القليلة الماضية ماذا يفعل بأبسط قدرٍ من السّلطة حين يستقرّ بين يديه، وكم لديه من مناعة أمام أيّ إغراء. حين تراقب كيف يوزّع المنافع على بعضه البعض، ويوظّف أصدقاءه، ويندمج في منظومة الترويج المتبادل، تفهم أنّه أثبت - وهو في بداية الطريق - أنه لا يقلّ فساداً عن أي عائلة سياسية لبنانية تقليديّة.
لا أعتقد أنّه من الحكيم أن نراهن على «إصلاحية» النظام اللبناني، بمعنى أنّه عاجزٌ بنيوياً عن الإصلاح من ناحية، وأنّنا قد تأخّرنا عن هذا النوع من الجهود من ناحية ثانية (وحين يكون فؤاد السنيورة قادراً على الخروج، بالفم الملآن، ليدافع عن الأداء المالي لحكوماته، ويجد كتلةً شعبية وسياسية تقف معه وتدافع عنه، فهذا يعني أنه لا أمل في محاسبةٍ قريبة عبر هذه السبل. ومن سيحاسب أصلاً؟ النظام القضائي؟ مجلس النواب؟). جلّ ما نقوله هو أنّه، حين نعدّ «الجردة التاريخية»، يجب أن نتذكّر ما يستحقّ أن نحفظه وأن نراكم عليه، وإن لم يكن في ذاته كافياً. هنا مسألة لا يفهمها العديد من أصدقائي، حين يكون «وطن المقاومة» ضعيفاً خارجها، وكلّ شيءٍ لا يدعو إلى الأمل، بل وتبدأ برؤية بذور الهزيمة من حولك. المسألة في العلاقة مع مقاومة شعبك هي أنّ المقاومة، حتى نستعير بتصرّفٍ من ماو، ليست «حفلة» تدعى إليها، فتستطلع إن كان الجوّ يناسبك والطّعام على ذائقتك، وإن كنت تنسجم مع المدعوّين. دعم المقاومة هو واجب تاريخيّ؛ وحين يكون الثمن رمزيّاً ومادياً ويتعلّق بصورة الإنسان و«برستيجه»، فهذا لا شيء أمام الثمن الذي دفعه من بنى هذا التراث وضحّى في سبيله، وأعطاك تحريراً وذاكرة.