طريفة كانت إطلالة فؤاد السنيورة الأخيرة في مؤتمر صحافي عقده في دار الصحافة. قدّمَهُ عوني الكعكي الذي قرأ كلمة جعلكَ تتأكّد أنّ وصوله إلى منصب النقيب لم يكن عن طريق غير فاسد. لكن الكعكي حسمَ موضوعَ المؤتمر قبل بدئه، إذ انه في مقدّمته رفضَ النيل من "إسلام" فؤاد السنيورة. لكن مَن شكّك بإسلام السنيورة ومن كفّره؟ على العكس، لقد واظبَ الرئيس المؤمن ــــ على طريقة أنور السادات ــــ السنيورة على الصلاة في السرايا الحكومية أثناء اشتداد الأزمة السياسيّة عليه، وهو استدعى ذات مرّة مفتي الجمهوريّة كي يؤازره في تُقاه وورعِه، وليس لشدّ العصب الطائفي لمُحبّيه. والسنيورة، أكثر من غيره، مدينٌ للاحتقان الطائفي والمذهبي في استمراره السياسي. وإعلان الكعكي قطعَ الطريق بإعلانه الحرب الدينيّة ضد خصوم السنيورة الذين ــــ حسب الكعكي ــــ أردواً استهداف دينه الحنيف.والسنيورة عرفَ مقامَه. جلس بجانب الكعكي مزهوّاً بمقدّمته وذمَّ الصحافة الصفراء ــــ وذمّها فيما هو جالس إلى جانب الكعكي الذي يمثّل أفضل ما في الإعلام اللبناني والعربي نظراً الى ما تتمتّع به جريدة "الشرق" من رصانة ولما تتمتّع به "نادين" من إعلاء لشأن المرأة العاملة. والسنيورة كان في سنوات الحريريّة أكثر شخصيّة مكروهة في لبنان، وخصوصاً في بيروت حيث كانت الشتائم تنطلق من أفواه الناس بمجرّد ذكر اسمه. لكن صورة السنيورة تغيّرت بعدما أعلن الفريق الحريري في لبنان الحرب المذهبيّة جهاراً، وبأمر سعودي، بعد اغتيال الحريري (كان رفيق الحريري الأب متحفّزاً دوماً لإعلان الحرب المذهبيّة، لكنه كان يفعل ذلك بالتلميح لا بالتصريح نظراً الى ارتباطاته الإقليميّة المتضاربة الطوائف والأهواء). وعندما أصبح السنيورة رمزاً للسنيّة الُمستهدفة، تحوّل من رمز للجشع الرأسمالي والحرب على الفقراء إلى منقذٍ للطائفة من ضلال الشيعة وغيّهم.
(هيثم الموسوي)

والسنيورة بدأ مؤتمره بالنشيد الوطني، واللوذ بالوطنيّة، كما قال صاموئيل جونسون في القرن التاسع عشر، هو الملاذ الأخير لـ...السنيورة، كما أن شاشة الحريري ربطت بين السنيورة والطائفة والسنيورة بنفسه ــــ وبتواضع شديد ــــ أكّد أن الحملة لا تستهدفه هو، بل هي تستهدف رفيق الحريري والمجموعة التي يمثّل. أما مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة، فقد حسمَ النقاش بوضعه خطاً أحمر حول السنيورة. والخطوط الحمر ــــ عندما تكون طائفيّة مذهبيّة ــــ تردعُ المنتقدين وتجمّد الحملات وتغيّر السيرة. وقد اطمأنّ السنيورة إلى وقع تصريح المفتي وطار في جولة مع رفيقه في نادي "رجال الدولة"، أمين الجميّل، الذي هو أيضاً في سنوات حكمه كان منزّهاً عن الفساد والإفساد، وأعطى صورة ناصعة عن الحكم الرشيد. لكن مؤتمر السنيورة سرعان ما هوى بعد المؤتمر الصحافي المحكم لآلان بيفاني الذي دحضَ أكاذيب السنيورة وأوضح ما كنّا نعرفه: إن فريق العبور إلى الدولة (الطائفيّة) كان يأتي بفريق من خارج طاقم موظّفي الدولة، وخارج عن رقابة أجهزة الدولة، كي يتحكّم بمفاصل الحكم في الوزارات. كان يُقال إن للحريري دولة ظلّ، خارج الدولة الحقيقيّة. لكن هؤلاء الذين مانعوا بناء الدولة بعد الطائف لم يروا من خطر على الدولة إلا من الذين حموا الكيان برمّته من عدوان واحتلال إسرائيل. بيفاني هو يمثّل بيروقراطيّة الدولة الفيبريّة، فيما يمثّل السنيورة وصحبه الانقلاب على الدولة وأجهزة من أجل تنفيذ مشاريع سياسيّة مرتبطة بالخارج، ومن أجل كنز الثروات لمصلحة المنفّذين.
يُخطئ مَن يظنّ أن هناك معركة جديّة ضد الفساد في لبنان، لا من طرف حزب الله ولا من طرف خصوم حزب الله. ويُخطئ أكثر مَن يظنّ أن معوقات القضاء على الفساد هي الطائفيّة فقط. أصبحت المعركة ضد الفساد موضة يدرج على شّنها السياسيّون، الجدد منهم والعريقون على حدٍّ سواء. المشكلة في المعركة ضد الفساد في لبنان متشعّبة، لكن كثرة الحديث عنها مرتبطة بنتائج الانتخابات النيابيّة التي أقلقت أكثر من طرف.

لكن ما هو الفساد؟
لا يمكن القضاء على الفساد من دون تعريفه، ولا يمكن ملاحقة ومعاقبة الفاسد من دون آليّة قضائيّة ــــ قانونيّة لذلك. أن ينبري هذا النائب أو ذاك لحمل لواء مشعل محاربة الفساد لا يحقّق مكسباً في المعركة الوهميّة. لكن ما هو الفساد؟ كيف يمكن محاربة الفساد من دون وضع تعريف قانوني ــــ دستوري له؟ على أي معيار يصنّف سياسي ما آخر بأنه فاسد؟ السنيورة في مؤتمره الصحافي مطَّ في تعريف الفساد وشطَّ كي يجعله مجرّد إشارة إلى مواقف سياسيّة لا تتوافق مع السعوديّة: عيّرَ السلاح غير الشرعي على أنه فسادٌ لأن تعريف السنيورة للمقاومة يحصرها بتجربة ثكنة مرجعيون. يريدون تعميم التجربة: هي بديلهم من سلاح المقاومة. وجعل الفساد كل شيء، كما جعل تعريف المقاومة عند ١٤ آذار يشمل كل لبنان، أي أن جعجع والسنيورة مقاومة، يميّع في تعريف الفساد كي تضيع الحقيقة وتتشوّش الرؤية ويسهل ردّ تهم الفساد عن الفاسدين من الفريق السياسي النافذ.
تعريف الفساد يختلف بين دولة وأخرى وبين عالِم في الإدارة العامّة وآخر. التعريفات الأكاديميّة الغربيّة تميل حكماً إلى النظم الرأسماليّة، فيصبح الفساد مجرّد مخالفة القانون بصرف النظر إذا كان القانون جائراً أو لا. ومكافحة الفساد على طريقة الغرب ونصائح البنك الدولي تصرّ على تقليل إنفاق الحكومة والقضاء على برامج مكافحة الفساد لأن القطاع الخاص يتكفّل برعاية الفقراء والمعوزين. والغرب يريدون أن يتولّى هو وضع برامج مكافحة الفساد، ولهذا استعانت حكومة لبنان بشركة "ماكنزي"، فيما شركة "ماكنزي" هي متهمة بالفساد في أميركا، وصدر حكم هنا بتغريمها ملايين الدولارات لمخالفتها القانون.
يُخطئ مَن يظنّ بأن هناك معركة جديّة ضد الفساد في لبنان، لا من طرف حزب الله ولا من طرف خصوم حزب الله


وتصنيفات تراتبية الفساد حول العالم التي تعدّها منظمة "الشفافية الدوليّة"، وتتناقلها بحماسة واقتناع وسائل الإعلام العربي، لا تمتّ إلى العلمية وتفتقر إلى القطعيّة التي يفترضها الشباب العربي عنها. وهذه التصنيفات تعتمد على انطباعات الناس من خلال استطلاعات الرأي العام. ولهذا، فإن مرتبة الدول الاستبداديّة مثل السعوديّة (صاحبة الرقم القياسي في أكبر رشوة في التاريخ من قبل بندر بن سلطان في صفقة "اليمامة") تتقدّم على دول أقل فساداً، لكن أكثر انفتاحاً. ولبنان، الذي يستحق مرتبة متدنية في الفساد، يحتل مرتبة متدنية جدّاً لأن الناس أكثر قدرة على التعبير بحريّة عن انطباعها عن الفساد. التعريفات الغربيّة تركّز على المخالفات الصغيرة، فيما تبقى المخالفات الأكبر من دون أهميّة.
إن النظام الرأسمالي هو نفسه فاسد، لكن أدبيّات الفساد لا تتحدّث عن ذلك إلا لماماً. النظام الرأسمالي يُشرعن الفساد الأكبر ويجرِّم الفساد الأصغر، وهذا نراه في لبنان. في لبنان، يتحدّث الناس عن الفساد على مستوى موظّف مرتشٍ، لكن مراكمة رفيق الحريري لمليارات من الدولارات، أو تحوّل فؤاد السنيورة من موظّف إداري إلى صاحب ملايين لا يخضع لتعريف الفساد الكلاسيكي. إن هندسات رياض سلامة الماليّة هي الفساد بعينه، لكنها قانونيّة. والفساد القانوني هو الذي يبدّد أموال الناس أكثر من الفساد غير القانوني ــــ على انتشار الفساد الأخير في لبنان. واستيلاء وليّ العهد السعودي على مليارات أولاد عمومته أو شراؤه يختاً بنصف مليار دولار واقتناؤه قصوراً ولوحات فنيّة نفيسة ليس فساداً لأن إنفاقه قانوني بحكم القانون السعودي. هذا فساد لا تعترض عليه دول الغرب، فيما تعترض حكومة سويسرا على فقدان بعض الرشاشات الحربيّة التي منحتها للبنان.
وتحذّر أدبيّات دول الغرب (كما تعليمات "سيدر") من الفساد، وتقول إنه يحرِم الدول النامية من استثمارات غربيّة ضروريّة. لكن لم يكن ذلك حالة موبوتو سيسي سيكو في الكونغو (الذي استولى عليها بإرادة أميركيّة وغيّرَ اسمها إلى زائير). حالة موبوتو هي نموذج عن الفساد المحمود أميركيّاً، مثل فساد شاه إيران. حكمَ موبوتو زائير بين عاميْ ١٩٦٥ و١٩٩٧، واستولى بحسب تحقيق رسمي من قبل الأمم المتحدة على ٥ مليارات دولار، وهذه السرقة تماثل سرقات لماركوس في الفيليبين وسوهارتو في أندونيسيا وأباتشا في نيجيريا (والجامع بينهم هم تحالفهم مع حكومات الغرب، حتى أباتشا حظي بحماية من إدارات أميركيّة). لم يأتِ موبوتو إلى السلطة إلا بتنصيب من الاستخبارات الأميركيّة التي أرادت إقصاء وقتل باتريس لومومبا، صاحب مشروع توحيد أفريقيا (كما عارضت أميركا توحيد العالم العربي عارضت توحيد القارة الأفريقيّة). سرقات موبوتو كانت من المساعدات الأميركيّة له ومن البنوك الأوروبيّة وصندوق النقد الدولي. كان معدّل المال الغربي الذي تدفّق له نحو ٣٣١ مليون دولار في السنة الواحدة (راجع ميشيلا رونغ، "على خطى السيّد كيرتز، العيش على حافّة الكارثة في كونغو موبوتو"، ص ١٩٥ ـــ ٢٠٠). بدّدَ موبوتو ٩,٣ مليارات من المساعدات الخارجيّة. وكانت دول الغرب تغدق المال على موبوتو، فيما كانت تندّد بالفساد في دول معادية للمشيئة الأميركيّة.
الفساد الذي تسمح به الديموقراطيّات الرأسماليّة، بما فيها لبنان، هو قدرة المصالح الخاصّة على التأثير وشراء الصلة وصنع القرار في نظام سياسي ما. وهذا التأثير يكون بواسطة غير مباشرة (شراء سياسيّين) أو أن يصبح صاحب المال سياسيّاً وصانع قرار، مثلما حال أصحاب المليارات في لبنان، أو أن يتحوّل السياسي (وخصوصاً الذين قادوا ميليشيات) إلى صاحب ثروات ويستطيع في منصبه أن يخدم مصالحه الخاصّة (هذا ما يتحدّث عنه ألبير منصور دوماً عن تحوّل الميليشيات العسكريّة إلى ميليشيات ماليّة). هذه لا ترد في حسبان معايير الفساد في لبنان. وهذا التعريف الأوسع للفساد يمنع حصر الفساد بالمخالفات القانونيّة لأن النافذين يشرّعون قانونيّة الفساد الملائم لهم. وقوانين الإنفاق الانتخابي، إن في لبنان أو في أميركا هي عنوان أكبر للفساد المستشري في النظام السياسي والذي يحصر التمثيل الانتخابي بفئة طبقيّة معيّنة. وأميركا لم تحارب الفساد المالي في السياسة (كان رئيس مجلس النوّاب الأميركي، سام ريبرن، يحتفظ بنقود في درج مكتبه كي يوزّعها على النوّاب للتأثير على اقتراعهم على مشاريع القوانين)، إلا بعد حقبة نيكسون، والكثير من تلك الإصلاخات تبخّر لأن المحكمة الدستوريّة هنا رفعت سقف الإنفاق من قبل أفراد لمصلحة أحزاب (أنفق الصهيوني شيلدون أدلسون نحو ١٠٠ مليون دولار في الانتخابات النصفيّة الأخيرة).
وللفساد في لبنان راعٍ خارجي، وهو لن يسمح بإمرار قوانين للقضاء عليه. إن الانتخابات النيابيّة، في البلدان العربيّة التي تسمح بها، مثل لبنان وتونس، ليست إلا أكثر من ساحة للصراع بين مليارات أصحاب الثروات بالترافق مع إنفاق خبيث لدول الغرب ودول الخليج (وإيران أحياناً) من أجل التأثير على نتائج الانتخابات. إن المطالبة برفع السريّة المصرفيّة (من قبل "التيّار الوطني الحر") هو مطلب منطقي، لكن لن تسمح به أميركا. إن أميركا كانت وراء إمرار قانون السريّة المصرفيّة في لبنان في ١٩٥٦ (كان ريمون إدّه آنذاك مدماكاً في المحور الغربي الرجعي)، وكان ذلك مطلباً أميركيّاً من أجل ضخّ المال الخليجي والغربي لمحاربة جمال عبد الناصر والشيوعيّة ولأجل ستر تمويل أعمال الاستخبارات الغربيّة والتأثير على الانتخابات النيابيّة. السريّة المصرفيّة اليوم هي مؤاتية للحكومة الأميركيّة لأنها لا تسري عليها: يستطيع موظّف غير رفيع في وزارة الخزانة الأميركيّة أن يتصل برياض سلامة ويسأله عن حساب أي كان من اللبنانيّين. السريّة المصرفيّة تسري على غير أميركا.
الفساد هو ساحة تسمح لدول الغرب بالتوغّل في المجتمعات العربيّة، وهي لا تريد شفافية تكشف تمويلها لجمعيّات وأحزاب ومنظمّات تختفي وراء شعارات الألفيّة الثالثة. والحكومة السعوديّة تشتري حكّاماً ونّواباً ووزراء ورجال دين في كل العالم العربي. وكشف السريّة المصرفيّة قد يعرّض أعمال تلك الحكومة لمساءلة أو مقاضاة في بعض الأحيان. إن السلطات الدينيّة في لبنان وفي العالم العربي تحظى بتمويل خليجي للتأثير على أهوائها، ولذلك تحوّل السلطات الدينيّة باتجاه أكثر رجعيّة وتخلّفاً ومعاداة للمرأة منذ صعود الحقبة السعوديّة. ومكافحة الفساد لا يمكن أن تنجح من دون أن تسري على فساد السلطات الدينيّة التي تتلقّى المال من الدولة ومن دول أجنبيّة من دون رقيب.

ما يجري في لبنان الآن
يتنطّح عدد من النوّاب اليوم لمكافحة الفساد. النائب حسن فضل الله يتولّى الملف بالنيابة عن حزبه. لكن فضل الله لم يشرح بعد ما حلَّ بملف الإنترنت غير الشرعي، والذي وردَ أنه قد يكون مرتبطاً بمصالح إسرائيليّة عدوّة؟ هو وعدَ بملاحقة الملف حتى النهاية، لكن في تعليق أخير له قال إنه لا شأنَ له بالملف لأنه في عهدة القضاء. لكن هذا الجواب لا يكفي. إن عبارة "الملف بات في عهدة القضاء" باتت تعني تجميد الموضوع وإقفاله. وإذا كان الملف الذي تحدّث عنه فضل الله قد تجمّد في حوزة القضاء، فهذا دليل على فساد قضائي يحتاج هو إلى أن يتابعه لأنه لا قدرة للشخص العادي على متابعته. وفضل الله كما غيره يتحدّثون عن فساد في ملفّات حصلوا عليها. لكن من الضروري في حالات كهذه، وخصوصاً لأن الفريق الحريري النافذ ينجح في تحويل كل قضيّة إلى قضيّة طائفيّة ومذهبيّة، أن يصرّحَ النائب عن مصدر الملف كي يستطيع المواطن أن يحكم على صدقيّة الملف وعلى دوافع النائب. وهناك طروحات فولكلوريّة عن الفساد، مثل استعراضات وائل أبو فاعور في إقفال كشك فلافل، في الوقت الذي كانت فيه شركات الأدوية تمارس احتكارها وجورها على الشعب اللبناني من دون محاسبة من الوزير (يُراجع في هذا الشأن كتاب إسماعيل سكريّة، الرقيب الأوّل على الصحّة العامّة وعلى فساد القطاع الصحّي في لبنان، "الصحّة... حق وكرامة"). ونائبة جديدة، لم تشرح بعد للشعب اللبناني ظروف سفرها إلى السعوديّة للتغطية على خطف سعد الحريري واحتجازه وضربه، باتت هي حجّة في الفساد والشفافيّة، لكنها أفتت بأن السنيورة تقاعدَ (أي لا ضرورة لمحاسبته) وأن سعد الحريري ــــ رئيس الحكومة، مغلوب على أمره، وأن القوّات اللبنانيّة (التي راكمت ثروتها بالخوّات والسرقة والتهريب والتشبيح) نزيهة. حسب بولا يعقوبيان، ليس من فاسدين في لبنان إلا جبران باسيل. وسامي الجميّل يمكن أن يساهم في مكافحة الفساد لو بدأ بعهد أبيه وحقبة عمّه في بيروت الشرقيّة.

لا يمكن القضاء على الفساد من دون تعريفه، ولا يمكن ملاحقة ومعاقبة الفساد من دون آليّة قضائيّة ــ قانونيّة لذلك


لا، لن تسمح الحكومة الأميركيّة بمكافحة الفساد، هذا على افتراض أن النيّة ستخلص عند الزعماء لمكافحة الفساد (وليد جنبلاط، معذور في إهمال الموضوع، إذ إنه يتابع موضوع القاعة الزجاجيّة لوزارة السياحة، إضافة إلى مناقشته همّ تحرير فلسطين وإرث عبد الناصر مع ديفيد ساترفيلد وديفيد هيل). الحكومة الأميركيّة تحتاج إلى الفساد، وخصوصا في القطاع الخاص المتحالف مع المشروع المناهض للمقاومة، كما أنها ترعى عدداً لا عدَّ له وحصر من الجمعيّات غير الحكوميّة (بـ"غير الحكوميّة"، تقصد الدول الأوروبيّة وأميركا غير الحكومات المحليّة، كأنها هي ليست "حكومات"). ولا حساب أو مساءلة للجمعيّات ووسائل الإعلام المرعيّة غربيّاً، وقد كتب في ذلك قبل أيّام الزميل محمد نزّال. و"أوراق بنما" نموذج لاستخدام الحكومة الأميركيّة مصادر معلوماتها الاستخباريّة لرميها ضد أعدائها، وقد أُجمع اليوم على أن هذه "الأوراق" كانت ردّاً أميركيّاً على روسيا وعلى ما تسرّبَ من "ويكيليكس" وأحرجها وأحرج حلفاءها. أميركا ستكافح الفساد عند أعدائها وستستغلّه ضدّهم، وهذا يجب أن يكون حافزاً عند القوى المناهضة لأميركا في المنطقة كي تنظّف صفوفها لأنه ما من موضوع يشغل الناس إلا وتنجح أميركا في استغلاله أحسن استغلال. ولأن موضوع الفساد بات همّاً شبابيّاً، فإن أميركا ستنشط فيه لنشر فسادها وتقويض فساد أعدائها وقوتهم. ثم لنفترض أن هناك إثباتاً على ضلوع فؤاد السنيورة في ملفّات فساد، وأن دار الإفتاء قد قرّرت إزالة خطوطه الحمر حوله: هل هناك مَن يظنّ بأن الحكومة الأميركيّة أو الحكومات الغربيّة ــــ حتى لا نتحدّث عن الخليجيّة ــــ يمكن أن تسمح بالنيل من السنيورة؟ لو حدث ذلك، يمكن توقّع عقد اجتماع لمجلس الأمن وإصدار عقوبات ضد لبنان.
لو أن لبنان أراد مكافحة الفساد فلا يمكنه الاعتماد على الوسائل والأدوات العاديّة الموجودة. النوّاب يصرّحون عن أموالهم لـ"المجلس الدستوري"، فيقوم المجلس بإيداعها في خزنة من دون أن يفتحها. أي أن الطقس لا جدوى له ولا قيمة. وقرارات المجلس هي مثل مجلس الوزراء، كل عضو يتبع الزعيم الذي أتى به. والمدعي العام المالي يتلقّى إخبارات وبيانات على الهواء وتحته على مدار الساعة، ولا نسمع بملاحقة أو نتيجة ــــ أو ليس بعد. وهل يستطيع المدعي العام المالي أو القاضي أن يصدر قراراً يخالف مصلحة الزعيم الذي زكّاه؟ إنها حلقة مفرغة. والقاضي ينتمي إلى طائفة، وعندما تشدّ الطائفة عصبها، تعرف كيف تقاضي شارعيّا وكيف تكافئ. هل من قضاة من خارج الطوائف؟
يحتاج لبنان إلى محكمة خاصّة لمحاكمة الفساد، وإلى هيئة خاصّة تقوم بعملها من التحقيق إلى الادعاء إلى المحاكمة بصورة مستقلّة غير تابعة للأجهزة التقليدية. لكن مِن أين تأتي بأفراد لا ينتمون إلى النظام السياسي والطائفي ولا يحتاجون إلى تزكية زعيم طائفي؟ يمكن لو تم تعيين هؤلاء فقط من صف الحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي، لكن هل يقبل الزعماء بذلك؟ هناك فكرة انتخابهم كما يجري في بعض الولايات في أميركا، لكن انتخاب القاضي يجعله مستقلاّ عن الزعيم (نظريّاً)، لكنه يصبح عبداً لأهواء الرأي العام ــــ وهو طائفي في بلد مثل لبنان. أي أن محاكمة الفساد مستحيلة في لبنان. ربما تقتضي مكافحة مكافحة الفساد، عندما يغزو بلادنا من القارة الأميركيّة والأوروبيّة.
هذا النظام الطائفي الذي يغذّي ويتغذّى ديالكتيكيّاً من الطائفيّة في المجتمع لا يحتمل محاربة الفساد. إن محاربة الفساد، أو بعض منه، تحتّم ردماً وطمراً للنظام السياسي برمّته. وهذا من المستحيلات لأن هناك مستفيدين ــــ محليّين وخارجيّين، إذ إن الطائفيّة هي باب عبور للتدخّل الخارجي منذ القرن التاسع عشر ــــ من الطائفيّة. قد يكون الحلّ بالتوقّف عن إشهار الحرب ضد الفساد وإعلان الهدنة معها، بانتظار زوال الطائفيّة والمذهبيّة ــــ في قرن آخر، أو ألفيّة أخرى.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)